ما بعد المِئة يَوم من الأزمة الخليجيّة
عبد الباري عطوان – رأي اليوم
كَسرت الأزمة الخليجيّة حاجز المِئة يَوم الأولى من عُمرها ودَخلت المِئة يوم الثّانية، ودون أن يَلوح في الأُفق أي انفراجٍ وشيكٍ يُؤدّي إلى إزالة التوتّر المُتصاعد بين دولة قطر وخُصومها الأربعة، فالوساطة الكويتيّة انهارت تقريبًا، أو دَخلت مَرحلة المَوت السريري، ودخول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على خَط الأزمة بإيعازه لأمير قطر بالاتصال بالأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، لترطيب الأجواء بين الجانبين وفَتح قنوات حوارٍ أعطت نتائج عكسيّةٍ تمامًا.
هذه الأزمة، التي تَسير على خُطى نظيرتها اليمنيّة، مُرشّحة للعَديد من المُفاجآت في الأيام والأسابيع المُقبلة، بالنّظر إلى التّلاسن الحاد الذي حَدث بين السيد سلطان بن سعد المريخي، وزير الدولة القَطري للشؤون الخارجيّة، والسيد أحمد القطان، مندوب السعودية لدى الجامعة العربية، أثناء الاجتماع العادي لمجلس الأخيرة الذي انعقد الثلاثاء على مَستوى المندوبين.
أخطر ما في هذه المُلاسنة التي استمرت 37 دقيقة واستحوذت كلمة الوزير القطري عشر دقائق منها، الفَقرة التي وردت فيها (أي كلمة الوزير القطري)، وتضمّنت اتهامًا للسعوديّة بمُحاولة نَزع الشرعيّة عن النّظام القطري وتغييره، وهو ما نَفاه السيد القطان جُملةً وتفصيلاً، ولكنّه، هَدّد دولة قطر والمَسؤولين فيها بأنّهم سيَندمون ندمًا كبيرًا في ردّه على وَصف الوزير القطري إيران بأنّها دولة “شريفة”، وأضاف “هنيئًا لكم بإيران، والمملكة قادرةٌ على فعل أي شيء، وهي قدها وقدود”.
***
مَخاوف قطر من تغيير نظامها لم تَغب مُطلقًا عن ذِهن المَسؤولين فيها مُنذ اليوم الأول للأزمة، لأن هناك سوابق في هذا الإطار، السابقة الأولى مُحاولة التدخّل العَسكري لإطاحة حُكم والد تميم الشيخ حمد بن خليفة عام 1996، والسّابقة الثانية إطلاق السعودية “عاصفة الحزم” لإسقاط الحُكم “الحوثي الصالحي”، وإعادة الرئيس اليمني “الشرعي” عبد ربه منصور هادي إلى صنعاء، ولا نَنسى في هذهِ العُجالة أيضًا تدخّل الدولتين، أي قطر والسعودية، لإسقاط حُكم الرئيس بشار الأسد، وإطاحة نظام العقيد القذّافي في ليبيا.
تبنّي القيادتين السعوديّة والإماراتيّة للشيخ عبد الله بن علي آل ثاني، سليل الجناح المُنافس في الأسرة القطرية الحاكمة، كأميرٍ بديلٍ، ودَعمها لـ”المُعارضة” القَطريّة ومُؤتمرها الذي سيُعقد غدًا الخميس في لندن، يُوحي بأنّ مُخطّطات تغيير النّظام مُستمرّة، وأن نَفَس هاتين القيادتين وحُلفائها طويل، وعَبّر عن ذلك صراحةً السيد عادل الجبير، وزير الخارجية السعودي، عندما قال في مُؤتمر صحافي مع نظيره الروسي قبل أيام، أن بلاده مُستعدّةٌ لاستمرار الأزمة لعامين أو أكثر، ممّا يَعني أن الحِصار أو المُقاطعة لقطر مَفتوحة النّهايات، ولكن هل تحتمل الجزيرة العربية أزمتين، في اليمن ومنطقة الخليج (الفارسي) في الوقت نفسه تستمران لأعوام؟
التطوّر الأحدث في الأزمة الخليجيّة الزيارة التي سيَقوم بها الأمير تميم بن حمد إلى أنقرة يوم الخميس، وهي الأولى التي سيَقوم بها خارج البلاد مُنذ بِدء الأزمة الخليجيّة.
اللافت أن السلطات التركية لم تُعلن عنها إلا قبل 24 ساعة من حُدوثها، حيث قال بيانٌ رئاسي أن الرئيس رجب طيب أردوغان سيَستقبل الأمير القطري الخميس حيث سيَجري بَحث العديد من القضايا ذات الاهتمام المُشترك، أي أنها لم تَكن مُبرمجةً على غِرار نَظيرتها إلى برلين.
