مفهوم الإرهاب من وجهة نظر إسلاميّة
معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية ـ
علي يوسف:
بات مفهوم “الإرهاب”، راهناً، أكثر أمثلة التمويه الإعلامي انتشاراً لتغيير الناس من الكفاح العادل والمشروع ضد الاحتلال والطغيان والعدوان أو التهديد به.
من المؤكد أنّ أكثر الناس استهدافاً بعمليات التمويه هذه هم المستضعفون في الأرض، أفراداً وجماعات وشعوباً، ما يجعل التخلص من آثار هذا التمويه وما قد يولّده من وعي زائف، حتى لدى بعض هؤلاء المستضعفين، من المهمات التي ينبغي أن تحظى بإهتمام المعنيين بالحق والحقيقة. وتشكيل الوعي على أساسها، ليكون هذا الوعي مرشداً للمواقف السليمة تجاه الكثير من قضايا عالمنا المعاصر.
Ι في مفهوم الإرهاب
تحت هذا العنوان نتناول الإرهاب في مضمونه اللغوي والاصطلاحي، والتمييز بين الإرهاب والمقاومة والممانعة، ومفهوم الإرهاب من وجهة نظر الدين الإسلامي.
الإرهاب في مفهومه اللغوي
الإرهاب مصدر الفعل الرباعي أرهب المزيد من الفعل الثلاثي رَهِبَ (بالكسر) برهَب رَهْبة ورُهباً (بالضم) ورَهَباً (بالتحريك) أي خاف، ورهِبَ الشيء رَهْباً ورَهْبَةً: خافه. والرهبة الخوف والفزع، أرهبه رهّبه واسترهبه: أخافه وفزّعه، وترهّب الرجل إذاً صار راهباً يخشى الله[1].
إذا عدنا إلى المعنى الذي اكتسبه هذا اللفظ في التداول القائم حالياً، فإنّنا نلاحظ أنّ الرهبة وما يحمل معناها ويقارب لفظها (الرُّهْب والرهَب) لم تعد تعني مجرد الخوف، وإنّما الخوف الشديد الذي يقارب الهلع أو الرعب، والفرق بين المعنيين ليس مجرد فرق كمّي وإنّما هو فرق نوعي أيضاً: فالخوف، مجرد الخوف هو شعور sentiment بخطر ما والتأهب لمواجهته أو تلافيه بصورة هادئة وعقلانية. بينما الرهبة في التداول القائم حالياً هي انفعال émotion يتجلى في صفة عاطفية مربكة لمختلف القوى الإدراكية ومانعة عن التفكير الهادئ والتأهّب العقلاني لمواجهة الخطر المحدق أو المتصوّر وتلافيه، ما يجعل ردود الفعل غير منسّقة أو غير متّسقة. وبالتالي غير قادرة على تحقيق هدفها بصورة مضمونة.
وهكذا نجدنا أمام معنيينلغويين، كلاهما قابل للتداول أي الرهبة بمعنى الخوف العادي، والرهبة بمعنى الرعب والهلع. وعلى هذا فالرهبة يمكن أن تعرف بأنّها شعور داخلي ذاتي بالخوف، أو انفعال داخلي وذاتي أيضاً بالرعب والهلع من شيء أو وضع أو حدث منذر بنوع من الخطر القائم أو المحتمل. ولا يختلف الارهاب عن الرهبة، إلا بأنّه فعل خارجي يقوم به فاعل بوعي وبتخطيط، بهدف إحداث الخوف العادي، أو الهلع والرعب، الداخلي والذاتي لدى الشخص أو الجهة المستهدفة بالإرهاب.
هذا في اللغة العربية، أمّا في اللغة الفرنسية مثلاً فلفظة terrorisme (تيرّوريسم) التي تترجم إلى اللغة العربية بلفظة الإرهاب تقتصر على المعنى القائم في التداول حالياً أي إحداث الهلع والرعب لدى جهة مستهدَفة، وكذا الأمر في اللغة الإنجليزية بالنسبة للفظة terrorism.
نخلص من كلّ ذلك إلى أنّ الإرهاب بمفهومه اللغوي هو فعل خارجي لفرد أو جماعة أو دولة واعٍ ومنسّق وهادف إلى إحداث الرعب والهلع لدى مستهدَف سواء كان هذا المستهدف فرداً أو جماعة أو دولة.
الإرهاب في مفهومه الإصطلاحي
تعرف موسوعة السياسة الإرهاب بالصورة التالية: “استخدام العنف – غير القانوني – (أو التهديد به) بأشكاله المختلفة كالإغتيال والتشويه والتعذيب والتخريب والنسف. بغية تحقيق هدف سياسي معين مثل كسر روح المقاومة والالتزام عند الأفراد وهدم المعنويات عند الهيئات والمؤسسات أو كوسيلة الحصول على معلومات أو مال؛ وبشكل عام استخدام الإكراه لإخضاع طرف مناوئ لمشيئة الجهة الإرهابية”[2].
أمّا المعجم الموسوعي الصادر عن دار هاشيت للنشر في فرنسا فيعرف الإرهاب:
تاريخيًّا: اسم أطلق على حكومة الإرهاب في المرحلة التي تلت سقوطها*.
تداوليًّا: استخدام ممنهج للعنف (هجمات، تخريب، سلب، إلخ) تلجأ إليه بعض المنظمات السياسية لتحقيق أهدافها. وعنف الدولة: لجوء ممنهج إلى تدابير إستثنائية وإلى أعمال عنف من قبل حكومة ضد أناس واقعين ضمن إدارتها، وبمعنى أوسع ضد سكان دولة عدوة.
