ماذا تفعل الـ”سي آي إي” في أوكرانيا؟
لم تكن زيارة مدير الوكالة المركزية الأميركية “سي آي إي”، جون برينان، إلى أوكرانيا في 13 نيسان الحالي، مجرد نزهة، بل كانت مناسبة لتعزيز فرص التعاون مع الاستخبارات الأوكرانية. وبشكل خاص حول المعلومات الراهنة، فالرجل مهتم بشكل خاص بمعلومات حول تحركات القوات الروسية بالقرب من الحدود.
الساحة الأوكرانية باتت اليوم حلبة كباش بين الدب الروسي والعم سام، على مناطق غنية بمصادر الطاقة، وأخرى ذات بعد جيوستراتيجي من شأنها أن تخدم تطلعات أمنية وطموحات سياسية لهذ القطب الدولي أو ذاك، لذلك تنشط الحرب الأمنية في مثل هذه الظروف وتبدأ عملية صيد المعلومات على نطاق واسع.
فالحضور الأميركي في الساحة الأوكرانية لا يقتصر فقط على تواجد استخباراتي لمتابعة تحركات وحشود الجيش الروسي، بل هناك ما حذرت منه وزارة الخارجية الروسية في 8 نيسان الحالي، حين أبدت “قلقها البالغ” من مشاركة 150 خبيراً أميركياً من منظمة «غريستون» العسكرية الخاصة في عملية عسكرية تقودها كييف في الشرق الأوكراني، وكانوا يرتدون زي عناصر قوات «سوكول» الخاصة الأوكرانية.
غير أن الأمر لا يتوقف هنا، فزيارة مدير الـ”سي آي إي” إلى كييف كانت زيارة غير عادية “طارئة” حسبما رأى الكاتب آندريه آيشهوفر في صحيفة “دي فيلت” الألمانية، في تقرير كتبه من العاصمة الأوكرانية.
يسأل الكاتب عما تحدث به برينان هناك؟، مشيراً إلى أن الـ”سي آي إي” لم تكشف مضمون المحادثات، خصوصاً خلال لقائه رئيس الوزراء أرسيني ياتسينيوك، ونائبه فيتالي ياريما.
وفيما تم تأكيد هذه المشاورات لاحقاً على لسان المتحدث باسم البيت الأبيض جاي كارني، كشفت مصادر أمنية أن مسؤولين في الاستخبارات الأميركية تعهدوا لأوكرانيا بتقديم دعم الولايات المتحدة السياسي، حسبما نقلت “دي فيلت” عن متحدث باسم الـ “سي آي إي”. ولم يضف المتحدث شيئاً لأن تفاصيل المباحثات الأمنية غير مخول لا البيت الأبيض ولا الاستخبارات بالكشف عنها.
بيد أن الإعلام الروسي تحدث عن أن برينان سافر الى أوكرانيا تحت إسم مستعار. وفي أوكرانيا أجرى مع “الحكام” الجدد “محادثات سرية” تناولت الأزمة في شرق أوكرانيا، حسبما ذكرت وكالة “إنترفاكس” الروسية.
واقترح مديرالـ”سي آي إي” على كييف الشروع في اتخاذ تدابير لمكافحة الإرهاب ضد الانفصاليين في شرق البلاد، حسبما نقلت الوكالة نفسها. وهي العملية التي بدأتها سلطات أوكرانيا منذ يومين ضد مؤيدي روسيا في الشرق والجنوب من البلاد، ووقع حصيلته ثلاثة قتلى من الميليشيات الموالية لموسكو إضافة الى اعتقال عدد منهم.
لعل هذه المعلومات توافق رأي الكاتب السياسي المسؤول الأميركي الذي عمل في مناصب عليا في “البنتاغون”، ليزلي غيلب، الذي أشار في موقع “ذي ديلي بيست” الإلكتروني، إلى أن المقصود من زيارة برينان الى أوكرانيا توجيه رسالة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، “تدفعه نحو ضرورة التفكير في العواقب التي ستنجم عن غزو روسيا لشرق أوكرانيا واحتمالات مواجهته لحرب عصابات تشبه ما حصل مع القوات السوفياتية في أفغانستان قبل عقود.
من جهتها، الصحف الأوكرانية خمّنت بأن المحادثات تناولت تبادل المعلومات الاستخباراتية، في حين أشار الكاتب آيشهوفر الى أن الضابط في حلف شمال الأطلسي (ناتو) الجنرال فيليب بريدلاف، حث الغرب سابقاً على تمرير المزيد من المواد التوضيحية مثل صور الأقمار الاصطناعية الى أوكرانيا. غير أن اقتراح بريدلاف رُفض من البيت الأبيض، على اعتبار أن الولايات المتحدة ما تزال تعتقد أن الجيش الأوكراني واقع، الى حد كبير، تحت هيمنة الاستخبارات الروسية بما يعني عدم الثقة به تماماً.
على الرغم من ذلك يبدو أن اعتقاد البيت الأبيض بأن روسيا وأوكرانيا تتمتعان بشراكة وطيدة في الموضوع الأمني وفي تبادل المعلومات العسكرية بينهما، قد بدأ بالتغير بعد أن اقتحمت الميليشيات المسلحة المؤيدة لروسيا المباني الحكومية في شرق أوكرانيا وفي أعقاب تغيّر وجه السلطة في كييف لمصلحة الغرب، حسبما يرى آيشهوفر.