اختيار الأمير القطري أنقرة لزيارته الخارجيّة الأولى لم يَكن بالصّدفة، وكان اختيارًا مَحسوبًا بعنايةٍ في رأينا لتوجيه رسالتين:
الأولى: تُريد القَول بأن الشيخ تميم مُطمئنٌ على سلامة حُكمه، وواثقٌ من استقرار جَبهته الداخليّة، وغير خائفٍ من حُدوث انقلاب، أو تدخّلٍ عَسكريٍّ خارجي، يُطيح بحُكمه مِثلما حَدث عام 1972 عندما أطاح جدّه الشيخ خليفة بالأمير أحمد بن علي آل ثاني، شقيق “أمير الظل” الحالي، في انقلابٍ أبيض عندما غادر الأخير إلى إيران في رحلة صيد، أو على غِرار انقلاب أبيض ثانٍ أطاح بجدّه الشيخ خليفة بن حمد عام 1995 على يَد ابنه الشيخ حمد بن خليفة أثناء مُغادرة الأول الدّولة إلى سويسرا في زيارةٍ خاصّةٍ توقّف خلالها في القاهرة.
الثانية: التأكيد على قوّة التّحالف القَطري التركي، ودور الرئيس أردوغان كصديقٍ أوثق للحُكم في الدّوحة، يُمكن الاعتماد عليه في مُواجهة أيّ تدخّلٍ عَسكريٍّ خارجي، حيث تُوجد لتركيا قوّات في قطر يَتراوح تِعدادها بين 10 آلاف إلى 30 ألف جندي، حسب التقديرات المُتضاربة تنفيذًا لمُعاهدة دفاعيّة بين البَلدين.
صحيح أن الأمير تميم سيتوجّه إلى برلين بعد أنقرة تلبيةً لدعوة السيدة أنجيلا ميركل، التي كانت دولتها أكثر الدّول الأوروبيّة تعاطفًا مع دولة قطر، ومُنتقدةً للحِصار المَفروض عليها من الدّول الأربعة المُقاطِعة (بكَسر الطّاء)، ولكن تَظل أنقرة هي المحطّة الأهم، ولا نَستبعد أن يُحاول، أي الأمير تميم، نَقل رسائل من الرئيس أردوغان للمُستشارة الألمانيّة لتخفيف الخِلاف بين الطّرفين.
ولعلّ وَصف وزير الدولة القطري السيد المريخي لإيران بأنّها “الدّولة الشّريفة” الذي استفزّ المَندوب السّعودي السيد القطان، هو رسالة تُسلّط الأضواء على التعويل القَطري على إيران كحليفٍ استراتيجي ثانٍ في مُواجهة أي مُحاولة لتغيير النظام، فقد أعادت قطر سَفيرها إلى طهران، وفَتحت الأخيرة مَوانئها وأجوائها لكَسر الحِصارين البحري والجوي، وطار وزير خارجيتها السيد محمد جواد ظريف إلى أنقرة لبَحث التنسيق مع الرئيس أردوغان في الأزمة الخليجيّة.
***
ردّة الفعل الغاضبة للأمير محمد بن سلمان على البيان القطري الذي تحدّث عن “اتصالاتٍ” هاتفيّة بينه وبين الشيخ تميم بتنسيق، أو بطلبٍ من ترامب، وإجهاضه للمُبادرة الأمريكيّة، لأنه يُريد اعترافًا كاملاً من دولة قطر بأخطائها وقُبولها بالمَطالب الـ13، ربّما تُترجم إلى خطواتٍ أكثر خُطورةً في الأيام أو الأسابيع المُقبلة، ولا نَستغرب أن تكون حالة السّكون الحاليّة هي التي قَد تَسبق العاصفة.
من الرّابح ومن الخاسر في هذهِ الأزمة التي بدأت المئة يوم الثانية من عُمرها؟ ربّما من السّابق لأوانه إعطاء رأي حاسم في هذا المِضمار، لكن يُمكن القَول أن الطّرفين خاسران، مع تسليمنا أن خسارة الطّرف الذي جَرى فَرض الحِصار عَليه أكبر من خسارة الطّرف الذي يَفرض هذا الحِصار، حتى الآن على الأقل، أو هكذا نَعتقد.
مرّةً أُخرى نَقول أنها مَعركة عَض أصابع فَشلت جميع الوساطات في إنهائها حتى الآن، ونحن في انتظار من يَصرخ أوّلاً، ويَرفع الرّاية البيضاء، أو انطلاق “شرارةٍ ما” تُشعل فَتيل المُواجهة العَسكريّة، وهذا مَوضوعٌ آخر.