لماذا الغارة «الإسرائيلية»… وكيف يردّ حزب الله؟
عصام نعمان *-
صحيفة البناء اللبنانية:
أغار سلاح الجو الإسرائيلي مطلعَ الاسبوع الماضي على منطقة جبلية على الحدود اللبنانية السورية. لم يصدر، بادئ الأمر، أي بيان رسمي عن أيّ جهة بتأكيد حدوث الغارة أو نفيها. اكتفت «إسرائيل»، كعادتها، بالإيعاز إلى وسائل إعلام محلية وأخرى أميركية وأوروبية بنشر أخبار «مسرّبة» منسوبة الى مسؤولين اسرائيليين «كبار» حول الغارة بروايات متضاربة.
بعد 36 ساعة من الإعلان عن الغارة، اعترف حزب الله بوقوعها وبأنها استهدفت موقعاً له قرب قرية جنتا، وأن لا صحة بتاتاً لمزاعم عن استشهاد أو جرح أحد من مقاتليه أو استهداف مواقع صواريخ ومدفعية له في المنطقة، متوعّداً «إسرائيل» بالرد في الزمان والمكان المناسبين.
إذ اقرّت «إسرائيل» مداورةً بحصول الغارة من دون تحديد المكان والزمان والهدف والنتائج، تساءل مسؤولون ومراقبون لبنانيون وعرب عن الغاية من ورائها؟
خبراء عسكريون وإعلاميون لبنانيون متمرّسون أجروا، منفردين، تحقيقات في الموضوع خرجوا بالحقائق الآتية:
استهدفت الطائرات الحربية الاسرائيلية ثلاث نقاط جبلية داخل الاراضي اللبنانية تقع على حافة منطقة جنتا المحاذية للحدود مع سوريا.
لم تتوافر أي معلومات حول خسائر بشرية أو مادية لحقت بحزب الله أو بالقوات النظامية السورية الموجودة في الاراضي السورية المقابلة لقرية جنتا.
هذه أبرز حقائق المشهد من الجانب اللبناني. ماذا عن الجانب الإسرائيلي؟
ثمة تضارب في المعلومات التي أوردتها وسائل الإعلام الإسرائيلية والاميركية والاوروبية حول حقيقة الغارة وملابساتها، يتضح منها وجود تمويه مقصود. فمكان الغارة غير واضح تماماً. مرة قيل إنه «داخل لبنان»، ومرة أخرى «داخل سورية»، ومرة ثالثة «على الحدود» دونما تحديد دقيق. ثم إن طبيعة الهدف المضروب غير ملتبسة. مرة قيل «إرسالية صواريخ»، مرة أخرى قيل «منشآت لحزب الله»، مرة ثالثة «مخزن سلاح متطور لحزب الله». مجلة «تايم» الأميركية أشارت الى قافلة صواريخ أرض- أرض أخطر من معظم الصواريخ التي يوجهها الحزب ضد «اسرائيل»، في حين أوحى قائد قاعدة حيفا البحرية العقيد ايلي شافيط بأن الصواريخ المشار اليها هي صواريخ «ياخونت»… من كل هذه «المعلومات» المسرّبة او المعلنة يمكن استخلاص الحقائق والاستنتاجات الآتية:
ثمة حقيقة ثابتة هي حدوث غارة إسرائيلية داخل لبنان على حافة حدوده مع سورية.
مكان الغارة ارضٌ جبلية لا وجود فيها لطرقات ما يُستبعد معه قدرة قافلة سيارات شاحنة للصواريخ على المرور فيها.
لا يعقل أن تُقدِم سورية على إرسال قافلة تحمل صواريخ إلى حزب الله عبر منطقة جبلية تدور في جبالها وهضابها حرب ضارية بين جيشها وفصائل المعارضة السورية المسلحة. ليس من المعقول أن يجري نقل صواريخ كاملة التركيب وجاهزة للاستعمال من بلد الى آخر بواسطة شاحنات تسير على طرقات مكشوفة أو عبر مناطق جبلية وعرة بلا طرقات تجري في شعابها حرب ضروس منذ سنوات، بل المعقول أن يجري نقل مختلف أجزاء الصواريخ وغيرها من الاسلحة بأشكال ووسائل متعددة من بلد المنشأ الى البلد المقصود، حيث يصار الى تجميعها من قبل الجهة الراغبة في اقتنائها واستعمالها. في ضوء هذه الواقعات والملابسات، ينهض سؤال: لماذا قامت «اسرائيل» بالغارة الغامضة؟
من مراجعة مواقف وتصريحات المسؤولين الاسرائيليين والاميركيين ذوي الصلة ومن تعليقات المحللين السياسيين والعسكريين في لبنان وسورية و»اسرائيل» يمكن استخلاص ثلاث غايات محتملة للغارة:
الأولى، التهويل على سورية وحزب الله لحملهما على وقف استعداداتهما الميدانية لاقتحام مدينة يبرود في منطقة القلمون لأن من شأنه أن يحسم، الى حد بعيد ميزان القوى الداخلي لمصلحة النظام.
