معضلة الفدية
بيتر سينجر:
برينستون ــ إن كل من لا يشارك ما يسمى تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق والشام أيديولوجيته الفكرية من المرجح أن يُسَلِّم بأنه من الخطأ أن يقوم أتباع هذه الجماعة بقطع رؤوس بعض أولئك الذين يحتجزونهم رهائن. ولكن الأمر الأكثر إثارة للجدال يتمثل في تلك القرارات السرية
التي اتخذتها الحكومات الأوروبية بدفع الفدية لمثل هذه الجماعات في مقابل إطلاق سراح مواطنيها.
رغم أن رهائن تنظيم الدولة الإسلامية ينتمون إلى عِدة دول، فإن أفراد هذه الجماعة لم يقطعوا حتى الآن سوى رؤوس الرهائن المنتمين إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. ويبدو أن الرهينة الأوروبي الوحيد الذي أعدِم بشكل مباشر من قِبَل تنظيم الدولة الإسلامية وفقاً للتقارير كان روسيا (سيرجي جوربونوف)، غير أننا لا نعرف الكثير عنه. إذ لم يتقدم صديق أو قريب بأي معلومات عنه، ولم يُنشَر أي فيديو لوفاته. كما أبدى مسؤولون روس علناً شكوكهم في كونه مواطناً روسيا.
ومن ناحية أخرى، أطلق تنظيم الدولة الإسلامية سراح 15 رهينة، بينهم مواطنين من إيطاليا وفرنسا وسويسرا والدنمرك وأسبانيا.
في تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز شرح روكميني كاليماتشي هذا الفارق في المعاملة. فالولايات المتحدة والمملكة المتحدة تنتهجان منذ فترة طويلة سياسة الامتناع عن دفع أموال فدية لأي منظمة إرهابية. وعلاوة على ذلك، عندما تلقى مايكل فولي، شقيق جيمس فولي (أحد الرهائن)، طلب فدية، حذره مكتب التحقيقات الفيدرالي من أن دفع أي أموال لإرهابيين يُعَد جريمة وفقاً لقانون الولايات المتحدة. وفي وقت لاحق أعدِم فولي.
وعلى النقيض من هذا، كانت عِدة حكومات أوروبية على استعداد لأكثر من عقد من الزمان لدفع ملايين اليورو للإرهابيين في مقابل إطلاق سراح مواطنيها الأسرى، أو سهلت دفع الفدية بواسطة أقارب وأصدقاء للرهائن. وهذا برغم تبني مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإجماع في يناير/كانون الثاني قرار يعارض دفع مثل هذه الفدية، فضلاً عن إعلان مماثل في قمة مجموعة الثماني العام الماضي، والذي وَقَّعَت عليه بعض الحكومات التي استمرت في الدفع.
ووفقاً لتقرير كاليماتشي فإن فرنسا دفعت أموال فدية أكثر من أي دولة أخرى ــ بمجموع 58 مليون دولار منذ عام 2008، بما في ذلك دفعة واحدة في عام 2013 بلغت 40 مليون دولار في مقابل إطلاق سراح أربعة مواطنين فرنسيين أسِروا في مالي. ولكن لعل السياسة الفرنسية بدأت تتغير. فبعد مشاركة فرنسا في غارات جوية ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سبتمبر/أيلول 2014، أسرت جماعة جهادية جزائرية سائحاً فرنسياً يسمى هيرفي جورديل، وهددت بإعدامه ما لم تتراجع فرنسا عن المشاركة في العمليات. وهذه المرة وقفت فرنسا وقفة حازمة، فقال رئيس الوزراء مانويل فالس إن التراجع قيد أنملة يعني تسليم النصر لهؤلاء المقاتلين المتشددين. وكانت النتيجة قطع رأس جورديل.