وصفياً: موقف تخويف وتفريغ وعدم تسامح في نمط للسلوك والتفكير خاص بثقافة معينة[3].
هذان التعريفان يستدعيان الملاحظات التالية:
– يعتبر التعريف الأول أنّ المائز الرئيسي للإرهاب هو “الإستخدام غير القانوني للعنف”. وهو مفهوم غائم لأنّه يصلح للدلالة على استعمال العنف المشروع لمواجهة ظلم أو بغي (المقاومة) وعلى العنف غير المشروع لتحقيق أهداف خاصة بمن يمارسه، بعيداً عن مراعاة أي معيار من معايير الحق والعدل الإنسانيّة بصيغها العقلائية والدينية والعرفية… إلخ. وهذا ما ينبغي القيام به لتحديد مفهوم واضح ومميز للإرهاب.
– لا يميز بوضوح، كما يفعل التعريف الثاني، بين إرهاب المنظمات السياسية وإرهاب الدولة.
التعريف الثاني يوحي وكأنّ الإرهاب كمفهوم قد دخل التداول في المرحلة التي تلت سقوط حكومة الإرهاب في فرنسا. هذا مع أنّ الإرهاب كممارسة لا سيّما من قبل الحكومات قد لازم نشوء الجماعات البشرية واجتماعاتها السياسية المختلفة.
كلام المعنى الثالث للتعريف الثاني عن أنماط من الثقافة تتسم بالترهيب والتخويف وعدم التسامح يفضي إلى القول بأنّ الإرهاب سمة لثقافات وشعوب والتمسك بالسلام والتسامح سمة لثقافات وشعوب أخرى. وهذا ما يخشى معه تناسي الأسباب الحقيقيّة لظاهرة الإرهاب التي سنعود إلى الكلام عليها عند كلامنا على عوامل الإرهاب.
الإرهاب والمقاومة محاولة تمييز
لكي لا يكون العنف مقاومة مشروعة، لا إرهاباً مداناً، ينبغي أن يراعي الأمور التالية:
– أن يكون الهدف من ممارسة العنف عادلاً، ولا يكون كذلك إلا إذا كان دفعاً لظلم أو إبعاداً لبغي أو تخلّصاً من استبداد. وفي هذه الحالات يكون العنف الذي يمارسه المظلوم، ردّ فعل تسوفه المعايير الإنسانيّة بصيغها العقلائيّة والدينيّة والأخلاقيّة والعرفيّة.
– أن لا تكون الأساليب السلمية السياسيّة (الإحتجاج، الإضراب، التظاهر، العصيان المدني…) متاحة أو مباحة، أو أن تكون متاحة ومباحة ولكنها غير محققة لأهدافها في رفع الظلم أو دفع البغي الذي تمارسه حكومة دولة من الدول ضد شعبها بفعل إصدارها على سلوكها وامتلاكها القوة الكافية لمتابعة سلوكها. والأمر لا يختلف عندما يكون الظلم والبغي موجّهاً من حكومة دولة ما، ضد شعب آخر، (إحتلال، معاهدات مجحفة، نهب الخيرات المادية…) أو حكومة أخرى، ويتمّ اللجوء إلى الوسائل السلمية والسياسية، بما فيها الشكوى إلى المنظمات الدولية وفي مقدّمتها مجلس الأمن، ولا تجدي هذه الأساليب نفعاً في رفع الظلم أو دفع البغي، بفعل علاقات ومصالح دولية لا صلة لها بمعايير الحق والعدل.
– أن يكون الأسلوب متوافقاً مع الهدف في مشروعيته وعدالته وأخلاقيته: فيوازن بين ما يلحقه من أذى وما يسعى إلى إلحاقه بالخصم (مع اعتبار التفاوت الهائل في الإمكانات بين الباغي والمبغي عليه نرى أنّ أذى الباغي يظلّ أكبر وأقسى…) ويسعى ما أمكن إلى تركيز الأذى على المؤذي نفسه أي الحكومة الباغية بمؤسساتها وأجهزتها لا سيّما الأمنية والعسكرية منها، وعدم اللجوء إلى الإقتصاص من مدنيين إلا في مقابل البغي على مدنيين.
فإذا تجاوز العنف واحداً أو أكثر من هذه الشروط كان إرهاباً، وإذا التزم بها في الحدود الممكنة كان مقاومة.
كان هذا التمييز، في ما نقدر، ضرورياً، لأنّ إعلام قوى الإستكبار والهيمنة والإستحواذ وفي مقدمتها الإدارة الأميركية والكيان الصهيوني ومن يدور في فلكهما من القوى الدولية تعمل لخلط المفاهيم كسبيل لتزييف الوعي والتضليل فتعتبر حركات مثل حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي حركات إرهابية على الرغم من عدالة أهدافها وأخلاقيّة أساليبها في الكفاح بينما تعتبر كل أشكال العدوان والبغي الأميركي والصهيوني نوعاً من الحرب الإستباقية أو الوقائيّة ونوعاً من الكفاح ضد الإرهاب، وكذلك تعتبر القوى الداعمة قوى شر ينبغي محاصرتها ومعاقبتها سواءً كانت دولاً أو جماعات أو أفراداً. وكل هذه أمور معاشة تكتوي بنارها، ما يعني عن إيراد الوقائع الملموسة لتأكيدها.