الثانية، إيهام سورية وحزب الله بأن ثمة هجوماً لفصائل المعارضة بدعم جوي من طرف «اسرائيل» او اميركا او كليهما لحملهما على سحب قواتهما من الجنوب حوران بغية تعزيزها في محيط يبرود فيسهل على فصائل المعارضة المدعومة خارجياً شن هجومها المرتقب من جهة الحدود الاردنية.
الثالثة، إعادة تأكيد موقف «اسرائيل» القائل بمنع وصول «اسلحة كاسرة للتوازن» الى حزب الله تحت طائلة شن الحرب على مصدر الأسلحة والمستفيد منها. هذه الغايات الثلاث مرجّحة، لكن كيف سيكون ردّ حزب الله؟
الحقيقة أن حزب الله باشر ردة فعل بمجرد إعلانه أنه لن يسمح لـِ «اسرائيل» بتغيير قواعد اللعبة.
قواعد اللعبة الإسرائيلية كانت تقضي بأن تضرب «اسرائيل» ولا تعترف بضربتها، معوّلةً على أن يستفيد الطرف المضروب، سواء كان سورية او حزب الله، مما تسميه «هامش الإنكار» فلا يردّ، إما لأنه عاجز عن مواجهتها او لأن لا مصلحة له به لدواعٍ تتعلق بحساباته التكتيكية او الإستراتيجية. قرار حزب الله المعلن بالرد أربك «اسرائيل» بسرعة قياسية. فقد أخذته على محمل الجد وبادرت الى اتخاذ تدابير احتياطية ووقائية واسعة، براً وبحراً وجواً، ولاسيما في المنطقة الشمالية على الحدود مع لبنان وفي الجولان السوري المحتل. كما قامت بتشديد إجراءات الحيطة حول السفارات والمؤسسات الإسرائيلية في الخارج مخافةَ ان يستهدف رد حزب الله سفيراً او قيادياً مرموقاً. غير أن أهم مردود لقرار حزب الله بالرد هو تراكم الخسائر الاقتصادية والمالية الناجمة عن بقاء «اسرائيل» في حال ترقّب وتحوّط وشبه شلل في مرافقها العامة والخاصة التي تقدّر بنحو 200 مليون دولار يومياً.
مع ذلك، يبقى السؤال مطروحاً : كيف يرد حزب الله؟
الخبراء والمحللون الإستراتيجيون اللبنانيون المقربون من حزب الله منقسمون في تقديراتهم حول مكان الضربة الثأرية وزمانها. بعضهم يرجّح أنها لن تنطلق من لبنان أو سورية، إنما من قلب فلسطين المحتلة، وأن حزب الله لن يقوم بتبنيها، لكن «اسرائيل» ستدرك بالتأكيد هوية مصدرها. بعضهم الآخر يعتقد أن حزب الله، كما سورية، منشغلان بالحرب الدائرة في سورية وعليها ولن يتصرفا، تالياً، على نحوٍ يؤدي الى إلهائهما عن محور الجهد الرئيس في الداخل. وعليه، فإن الضربة المرتقبة ستكون بعيدة من حدود البلدين مع فلسطين المحتلة، وإنها على الارجح ستكون في الخارج ومن دون تبنٍّ لها من قبل حزب الله. غير أن فريقاً ثالثاً يتوقع أن يغيّر حزب الله قواعد اللعبة فيقوم بتوجيه ضربته الى جسم بحري أو جوي إسرائيلي بسلاحٍ نوعي يُعتبر «كاسراً للتوازن»، فيكون من شأنه تحقيق الأهداف الآتية: أولاها، إشعار «إسرائيل» بأن لا سبيل بعد الضربة لمعاودة اعتداءاتها من دون مكابدة عقابٍ قاسٍ.
ثانيها، إفهام «إسرائيل» والعالم أن حزب الله استحوذ على أسلحة كاسرة للتوازن، وأن لا سبيل بعد اليوم الى تبرير اعتداءاتها بالإدعاء أنها لمنعه من حيازتها.
ثالثها، إفهام «إسرائيل» أن مرافق حيوية جداً، كمنصات استخراج الغاز من البحر المتوسط، هي بالتأكيد في مرمى صواريخ حزب الله وأنه لن يتردد بقصفها وتعطيلها إذا ما حاولت منع لبنان من التنقيب عن الغاز والنفط في منطقته الاقتصادية الخالصة التي استولت على ما لا تقل مساحته عن 850 كيلومتراً مربعاً.
… ويبقى الانتظار المقلق أقسى مراحل الرد.
* وزير سابق