معركة الدولار والدينار العراقي.. كيف ستضع أوزارها؟
موقع قناة الميادين-
عادل الجبوري:
واشنطن، التي تزعم أنها تريد مساعدة العراق على وضع حد لعمليات التهريب والفساد عبر بناء نظام مصرفي رصين، كان لها الدور الأكبر في تبديد مليارات الدولارات من أموال العراق.
اتخذ رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، خلال الأيام القليلة الماضية، جملة قرارات وإجراءات للحد من ارتفاع قيمة الدولار الأميركي في مقابل الدينار العراقي في الأسواق العراقية، ومنع تدهور الأوضاع الاقتصادية للبلد نتيجة ذلك، وما يمكن أن يترتب على ذلك الارتفاع من تبعات سياسية تقوّض الاستقرار وتعيد مشهد الارتباك والاضطراب اللذين ألقيا ظلالهما الثقيلة على الشارع العراقي في الجزء الأكبر من العام الماضي.
وبين القرارات والإجراءات، التي اتخذها السوداني، إعفاء محافظ البنك المركزي العراقي، مصطفى غالب مخيف، وتعيين محافظ البنك السابق علي العلاق، وإحالة المدير العام للمصرف العراقي للتجارة (TBI)، والذي يُعَدّ أحد أكبر المصارف الحكومية، سالم الجلبي، على التقاعد، وتعيين الخبير المالي بلال الحمداني بدلاً منه، إلى جانب جملة إجراءات أقرّها مجلس الوزراء بالإجماع، تتعلق بتسهيل التعاملات المصرفية وتسريعها، وزيادة عدد منافذ بيع العملة الصعبة (الدولار) للمواطنين، بأسعار مدعومة، وتقديم التسهيلات المالية والمصرفية إلى التجّار، ولا سيما الصغار منهم، وتقليص الحلقات الإدارية ذات الطابع البيروقراطي الرتيب، والتي تتيح عمليات التلاعب والفساد والاحتكار. فضلاً عن ذلك، فإن جهاز الأمن الاقتصادي في وزارة الداخلية شنّ، قبل عدة أيام، حملات في بعض أسواق بيع العملات (البورصات) وتداولها، في العاصمة بغداد، واعتُقل عدد من المضاربين والمتلاعبين بالأسعار.
وبعد أن كان الدولار ارتفع في مقابل الدينار إلى مستويات قياسية، خلال فترة زمنية قصيرة جداً، ليتبعه ارتفاع واضح في أسعار مختلف السلع والبضائع الأساسية، وخصوصاً ذات الاستهلاك اليومي، فإن القرارات والإجراءات المتخَذة ساهمت في تراجعه بصورة طفيفة، مع وعود وتعهّدات قطعها محافظ البنك المركزي الجديد، تقضي بإعادة خفض قيمة الدولار خلال وقت قصير، وعودة الاستقرار إلى السوق. لكن، هل انتهت القصة عند هذا الحد؟ بالتأكيد، ليس الأمر كذلك، لأن هناك أسباباً وعوامل وظروفاً متعددة أدت إلى ذلك الارتباك، من دون استبعاد فرضية النيّات المبيَّتة والأجندات المخطَّطة.
ومن الطبيعي أن تتوجه بعض أصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة الأميركية، لأنها، منذ إطاحة نظام صدام في ربيع عام 2003، باتت تتحكّم في مختلف مفاصل الدولة العراقية، وخصوصاً المالية والاقتصادية منها. ولعلّ الدليل الأبرز والأوضح على ذلك هو أنه، منذ عشرين عاماً، تُوْدَع عائدات النفط العراقي في البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، في حساب خاص أُطلق عليه صندوق تنمية العراق (DFI)، وفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي المرقَّم 1483، والصادر في الثاني والعشرين من أيار/مايو 2003، تدفع منه التعويضات المستحقة لدولة الكويت، وعموم التحويلات وعمليات الإنفاق المالية منه تخضع لإشراف الاحتياطي الفيدرالي ورقابته.
وقبل نحو عشرة أعوام أو أكثر، ارتفعت أصوات شعبية وبرلمانية تطالب بتحرير الأموال العراقية وإنهاء الهيمنة الأميركية عليها، إلّا أن جملة من التجاذبات والإشكاليات السياسية والفنية حالت دون ذلك، على رغم إعلان الرئيس الأميركي الأسبق نيته رفع الحصانة عن صندوق تنمية العراق في ذلك الحين.