مفهوم الإرهاب من وجهة نظر إسلاميّة
مفهوم الإرهاب من وجهة نظر إسلاميّة مقروءاً في ما ورد حوله من آيات قرآنية هو نوع من جهوزية القوة لإرهاب الخصم ومنعه من نقض العهود، إذا كان معاهداً، وزجره عن العدوان إذا كان محارباً، ودفع كليهما إلى الجنوح للسلم وصولاً إلى تغليب سنّة التعارف على سنّة التدافع في إقامة العلاقات بين الإجتماعات السياسية المختلفة، وبين الجماعات المختلفة في اجتماع سياسي واحد.
ورد مفهوم الإرهاب بصيغة الفعل المضارع سورة الأنفال في الآية التالية: “وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تُظلمون”[4].
لكن هذه الآية جاءت في سياق آيات أخرى، تتحدث تبعاً لقول المفسّرين، عن علاقة المسلمين، ممثّلين بقيادة الرسول (ص) مع اليهود، الذين عاهدوهم، وأدخلوهم في مكونات الإجتماع السياسي الذي أنشأوه في المدينة في ما ورد في الصحيفة، أو الكتاب، أو الدستور الذي وصفه الرسول (ص) لنظم العلاقة بين قبائل المدينة من المسلمين ومن اليهود ومن جاورهم من قبائل وارتضى الدخول في عهد النبي محمد (ص). هذه الآيات هي:
“الذين عاهدت منهم ثمّ ينقضون عهدهم في كلّ مرة وهم لا يتّقون فإمّا تثقفنّهم في الحرب فشرّد بهم من خلفهم لعلّهم يذّكّرون. وإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين. ولا تحسبنّ الذين كفروا سبقوا، إنّهم لا يعجزون. وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة… وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكّل على الله إنّه هو السميع العليم”[5].
في هذا السياق يظهر بوضوح أنّ دعوة المسلمين لإعداد ما يستطيعون من قوّة ومن رباط الخيل إنّما يستهدف إرهاب عدوّ الله وعدوّهم لكي لا يقدّم على نقض العهود إذا كان معاهدين، ويترددوا في الإقدام على الحرب إذا كان محارباً. سواءً في ذلك المعروف منهم وغير المعروف.
الهدف إذان من إعداد القوة، وما يمكن أن ينتج عنها من إرهابٍ لمن يضمر للمسلمين شراً، هو هدف وقائي، نوع من الإحتياط الضروري والواجب الذي يتوخّى منع الخصم من الإقدام على نقض العهد أو اللجوء إلى الحرب، وبالتالي فهو إعداد يرمي إلى الحفاظ على السلم أو العلاقات السلمية، وليس لشنّ الحرب إبتداءً، بهدف إخضاع الخصم أو السيطرة على مقدراته، كما هي الحال في الحرب الوقائية أو الوقائية أو الإستباقية التي تلجأ إليها قوى الإستكبار والإستحواذ المعاصرة المعاصرة لإجبار الدول والشعوب على الخضوع لسياساتها الباغية والظالمة.
وإذا لم ينفع الإرهاب الناجم عن إعداد القوة، في تحقيق النتائج المرجوّة وأقدم الخصم على الحرب بنقض العهد أو بالعدوان كان المسلمون جاهزين للمواجهة ومنتظرين للنصر من الله، لأنّ النصر يظلّ غير مضمون من دون توفيقه، جل وعلا.
ويتّضح هذا المعنى بصورة لا تقبل اللبس بالعودة إلى السياق الذي سبق الآية المعنية وما تلاها: فما سبقها خطاب للرسول (ص) يأمره بممارسة الشدّة على ناقضي العهد معه في كلّ مرة. دون اتّقاء لنتائج هذا النقض علّ من خلفهم يتذكّر مثل هذه النتائج فلا يفعل ما فعلوه ويكفون أنفسهم ويكفون المؤمنين شر القتال، ولكن إذا ظهر من هؤلاء ما يشي بخيانتهم بهدنة أبرموها مع الرسول (ص) وينذر بنقضها بصورة مرجّحة، كان على الرسول (ص) أن ينذرهم بنقض الهدنة، فلا يقدم على مواجهتهم إلا بعد إنذارهم بالأمر ليتساووا معه في الإستعداد ولكن إذا جنح هؤلاء أو غيرهم للسلم فإنّ الله جلّ وعلا يأمر الرسول بالجنوح لها في ما تنصّ عليه الآية الأخيرة من الآيات التي أوردناها كسياق لآية وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل…
في القرآن الكريم آيات أخرى يرد فيها الكلام على الرهبة (وليس الإرهاب) بصيغة الفعل المضارع: “ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربّهم يرهبون”[6] أو بصيغة الأمر “يا بني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم وإيّاي فارهبون”[7]. أو بصيغة المصدر: “إنّهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً”[8]. والرهبة في كلّ هذه الآيات تعني الخوف من الله وما أعدّه من عذاب في اليوم الآخر لمن يتعدّى حدوده التي رسمتها رسالات الهدى السماوية التي أوصى بها سبحانه، إلى أنبيائه ورسله، لا سيّما رسالة الهدى الخاتمة التي أوصى بها إلى رسوله الخاتم محمد بن عبدالله (ص).
