لبنان لحظة انفراط العقد: نظّفوا بيوتكم من خيوط العناكب
موقع العهد الإخباري-
د. حسين عبيد :
ثمة فوضى عارمة، تتقمص هذا البلد، وفيها المصائب تنهال على رعاياه من كل حدب وصوب، والكل يتهم الكل، حتى غشيت الأبصار وانكمشت البصائر.
بلد لم تكن فيه المشاكل بنت ساعتها، بل هي وليدة أزمات تضرب في أعماق هذا الكيان منذ ولادته، رسمت صورته الملائكيّة بنرجسيّة طوائفيّة، حملت معها للبعض أطراف المجد، وهو أشبه بكائن خلدوني، يمر بأطوار ومراحل، من فترة الحضانة الفرنسيّة المباشرة، حتى الاستقلال، حيث ترعرع الفتى وشبّ، من بعد سنواتٍ شهد فيها العافية المزجاة بعلقم تَبِعَهَا في انتفاضات وتمردات تجلت في حرب طائفيّة – أهليّة، وفيها اجتياحات واجتياحات في الداخل ومن الخارج، فيها ومعها تصارعت الهويّات، أزجت اتفاقًا من مشتقات الطوائف (الطائف)، لبنان عربي الهويّة والانتماء، فلبس لبوس العرب على مضض، ومن تحت رماد يستعر صراعًا بين مشاريع غربية وأخرى شرقيّة، ونار الحقد الطوائفي تلتهم كل المسرّات، والعنصريات تضرب في أعماق النفوس، ولا نزال تحت مطايا المناداة بالسيادة والاستقلال والحريّة، وفحيح المساواة… ونطرق كما في السابق، بل بوتيرة أشد، أبواب الجمعيّات والمنظمات، بعد أن أخفقت التيارات والأحزاب، لنرى بصيص أمل ما، ولكن هل من خلاص؟ فهيهات وهيهات!!!
هو بلد أسلم قياده للجمعيّات والمنظمات، ولا هم لقادة الجمعيّات ومسؤولي الوزارات والمؤسسات سوى مشاريعهم المرتهنة للتمويل، والتمويل يقوم على أساس إنجازها وإلّا.. تارة من سفارات وأخرى من جمعيّات ومنظمات بمشاريع شعاراتها برّاقة: العدالة الانتقالية، ورديفتها سمفونيّة السلام، وعلى كتفها شارة حقوق الإنسان وحمايته من الانتهاكات، ولا يخفى من حفيف المساواة على جندر مبتغى… وغيرها وغيرها من الفذلكات.
بلد تحكمه فعلًا المافيات بملامس ناعمة. بلدٌ أقل ما يقال فيه أنّه أضحى مشرذمًا، لدرجة أنّ الجمهوريّة فيه أضحت مئات الجمهوريّات، ومعها نشهد على الآلاف وعشرات الآلاف من الرئاسات، منظمات وجمعيّات وهيئات وأحزاب وتيّارات، كلٌّ فيها قائد، مدفوعة بمجتمع مفتوح، الفرد فيه هو العنصر والقائد، وربّ بعض الرياسات لا يتجاوز مرؤوسيها بضع أفراد وربما عشرات، باختصار إنّها أطروحة دولة الفرد، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، حيث القيادة الموحدة متعذرة، وصعبة التحقق والمنال.
أين نحن من بلد تتحكم في مفاصله دولة عميقة؟ أسودُها سياسيّون وشركات ومنظمات وجمعيّات وهيئات، ومن ورائهم منظومات عابرة للقارّات؟
كلما تحدثنا عن إنقاذ قطاع ما في وزارة أو مؤسسة ندق نواقيس الخطر، نستصرخ المنح والهبات والمكرمات، من سفارات، ومن جمعيّات، ومن صندوق نقد دولي، أو مؤسسة من هنا أو مؤسسة من هناك.