ومثلما ظلّ الملف الأمني العراقي خاضعاً ومرتهناً لحسابات واشنطن السياسية، فإن الملف المالي بقي هو الآخر كذلك، ولم تكن واشنطن بعيدة عن الصعود المفاجئ للدولار. وهذا ما كشفه بعض البرلمانيين وخبراء المال والاقتصاد، إذ أكد النائب مصطفى سند، أواخر الشهر الماضي، أن “صعود الدولار هذه الأيام هو بسبب إيقاف تحويل استحقاق العراق من الدولار من جانب الفيدرالي الأميركي، من أجل الابتزاز السياسي”. هذا في الوقت الذي أصدر البنك المركزي قراراً يقضي بمنع أربعة مصارف أهلية من التعامل بالدولار، لأغراض تدقيقية، وهي مصرف الأنصاري الإسلامي للاستثمار والتمويل، ومصرف القابض الإسلامي للاستثمار والتمويل، ومصرف آسيا العراق الإسلامي للاستثمار والتمويل، ومصرف الشرق الأوسط العراقي للاستثمار.
وتذهب أوساط مطّلعة إلى أن القرار المذكور جاء بضغط وإيعاز من الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، والسبب الحقيقي هو وجود معلومات عن قيام المصارف الأربعة، المشار إليها، بتحويل مبالغ مالية إلى جهات وأشخاص مدرجين في القوائم الأميركية السوداء، المشمولة بالعقوبات، وهذه الجهات إما ايرانية وإمّا أنها مرتبطة بإيران.
في هذا السياق، حاولت السفيرة الأميركية في العراق، إلينا رومانوسكي، التخفيف من الوقع والحدّة للأنباء المتداولة عن دور حكومة بلادها في تقلبات الأسعار وتذبذبها بين الدولار والدينار العراقي، قائلة، في آخر تصريح لها، “إن الولايات المتحدة لا تضع ولا تحدد سعر التصريف بين الدولار والدينار، وإنها لم تفرض عقوبات جديدة على مصارف في العراق، بل تواصل آلية استغرقت عدة أعوام لتقوية القطاع المصرفي العراقي من أجل مساعدته على الامتثال للنظام المصرفي العالمي، وضمان منع استخدام النظام المصرفي لغسل أموال الشعب العراقي وتهريبها إلى خارج العراق”. وتضيف رومانوسكي أنّ “هذه الإجراءات بدأت قبل عامين بتطبيق تدريجي من جانب المصارف العراقية، وفق اتفاق بين البنك الفيدرالي الأميركي والبنك المركزي العراقي، وأن تلك الإجراءات مصمَّمة من أجل منع عمليات غسل الأموال وتقييدها، وأن تعليقها أو تأجيلها يؤدي إلى العودة بالمنظومة إلى الوراء”. وتؤكد: “ركزنا على ملف الفساد في العراق، وما حدث كان مصادفة مع تسلم السوداني للسلطة”.
لا شك في أن كلام السفيرة الأميركية واضح، إلى حدّ كبير، وهو إقرار واعتراف صريحان بهيمنة واشنطن وسطوتها على الملف المالي العراقي، وإلّا فما هو الغطاء الشرعي والغطاء القانوني اللذان يتيحان لها التدخل وفرض السياقات والإجراءات التي تراها، وتقرّر ما الذي تطبقه بشأنها؟
وكان رئيس الوزراء العراقي الأسبق وزعيم ائتلاف دولة القانون، نوري المالكي، واضحاً جداً، حينما أكد، في تصريحات إعلامية، أن “أزمة الدولار مرتبطة بمخالفات، منها التهريب والتلاعب من جانب بعض المصارف والتجار، وأن الحل الوحيد للأزمة هو التفاهم مع الجانب الأميركي، إذ إن أميركا تستخدم الدولار سلاحاً، وهي تراقب الوضع في العراق”.
في الوقت ذاته، فإن وسائل إعلام غربية نقلت عن مسؤولين أميركيين تأكيدهم “أن النظام المصرفي المزمع العمل به، من جانب البنك الفيدرالي الأميركي والبنك المركزي العراقي، يهدف إلى الحد من استخدام النظام المصرفي العراقي لتهريب الدولارات إلى طهران ودمشق وملاذات غسل الأموال في أنحاء الشرق الأوسط”.