ومن الواضح أنّ هذه الرهبة مشروطة بالإيمان بالله واليوم الآخر، فإذا تحقق هذا الشرط، على نحو اليقين المعرفي، والارتباط القلبي، والتصميم على الإلتزام بمقتضيات هذا الإرتباط وذاك اليقين، آتت الرهبة أكلها على صورة تقوى من كلّ ما يمكن أن يتعدّى حدود الله، وابتغاءً لوجه الله في كلّ قول أو فعل، وانعكس كل ذلك في تزكية للنفس وتقويم للسلوك يفضي إلى سلام ذاتي داخلي بين قوى المرء الإدراكية وقواه النزوعية، وفي سلام إجتماعي بين أفراد المجتمع وجماعاته. وهكذا نرى أنّ هذه الرهبة من الله، تهدف إلى ردع المرء عن اقتراف ما يسخط الله، شأنها في ذلك شأن الرهبة الناشئة عن توفّر القوة لدى إجتماع سياسي بصورة كافية لردع إجتماعات سياسية أخرى عن نقض عهودها معه أو التفكير بشنّ عدوان عليها، أو التخالف مع أعداء سافرين له، وفي الحالين يكون الهدف كما قلنا سابقاً، تغليب سنّة التعارف بين الأفراد والجماعات والاجتماعات السياسيّة على سنّة التدافع، أو تغليب النزوع إلى السلام على النزوع إلى الحرب.
حتى مبدأ القتال وتشريعاته المختلفة في الإسلام إنّما يهدف إلى تحقيق هذا الهدف البعيد أو الغاية: فالقتال، حسب القرآن الكريم يؤذن به ردّاً على ظلم أو بغي “أذن للذين يقاتلون بأنّهم ظلموا وإنّ الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلا أن يقولوا ربّنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقويّ عزيز”[9]. أمّا من لم يقاتلوا من المسلمين في دينهم ولم يخرجوا من ديارهم فعلى المسلمين أن يبروهم ويقسطوا إليهم “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الذين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله لا يحبّ المقسطين”[10].
أمّا من قام بينهم وبين المسلمين عهد، فعلى المسلمين أن يوفوا لهم بعهودهم، “وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً”[11].
وحتى المشركين الذين أقاموا هدنة مع المسلمين ولم ينقصوهم شيئاً ولم يظاهروا عليهم، يكون على المسلمين إتمام مدّة الهدنة أو العهد، أو أن يستقيم المسلمون معهم ما استقاموا للمسلمين: “إلا الذين عاهدتم من المشركين ثمّ لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتمّوا إليهم عهدهم إلى مدّتهم إنّ الله يحبّ المتّقين”[12].
“كيف يكون للمشركين عهد إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إنّ الله يحبّ المتّقين”[13].
والخلاصة أنّ إعداد القوة من قبل المسلمين لإرهاب عدوّ راهن أو محتمل إنّما يهدف، في النهاية، إلى زجره عن نقض عهوده ومواثيقه مع المسلمين، أو ردعه عن شنّ حرب أو التحالف مع أعداء سافرين لمظاهرتهم على المسلمين، فإذا أجبر المسلمون على القتال دفعاً لظلم لحق بهم أو بغي مورس عليهم فإنّ الهدف الأخير الذي ينبغي لهم أن يسعوا إليه، استجابة لأمر الله هو إقامة علاقات قائمة على اتفاقات ومعاهدات متكافئة وعادلة من شأنها إرساء السلام والتعاون بين الأقوام والشعوب، وتغليب سنّة التعارف، كما أشرنا سابقاً على سنّة التدافع في العلاقات بين البشر. وينطبق ذلك على قتال الفئة الباغية من المسلمين في ما تنصّ عليه الآية: “وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إنّ الله يحبّ المقسطين”[14].
وإلى ذلك فالقرآن يلحّ على العدل والقسط لا في تعاطي المسلمين بعضهم مع بعض كأفراد وكجماعات فحسب وإنّما في تعاطيهم مع خصومهم أيضاً حتى لو كانوا شانئين لهم وكارهين “ولا يجرمّنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، إعدلوا هو أقرب للنقوى واتّقوا الله”[15]، وحتى لو كان العدل ماسًّا بالنفس أو الوالدين أو الأقريبن “يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين… فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا…”[16] “وإذا حكتم بين الناس أن تحكموا بالعدل…”[17].
ما يجعل العدل والقسط، كما ينبغي، حاكماً على مختلف أنواع علاقاتهم الداخلية والخارجية، أي في معاملاتهم وسياساتهم.
ومعيار العدل والقسط هذا ينطبق بصورة كاملة على الجهاد. فالقرآن الكريم إذ يحثّ المؤمنين على الجهاد فإنّه يقرنه بسبيل الله، لكي لا يكون جهاداً في سبيل منفعة أو كسب أو انتقام بل في سبيل جعل كلمة الله في العدل والقسط هي العليا، وكلمة الذين ظلموا هي السفلى.
والآيات والأحاديث الشريفة المؤكدة لهذا المعنى يفيض بها القرآن وكتب الحديث. ومراجعتها والتأمل فيها وتدبّرها تظهر بوضوح مستوى الظلم الذي يلحق بالإسلام عندما يعتبره البعض داعياً إلى العنف وبالتالي دين إرهاب وعدوان.