لقد أصبحت حكومة واشنطن ترغب في المستقبل بتمرير المزيد من المعلومات الاستخباراتية إلى أوكرانيا، كما أكدت الـ”سي آي إي”، بحسب الصحيفة الألمانية. خصوصاً المعلومات حول تحركات القوات أو بيانات الاتصالات العسكرية؛ فهي مهمة للحكومة الأوكرانية في الوقت الراهن.
من ناحيتهم الخبراء العسكريون في كييف يلفتون النظر الى “فقر التوجه الإستراتيجي واللوجستي” في الجيش الأوكراني، حيث تم اعتراض الاتصالات العسكرية من قبل الاستخبارات الروسية ونقلها إلى الميليشيات المؤيدة لها في الشرق. فالاستخدام العسكري الأوكراني للاتصالات المشفرة غير كاف. بحيث يمنعها من القيام بهجوم مباغت.
لذا أوردت وسائل الإعلام الأوكرانية أن كييف طلبت من واشنطن المساعدة لأن جيشها بحاجة الى تكنولوجيا الاتصالات الحديثة على وجه الخصوص.
وعلى ما يبدو فإن الإدارة الأميركية لا تعلن إلا عن معدات عسكرية “غير فتاكة” تزود بها الجيش الأوكراني، مع العلم أن تصريحات المسؤولين الأميركيين تؤكد أنهم يفكرون في تسليح هذا الجيش بوجه ميليشيات تابعة لروسيا، على طريقة خوض الحرب بالوكالة.
وقد يكون هناك بعض العمل السريّ الفعلي في المستقبل القريب أيضاً، حيث يميل البيت الأبيض إلى تزويد أوكرانيا بالأسلحة اللازمة لحرب العصابات مثل العبوات الناسفة وقذائف الهاون والأسلحة الصغيرة الخفيفة والقنابل اليدوية، حسبما جاء في تقرير”ذي ديلي بيست”.
صحيفة “دي فيلت” ترى من ناحيتها، أن تبادل المعلومات الاستخبارية بين واشنطن وكييف لا يزال محدوداً، فثمة حرص على عدم تجاوز “الخطوط الحمراء”. إلا أن ممثل الحزب الشيوعي في البرلمان الأوكراني فلاديمير غولوب، يرى أن إدارة أمن الدولة والاستخبارات الأوكرانية ووكالة الاستخبارات المركزية تعملان معاً وبشكل وثيق بالفعل. ويضيف أن الأميركيين يعملون للسيطرة على الاستخبارات الأوكرانية.
وعلى ما يبدو فإن الروس واعون جداً لما يجري على المستوى الاستخباراتي بين واشنطن وكييف، إذ لا تزال أشباح الحرب الباردة تهيمن على مناخ العلاقة بين الطرفين الدوليين، لذلك وصف نائب رئيس اللجنة العسكرية التابعة لمجلس الدوما الروسي فرانتس كلينزيفتش، تبادل المواد الاستخباراتية بأنها “استفزاز” بالنسبة لموسكو.
وربما ما أسفرت عنه المحادثات الرباعية في جنيف الخميس حول نزع كل سلاح غير شرعي وإعادة كل المباني الحكومية للدولة الأوكرانية يصب في مصلحة هدف بوتين الذي يطرح دولة محايدة في أوكرانيا ليست ضمن الاتحاد الأوروبي وبالتأكيد لا ينبغي أن تنتمي إلى حلف شمال الأطلسي. هذا ما وصفته الصحيفة الألمانية بـ”فنلندنة” أوكرانيا، أي جعلها على صورة فنلندا خلال الحرب الباردة. إذ تتضمن عقيدة فنلندا العسكرية دفاعها المستقل عن النفس وعدم الاعتماد على أي مساعدة ودعم خارجي، وأيضاً عدم التدخل في الصراعات الدولية.
وبالعودة إلى حساسية الموضوع العسكري بين موسكو وكييف، تتخوف روسيا بشكل كبير من وصول معلومات حول أسلحة روسية تمتلكها القوات الأوكرانية الى دول معادية. لعل ما يصب في هذا السياق مطالبة وزارة الخارجية الروسية من المسؤولين الأوكرانيين الامتناع عن تخريب نظام منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، رداً على خبر صحافي ذكر أن أوكرانيا قد تبيع إلى دولة أجنبية كتركيا تكنولوجيا صناعة أقوى صاروخ بالستي في العالم “فويِفودا” القادر على حمل رؤوس حربية تزن أكثر من 500 كيلوغرام مسافة تزيد على 300 كيلومتر.
وكانت أوكرانيا قد توقفت عن إنتاج الصواريخ الحربية التي كان ينتجها الاتحاد السوفياتي، ولكنها تحتفظ بمستندات صناعتها وقد تبيعها إلى من يدفع في حال توقف التعاون الصناعي العسكري بين المصانع الأوكرانية وروسيا. من هنا تبدو زيارة برينان الى أوكرانيا ذات طابع أبعد من مسألة مناقشة الأوضاع، طالما أن جارة الدب الروسي تشاركه أسراراً عسكرية وأمنية منذ زمن السوفيات. لعل الأمر يبقى رهن بقدرة حلفاء موسكوعلى السيطرة على زمام الأمور الاستخباراتية في الدولة المعرّضة للانقسام في أي لحظة.
معمر عطوي – صحيفة السفير اللبنانية