إن الضغوط المفروضة على الحكومات لحملها على دفع الفدية، أو على الأقل تسهيل دفعها من قِبَل الأسر الساعية بيأس إلى إنقاذ أرواح أحبائها، مفهومة. فهذه الممارسة تمثل تطبيقاً لما يسمى “قاعدة الإنقاذ”: تصورنا لواجبنا الذي يملي علينا إنفاق أي مبلغ من المال تقريباً لإنقاذ ضحية معلومة، مثل عمال المناجم المحاصرين، أو متسلق جبال مصاب، أو وليد مبتسر. ولكننا أقل استعداداً إلى حد كبير للاستثمار في إنقاذ الأرواح عندما يكون من غير الممكن تعريف الضحايا مقدما، حتى إذا كان عدد الأرواح التي قد يمكننا إنقاذها أكبر ــ على سبيل المثال، من خلال توفير سبل السلامة بشكل أفضل على الطرق أو نشر ثقافة التدابير الصحية الوقائية.
إن قاعدة الإنقاذ لابد أن تُفهَم كقاعدة تتعلق بالنفس الإنسانية، وليس الأخلاق. ومن الممكن أن يبدو تطبيقها مبرراً إذا وضع كل منا نفسه محل الشخص الأسير، أو تخيل أن طفله أو زوجه أو أمه أو أباه وقع في أسر إرهابيين قدموا عرضاً معقولاً بإطلاق سراح أسيرهم في مقابل فدية.
بيد أن هذه الحجة تستغل عجزنا عن وضع أنفسنا في محل أي من أولئك الذين يشكلون عدداً أكبر من الأشخاص الذين قتلهم تنظيم الدولة الإسلامية وغيره من الجماعات الإرهابية، برغم أنهم لم يصبحوا ضحايا إلا لأن مَبلَغاً من المال يقدر بنحو 125 مليون دولار دُفِع لمثل هذه الجماعات على مدى السنوات الست الماضية في هيئة أموال فدية، الأمر الذي مكنهم من تسليح مقاتليهم لتنفيذ هجمات قاتلة. والواجب يملي علينا أن نستخدم مواردنا لإنقاذ أكبر عدد من الأرواح؛ ولكن من المرجح في الإجمال أن يؤدي دفع أموال الفدية إلى خسارة المزيد من الأرواح.
فضلاً عن ذلك فإن القوة العسكرية الإضافية التي يكتسبها الإرهابيون بفضل عائداتهم من أموال الفدية ليست الضرر الوحيد الناجم عن دفع الفدية. فمن الواضح أن دفع فدية رهينة غربي واحد تخلق حافزاً قوياً يدفع الإرهابيين إلى أسر رهائن أخرى. ويشير جرايم وود، وهو صحفي عمل أربع سنوات في الشرق الأوسط، إلى أن الصحفيين الذين يعملون في مناطق خَطِرة معرضون دوماً لخطر الاختطاف أو القتل لأسباب إيديولوجية؛ ولكن من الحقائق الضارة في هذا السياق أن حياة الصحفي الغربي قد تساوي الملايين من الدولارات، وهو المبلغ الذي يصفه وود بأنه “محفز بشكل شامل”.
ويقول الجنرال جون ألن، قائد القوات الأميركية السابق في أفغانستان ومبعوث الرئيس باراك أوباما الخاص إلى التحالف الدولي الذي يقاتل تنظيم الدولة الإسلامية حاليا، إننا لا نستطيع أن نعرف كم عدد الأميركيين الذين لم يختطفوا لأن الجماعات تعلم أنها لن تحصل على أي أموال فدية منهم. وهو يشير إلى أن “حقيقة وجود أميركيين في المنطقة لم يختطفوا قط، لأن تنظيم الدولة الإسلامية وحلفاءه أدركوا أن اختطافهم لن يضيف إليهم ميزة، لابد أن توضع في الاعتبار”.
إن الحكومات التي تقبل دفع الفدية ربما تنقذ أرواح بعض مواطنيها، ولكنها تجعل بقية مواطنيها ــ وغيرهم ــ عُرضة لخطر أعظم. وقد يبدو رفض دفع الفدية لإرهابيين قراراً بالغ القسوة، ولكنه يُعَد في حقيقة الأمر السياسة الأخلاقية الوحيدة. ومن الواجب على كل حكومة أن تتمسك بهذه السياسة.
* أستاذ أخلاق الطب الحيوي بجامعة برينستون