قد يقول البعض ولكنّ هذا هو المثال، فأين هو الواقع في تاريخ المسلمين في حاضرهم من هذا المثال؟
إعتراض وجيه، سنفرد للردّ عليه، فقرة في نهاية البحث، لأنّه سيتكرر عند عرضنا لهذا المثال كلّما تناولنا عنواناً من عناوين البحث التالية.
П في عوامل الإرهاب
إذا كان الكلام على الإرهاب والإهتمام به حديثاً، فإنّ ممارسة الإرهاب قديمة قدم الإجتماعات السياسيّة، إن فلم نقل قدم الإنسان نفسه. وفي الكلام على عوامل الإرهاب نميز بين إرهاب الدولة وإرهاب الحركات السياسية.
إرهاب الدولة
إنّ أول أشكال الإرهاب وأكثرها عنفاً وتنظيماً هي الأشكال التي مارسها الممسكون بالسلطة السياسيّة ضدّ من يمكن ان ينافسوهم عليها. وعامل هذا الإرهاب هو الحفاظ على السلطة ومكاسبها مقروءة بمعيار المصلحة الدنيوية والقضاء على كل من يمكن أن يهدّد هذه المصلحة حتى لو كان إبناً أو أخاً أو قريباً. والوقائع الدالّة على هذا المعنى إنّما تزدحم بها كتب التاريخ والسير:فالإغتيال والقتل ضرباً والصلب، وسمل العيون لإبادات جماعية… كانت بعض وسائل الإرهاب السلطوي. هذا الإرهاب لم يقتصر على الإجتماعات السياسيّة القديمة، بل إمتدّ إلى الإجتماعات السياسيّة الحديثة: والفرق بينهما ينحصر في أنّ الأول كان يتمّ بإسم مصلحة الحاكم وأمّا الثاني فيتمّ بإسم مصلحة الشعب، وأنّ الأول غير مقنن غالباً بنزوات الحكام متّخذة شكل إرادات سامية، وأمّا الثاني فمقنّن بدساتير وشرائع توصف بأنّها معبّرة عن الصالح العام والخير المشترك لا للشعب المعني فحسب، وإنّما للشعوب الأخرى، شعوب المستعمرات ومناطق النفوذ أيضاً.
يمتاز إرهاب الدولة قديمه وحديثه، بأنّه إرهاب إبتدائي، فعل وليس ردّ فعل، (إلا إذا اعتبر احتمال قيام المناوئين بعمل ما فعلاً). ومع ذلك يتّخذ إرهاب الدولة الحديث أشكالاً ومجالاً مختلفة تبعاً لكون الدولة قوية ومتبوعة أو ضعيفة وتابعة:
فعندما تكون الدولة قوية ومتبوعة، تمارس إرهاباً على الخارج بصورة غالبة، بينما لا تمارسه في الداخل إلا نادراً، وإذا مارسته فإنّها تمارسه عبر تطبيق القوانين المرعية الإجراء، وخير مثال على ذلك تصرّف الدول الإستعمارية القوية في مستعمراتها ومناطق نفوذها ضد حركات التحرّر، بقواها الخاصّة، في مرحلة الإستعمار المباشر، أو بقوى دولة محلية تابعة لنفوذها في مرحلة الاستعمار غير المباشر، إرهاب شاه إيران وإرهاب الكثير من أنظمة العالم الثالث. ومع ذلك لم ينذر قيام الكثير من هذه الدول بممارسة إرهابها في الداخل وضدّ شعوبها بالذات وما زال العالم يذكر أسماء لامعة في هذا المجال (استالين، هتلر، موسوليني، فرانكو…).
ومن اللافت بصورة صارخة في موضوع إرهاب الدولة أنّ أكثر الدول إدّعاءً للديمقراطية وحقوق الإنسان والدعوة لهما هي أكثر الدول ادّعاءً للديمقراطية وحقوق الإنسان والدعوة لهما هي أكثر الدول ممارسةً للإرهاب ضدّ الخارج، لا سيّما عندما تعجز أدواتها المحلّيّة عن تحقيق أغراضها السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة…
والإدارة الأميركيّة والحكومة الصهيونيّة متعاونتين ومتكاملتين في ما بينهما ومع دول الاستكبار والإستحواذ، تقدّمان نموذجاً فذّاً في دلالته وفظّاً في ممارساته لما نشير إليه.
إرهاب الحركات السياسيّة
شهد النصف الثاني من القرن العشرين الكثير من الحركات الثوريّة التي وصفت بأنّها إرهابية مثل الألوية الحمراء، وجماعة بادرماينهوف والجيش الأحمر الياباني، وأيلول الأسود… وقبلها حركات الإرهاب الصهيوني من قبل شيرن والهاغانا وغيرها التي سبقت ومهّدت لإنشاء الدولة الصهيونيّة والتي حلّت محلّها الدولة نفسها في ممارسة الإرهاب ضد عرب فلسطين، وضد الدول العربية المجاورة[18].
ومؤخّراً ظهرت حركات إسلاميّة من مثل حركة التكفير والهجرة، وحركة طالبان، ومنظمة القاعدة، وإليها تضيف الأدبيات السياسيّة الغربيّة حركات حزب الله، وحماس والجهاد الإسلامي، وحركات المقاومة ضدّ الإحتلال الأميركي في العراق. وبات شعار الحرب على الإرهاب الذي ترفعه الإدارة الأميركيّة والكيان الصهيوني وتجاريها في ذلك العديد من الدول الإستكباريّة والأحزاب السياسيّة ووسائل الإعلام… موجّهاً ضد هذه الحركات بالذات. ومن دون أيّ تمييز في ما بينها. ما جعل لفظ الإرهاب يستدعي في ذهن السامع هذه الحركات بالذات، وبالتلازم يستدعي وصف الإسلام بأنّه دين إرهابي. وهذا بفضل الإعلام الإستكباري المتبع نهج غوبلز الهتلري المنفذ لشعار: “اكذب ثمّ اكذب ثمّ اكذب لا بدّ أن يصدق الناس أخيراً.”