إذا عدنا قليلاً إلى الوراء، فإننا نجد أن وزارة الخزانة الأميركية فرضت، قبل عدة أعوام، حزمة عقوبات على مصارف أهلية عراقية تحت ذريعة تقديمها تسهيلات إلى الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني، علماً بأن عدداً من مُلّاك تلك المصارف ومديريها يرتبط بعلاقات جيدة بالأوساط والمحافل السياسية الأميركية.
المفارقة هنا، أن واشنطن، التي تزعم أنها تريد مساعدة العراق على وضع حد لعمليات التهريب والفساد عبر بناء نظام مصرفي رصين، كان لها الدور الأكبر في تبديد مليارات الدولارات من أموال العراق، بحيث إنها كانت تعلم جيداً بالجهات التي تقف وراء ذلك، وتعلم جيداً بحركة الأموال المنهوبة ووسائل غسلها، إلّاأانها التزمت الصمت ولم تحرك ساكناً، لأن ذلك لم يكن يتعارض مع حساباتها ومصالحها، من جانب، ولا يعود، من جانب آخر، بالنفع على خصومها وأعدائها في المنطقة.
بينما لا يحتمل كلام السفيرة الأميركية كثيراً من التأويل والتفسير بشأن تورّط واشنطن في الارتباك الكبير الذي تعرّض له العراق مؤخراً من جرّاء ارتفاع قيمة الدولار، فإن ادعاءها أن تزامن تفعيل إجراءات التدقيق والمراقبة الماليَّين مع الفترة الأولى لتولي السوداني رئاسةَ الوزراء كان مصادفة محضة، لا يمكن له – أي الادعاء – الصمود أمام قراءات ومعطيات وحقائق تذهب إلى أن الإدارة الأميركية غير مرتاحة إلى بعض توجهات السوداني وسياساته وقراراته، على رغم إعلان دعمها ومساندتها له. لذلك، فهي تحاول إشغاله بملفات جانبية بهدف تشديد الضغوط الداخلية عليه. وكما أكد برلمانيون عراقيون، فإن “واشنطن تحاول ابتزاز السوداني من خلال العمل على إسقاط حكومته باستخدام أزمة الدولار في حال لم يتعاون مع الأهداف الأميركية في العراق، وهي تقول له باختصار إننا سنُسقط الحكومة في حال لم تعمل معنا ضد إيران”. يجري هذا في الوقت الذي يرى بعض الساسة وأصحاب الرأي “أن السوداني يواجه الآن تحدياً كبيراً في المحافظة على التوازن في العلاقات العراقية بكل من واشنطن وطهران من دون أن يتخذ جانباً ضد آخر، وأن هذه المهمة صعبة جداً، وتتطلب من السوداني أن يسير على الحبل”!
حتى الآن، يبدو أن رئيس الوزراء العراقي يسير في الاتجاه الصحيح، وأن قراراته وخطواته وإجراءاته تنسجم، من حيث واقعيتها وأولوياتها، مع طبيعة الأزمة والسبل الكفيلة بحلها ومعالجتها. وقد لا تستطيع الإدارة الأميركية أن تفرض وتقرر كل ما تريده وترغب فيه، لأن هناك رأياً عاماً يمكن أن يتحرك بصورة ما، كما أن هناك ثقلاً سياسياً كبيراً داعماً للسوداني يتمثل بالإطار التنسيقي الشيعي، ويتمثل، على نطاق أوسع، بتحالف إدارة الدولة، الذي يضم قوى رئيسة من المكونين السني والكردي، والتي حتى إن كانت ترتبط بعلاقات جيدة بواشنطن، فإنه ليس من مصلحتها أن تختلط الأوراق وتضطرب الأوضاع، وخصوصاً أن التقاطعات والخلافات في داخل هذه المكونات تجعل قواها تحرص على السير والتحرك في اتجاه تهدئة الأمور وحلحلة الأزمات واحتواء التوترات. فليس هناك من يتمنى – وتحديداً المشاركين في الحكومة – العودة إلى منطق التصعيد والتأزيم من جديد، سواءٌ تعلَّق الأمر بملفات الاقتصاد أو بسواها من الملفات الأخرى.