فلننظر ماذا يجري على مستوى رئاسة الجمهوريّة، وما يحصل من تناطح بين هذا وذاك في الداخل، على وقع صراع خفي ومرير في الخارج، وحكومة مشلولة لا حيلة ولا قدرة لها على فعل شيء، تتمنطق بالمصلحة الوطنيّة، والوطنية منها براء… ومجلس نيابي يلتف حول نفسه، بتشريعات مردودها هباء، ووزارات تغزوها جمعيّات ومنظمات تخضع لحكم قناصل وسفارات، خيوطها ممسوكة من استخبارات، وصندوق نقد دولي على الكتف، ينوء بمكرمات ثقيلة على المراكز والمؤسسات والوزارات.
وبعد كل هذا، ونَسأل عن واقع بلد هو في الحضيض، نفتقر فيه إلى الأمن في الغذاء، والصحة، والعدالة، والقضاء، والتربية، والتعليم، والطّب، والرياضة، وفي كل عناصر الحياة ومكوناتها.
عن أيّ سيادة واستقلال وحريّة تتحدثون؟ هذا يستدعي التدويل، وذاك يُهلل لعروبة بتراء، وثالث ينشد الولاء لحزب بالمطلق، أو لجمعيّة أو لصّ قابع وراء الأكمة، تحركه أياد خفيّة من غرف سوداء موصدة.
وهنا نسأل من المستفيد من تغيب أو تغييب الدولة بأجهزتها ومؤسساتها؟ فلو كانت الدولة القادرة المقتدرة موجودة، هل كانت مؤسسات الدولة بحاجة لجمعيّات ومنظمات تمولها، وتفرض عليها مشاريعها وقيمها؟
وقد يحضر بالبال سؤال، لماذا يحصل في البلد كل ما يحصل، فهل بقي على صورة راسميه أم أنّ تغيّرًا ما حصل في وجهته وهويته فأضحى في مقلب مغاير للهدف المرسوم من إقامته؟ وهل كان راسموه يتوقعون بقاءه كما في صورة رسمه أم أنّ الأمور بطبيعتها تغيرت فاعتبروا أنّه تزحزح عن وظيفته ودوره، ولذلك عليه أن يلقى العقاب المناسب؟
في الواقع، المنظمات والجمعيات بعناوينها المعروفة، جمعيّات غير حكومية، غزت المؤسسات الحكومية واتخذتها مقار لها، وبمسميات متنوعة وأشكال وأساليب مختلفة، تنفذ أجنداتها بكل أريحيّة، حتى بتنا في وضع أصبحت فيه كل مؤسسة كيانًا قائمًا بحدّ ذاته…. فأين المسؤولون والقيّمون على هذه المؤسسات الحكوميّة؟ هل أصبحوا بمثابة مديرين ورؤساء لمشاريع الجمعيّات والمنظمات متلبسين لبوس التوظيف الرسمي والحكومي؟ أم هو الرضوخ لأمر واقع؟ أم وأم وأم؟ وبالتالي هل من سبيل إلى أن يتحرر القطاع الرسمي بكل أشكاله من هذه السطوة؟ ومتى؟ وصولًا إلى لحظة الاتكال على الموارد الذاتية، وإن كان لا بد من مساعدة في مجال ما، فليكن بالأصالة المنبثقة من منظومات قيمنا هي الحاكمة.
في كلّ الأحوال، إنّها لحظة انفراط العقد، المنسوج بخيوط الوهن، التي رسمت منذ زمن بعيد على عجل بعمى الألوان الخارجي، ولو جاز لنا القول هنا: إنّ البنيان بأساسه الثابت والمتين، لن تقوى العواصف والأعاصير مهما بلغت شدتها وقوّتها على النيل منه، ولكن البناء إن تراخت أساساته خسفت به الأرض، فيفقد توازنه، ومآله الانهيار.
ونختم بقول للمؤرخ اللّبناني المعروف كمال الصليبي، بمقولة ينشد فيها خلاص البلد، حيث نراه يدعو اللّبنانيين: أيّها اللّبنانيون نظّفوا بيوتكم من خيوط الوهن، خيوط العناكب.