عوامل هذا الصنف من الإرهاب
إنّ عامل هذا الصنف من الإرهاب هو الظلم والبغي وما يمكن أن يولّده من شعور بالسخط على الجهة الظالمة والباغية، وعدم توفّر الوسائل المشروعة لرفعه أو دفعه، أو توفّرها وعدم فاعليتها في تحقيق الهدف… بحيث لا يبقى أمام المظلوم أو المبغي عليه غير الهجرة أو الإعداد للمواجهة.
الشروط التي ينبغي توفرها لقيام هذا الصنف من الإرهاب تعود إلى:
1 – واقع أن الإنسان، سواء بوصفه فرداً أم جماعة أم اجتماعاً سياسياً، قد يكون ضحية ظلم أو بغي، ولكنه لا يدرك أن ما يتعرّض له هو كذلك، بسبب نقص في الوعي لحقوقه في إطار المجتمع الذي ينتسب إليه، وفي هذه الحالة لا يولد الظلم أو البغي، ما ينبغي أن يولده من سخط على الظالم أو الباغي..
2 – قد يتوفر الوعي، وبالتالي الشعور بالسخط، ولكن المجتمع يوفر وسائل لرفع الظلم ودفع البغي باللجوء إلى وسائل مشروعة لدفع: الاحتجاج، الإضراب، التظاهر، الدعاية وتكتيل الجماهير الواسعة. وتنتفي بذلك الحاجة إلى استعمال وسائل العنف، إلا إذا أثبتت هذه الوسائل عدم فاعليتها أو عجزها عن تحقيق الهدف منها.
هذا في حالة الظلم الداخلي، أما في حالة الظلم الخارجي (بغي اجتماع سياسي على آخر)، فقد توفر القوانين والمؤسسات والمحاكم الدولية وسائل لدفع الظلم: الشكوى إلى مجلس الأمن، أو إلى محكمة دولية مختصة. أو… أو … فتنتفي الحاجة إلى استعمال وسائل العنف إلا إذا أثبتت هذه الوسائل عدم فاعليتها أو تحيزها للظالم الباغي على غيره، وعدم اكتراثها لوضع المظلوم.
3 – قد تتوفر كل شروط رد الفعل الذاتية (السابقة الذكر) بالنسبة للمظلوم، لكن لا تتوفر الشروط الموضوعية اللازمة لرد الفعل فيكون على المظلوم إما أن يصبر ويتحين الفرص لتوفير هذه الشروط، وإما أن يستسلم لليأس، أو أن يهاجر.
عندما تتوفر شروط رد الفعل فإن طبيعته تختلف تبعاً للظروف الملموسة وما تقدّمه من إمكانات: ففي الاجتماعات السياسية التقليدية، وفي الاجتماعات السياسية الاستبدادية الحديثة لا يكون هناك مجال للتعبير عن رد الفعل إلا بعمل سري يفضي إلى ممارسة اغتيالات، أو القيام بانقلاب عسكري، أو ثورة شعبية تصبح علنية بعد أن يقوى عودها.
مهما يكن من أمر، فإن ردود الفعل على الظلم والبغي إما أن تكون عادلة، فتكون مقاومة مشروعة، وإما أن تكون ظالمة فتكون إرهاباً (أشرنا سابقاً إلى التمييز بين المقاومة والإرهاب).
ما تقدّم يوضح أن بالإمكان إرجاع الإرهاب إلى عاملين هما: استبداد الأقوياء بالضعفاء ومثله الأبرز استبداد السلطة السياسية لشعبها وأحياناً بشعوب أخرى. ورد الفعل غير العادل من قبل من يقع عليهم الاستبداد.
ولكن هذين العاملين يعودان في نهاية التحليل إلى عامل أبعد. هو عامل نفسي ناشئ عن التعلق بالدنيا وزينتها، واستسلام القوى الإدراكية لهذا التعلق وتوظيف إمكاناتها في خدمته، ما يؤدّي إلى اختلال في تراتب القوى النفسية: فبدل أن تحتل القوى الإدراكية وفي مقدّمتها العقل، الموقع القيادي والتوجيهي والإرشادي، للقوى النزوعية، أي لمجمل الميول الفطرية وما ينشأ عنها من رغبات، بحيث يتم ضبطها وضبط إشباعها بموازين العقل، وبدلاً من ذلك تحتل القوى النزوعية هذا الموقع وتحوِّل القوى الإدراكية إلى خادم لها عامل على إشباعها والإسراف في ذلك إلى درجة تعمي البصيرة عن أي قيمة إنسانية قد تحد من هذا الإسراف.
في هذه الحالة، تتعملق القوى النزوعية الذاتية (إشباع حاجات الجسد ورغباته في المتع المادية على اختلافها) على حساب القوى النزوعية الأخرى، الأخلاقية والاجتماعية والروحية التي تقوم هي أيضاً على ميول فطرية في الكينونة الإنسانية، وتكتسب لدى صاحبها صورة المثل الأعلى أو المطلق الزائف، ويسقط عليها صاحبها ما تختزنه كينونته من ميول روحية، فتكتسب بذلك صورة الألوهية الزائفة، وتتحول إلى صنم يعبد: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً﴾[19]. ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ…﴾[20]*.
في هاتين الآيتين وفي كثير غيرها من آيات القرآن الكريم تصوير بليغ لما يصيب الإنسان بفعل الرغبات الذاتية عندما تقوى بدون حدود، وتستبد بالإنسان فتصم عقله وقواه الإدراكية عن الاعتبار بآيات الله في الكون، وعن الدعوة إلى الحق. ليصبح كالأنعام أو أضل سبيلاً، فيبغي بغير الحق ويظلم إذا أوتي القدرة على ذلك، أو يتبع الظالمين إذا لم يؤت مثل ما أوتوا.
عوامل الإرهاب في نظر الإسلام
عوامل البغي والظلم التي عرضناها سواء صدرت ابتداء عن ظالمين باغين، أو كانت ردود فعل المظلومين ولكنها تتسم بالإرهاب يعيدها القرآن، في نهاية التحليل، إلى عدم الإيمان بالغيب عموماً، وعدم الإيمان بالله خالقاً ورازقاً وهادياً وديّاناً، واليوم الآخر نهاية ومستقر ترسمه أعمال الإنسان في هذه الدنيا، بصورة خاصة.
استكمالاً لهذه الرؤية، ينشأ الظلم والبغي لدى المستكبرين والطواغيت، وظلم الناس لبعضهم وبغي بعضهم على بعض، من الحكم بغير ما أنزل الله على أنبيائه ورسله لهداية البشر إلى ما يصلح أحوالهم في الدنيا والآخرة، على أن يفهم الحكم، لا بمعنى تطبيق أحكام الحدود والمعاملات والسياسات فحسب، وإنما تحكيم ما أنزل الله من عقيدة وعبادات وأحكام أخلاقية، وأحكام معاملات وسياسات، في تفاعلها وتكاملها ووحدتها، في تعاطي الإنسان مع نفسه ومع أسرته ومجتمعه وبيئته… بحيث ينبغي في كل ما يقوم به في هذه المجالات أو في غيرها وجه الله، وتتحول كل أعماله هذه إلى نوع من العبادة، لأنها دائماً في طاعة الله جلّ وعلا.. وهذا مثل أعلى إن لم يبلغه المرء كما ينبغي، فإنه على الأقل يشكّل حافزاً ودافعاً للاقتراب منه باستمرار ما يساعد على تزكية النفس وإبعادها عن الظلم والبغي بغير الحق.
III المباني النظرية لإدانة الإرهاب.
يمكن اختصار المباني النظرية لإدانة الإرهاب بمجمل القيم الإنسانية: العقلائية والدينية والأخلاقية والعرفية. من هذه القيم نذكر:
– إحترام الحياة الإنسانيّة والحفاظ عليها إلّا إذا اعتدت عاى حياة إنسانية أخرى، أو عملت على إحداث فساد يسيء إلى الحياة الإنسانية نفسها.
– المساواة بين الناس في القيمة والاعتبار، وبالتالي في الحقوق والواجبات.
– المساواة بين الاجتماعات السياسية أيضاً في الحقوق والواجبات، وتغليب سنة التعارف على سنة التدافع.
– حق من بغي عليه أو ظلم بغير حق أن يعمل بشتى الأساليب الممكنة لرفع الظلم ودفع البغي بالحق.
– العدل في تعاطي الناس أفراداً وجماعات واجتماعات سياسية مع بعضهم بعضاً على أساس “عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به”.
– الاعتبار بما أدّى إليه تجاهل هذه القيم من مآسٍ إنسانية مروعة، ماضياً وحاضراً، علّه يشكّل دافعاً للعودة إليها وتحكيمها في سلوكات قوى القهر والاستبداد والاستحواذ.
المباني النظرية لإدانة الإرهاب في الإسلام.
هي نفسها المباني السابقة الذكر التي رأينا تطبيقاً لبعضها في ما أوردناه سابقاً عندما تناولنا مفهوم الإرهاب من وجهة النظر الإسلامية، ولكن (القيم) مؤسّسة على الإيمان بكل مفردات الإيمان الإسلامي العقائدية والعبادية والأخلاقية والمعاملاتية والسياسية في تفاعلها وتكاملها ووحدتها على أساس: ﴿إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾[21].
بين المثال والواقع.
ما ورد حول وجهة نظر الدين الإسلامي من القضايا المطروحة في العناوين التي تم بحثها هي المثال، أو جزء من المثال الإسلامي، أي ما ينبغي أن يكون عليه الحال من وجهة النظر الإسلامية، لكنّ قراءة الواقع، أي ما كان في تاريخ المسلمين وما هو كائن في حاضرهم على ضوء ما كان يجب أن يكون (المثال) تصيب المرء بالدهشة لبعد المسافة بين الواقع والمثال.
فإذا استثنينا الفترة الزمنية التي حكم فيها بعض الخلفاء الراشدين الذين التزموا المثال وإن بنسب متفاوتة، فإننا نلاحظ بوضوح كم كان ابتعاد الواقع عن المثال في حقيقته وجوهره، وفي مبانيه ومقاصده، وإن لم ينقطع الكلام على تمثيله والحكم باسمه.
وعندما يُنظر إلى المثال بمنظار الواقع يميل البعض إلى اعتبار المثال مسؤولاً عن الواقع، وأنه إذا أريد تغيير الواقع فينبغي تغيير المثال أولاً. وهذا البعض لا يقتصر على مستشرقين معادين، بل يشمل مسلمين “مستنيرين!” آثروا أن يكونوا علمانيين.
رداً على هؤلاء يحذّر الفقيه القانوني المصري الدكتور عبد الرزاق السنهوري من الخلط بين هذين الجانبين، بحيث نعتبر المثال مسؤولاً عما حدث في أرض الواقع، ولكن المثال الذي يقصده هو نظام الخلافة باعتباره تجسيداً للمثال الإسلامي. يقول هذا الفقيه القانوني: “نظام الخلافة لا يمكن أن يكون مسؤولاً عن الفتن التي حدثت في الدولة الإسلامية (…) في رأينا أنه لا محل للزعم الخاطئ والذي يردّده كثيرون قائلين إن الخلافة كانت هي مصدر المساوئ التي شهدها التاريخ الإسلامي، فالحقيقة هي أنه إذا بحثنا عن سبب الاستبداد والذي مارسته بعض الحكومات الإسلامية زمناً طويلاً، فإنه لم يكن نظام الخلافة، بل هو خروج هؤلاء الحكّام عن مبادئه وأهدافه”[22]، ويضيف في مكان آخر: “نحن لا نحاول إنكار الحقائق التاريخية، فتاريخ الخلافة الناقصة، منذ عهد الأمويين، ومن بعدهم مليء مليء بأنواع إساءة السلطة، وإن كان هذا الاستبداد مصدره خروج هؤلاء الحكّام على قواعد الخلافة الشرعية”[23].
كان الأجدر بالدكتور السنهوري أن يعتبر أن سبب الاستبداد الذي مارسته بعض الحكومات الإسلامية، هو الانحراف عن المثال الإسلامي، وليس الانحراف عن نهج الخلافة، لأن نهج الخلافة يستمد قيمته من مدى تطبيقه للمثال الإسلامي، ولأن نظام الخلافة بحد ذاته (إذا كان هناك نظام خلافة بالمعنى الدقيق للكلمة) هو نظام بشري، وبالتالي غير مقدّس، ويمكن استبداله، وبالتالي فإنه ليس المثال بالذات، وإنما شكل من أشكال ممكنة لتطبيق المثال المن… في مصادر الإسلام، أي في القرآن والسنة المعتبرَين مقدّسين لقداسة مصدرهما، جلّ وعلا.
لا نحسب أن هذه الملاحظات كانت غائبة عن ذهن الفقيه القانوني المصري الكبير، وما دمنا نحسن الظن، فإننا نعتقد أن سياق مؤلفه أي الدعوة إلى خلافة إسلامية شبيهة بعصبة أمم تجمع الدول الإسلامية يرأسها خليفة للمسلمين جعله يركّز على نظام الخلافة باعتباره تطبيقاً للمثال الإسلامي.
مهما يكن من أمر، فإننا نرى، رداً على من يجعلون المثال سبباً لتردّي الواقع، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالإسلام الحنيف، أن الابتعاد عن المثال هو السبب، وأن إصلاح الواقع لا يكون إلا بالعودة إلى المثال.
وإذا كان صحيحاً أن العلاقة بين المثال والواقع علاقة جدلية من حيث المبدأ، وأن المثال يرشد الواقع. والواقع يجسّد المثال وقد يصوّبه (في العلوم التجريبية)، فإن الأمر عندما يتعلق بمثال ذي مصدر إلهي، يقرّ العقل بقيمة مفرداته الاعتقادية والعبادية والأخلاقية… في هداية الإنسان، يكون من الخطأ الفاحش أن لا نعود إلى المثال لإصلاح الواقع.
والله الموفق لما فيه السداد والخير
[1]ابن منظور. لسان العرب.
[2]د. عبد الوهاب الكيالي وآخرون. موسوعة السياسة م1- المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط. 3 ت 1990 ص 153.
*المقصود الحكومة الملكية الفرنسية التي قامت بعد سقوط نابليون عام 1815.
[3] Dictionnaire encyclopédique. Hachette. 2000. Terrorisme.
[4] الأنفال: 60.
[5] الأنفال: 56- 57- 58- 59- 60- 61.
[6] الأعراف 154.
[7] البقرة 40.
[8] الأنبياء 90.
[9] الحج 39- 40.
[10] الممتحنة 8.
[11] النحل 91.
[12] التوبة 4.
[13] التوبة 7.
[14] الحجرات 9.
[15] المائدة 8.
[16] النساء 135.
[17] النساء 58.
[18] را. الموسوعة السياسيّة. م.م.س. ص154- 156 للإطلاع على وقائع الإرهاب الصهيوني قبل إنشاء الدولة وبعدها.
[19] سورة الفرقان، الآية 43.
[20] سورة آل عمران، الآية 14.
* تتردد في القرآن الكريم مفردات الهوى، والشهوة للدلالة على الرغبات المتولّدة عن الميول الفطرية عندما تتعلق وتخرج عن جادة الاعتدال في متطلباتها.
[21] سورة البقرة، الآية 58.
[22] أورده إمام عبد الفتاح إمام، الطاغية، عالم المعرفة، الكويت، عدد 183، ت آذار 1994، ص 185.
[23] م.ن. ص 187.