لبنان على رف «المملكة» في انتظار الحسم السوري
صحيفة السفير اللبنانية:
حسناً فعل سعد الحريري بأن طلب من تيار «المستقبل» مراجعة تجربة ما بعد خروجه من السلطة، وتحديداً مراجعة منظومة علاقاته مع حلفائه وخصومه، فضلاً عن طريقة تعامله مع عدد من الملفات اللبنانية والإقليمية، وأبرزها الملف السوري وملف الجيش اللبناني و«حزب الله».
حسناً فعل سعد الحريري الذي بات يدرك اليوم أكثر من غيره أن الزمن السعودي ليس زمن مبادرات لبنانية، ولا فتح أبواب المال السعودية لهذا الحليف اللبناني أو ذاك، بل هو زمن مراوحة وانتظار وتجميد، في انتظار جلاء الصورة الكبرى في المنطقة وركيزتها الصورة السورية.
وحسناً أن وليد جنبلاط قرر التواضع ثم التدرّج في هذا التواضع الى حد الإحباط، بعدما تيقن أن وضع يده بيد السعوديين، في مواجهة بشار الأسد و«حزب الشيطان» (هكذا يسمّي أهل البلاط الملكي «حزب الله»)، يمكن أن يقود إلى إحراق لبنان.. ولأجل ماذا؟ فقط لأجل تصفية الحسابات وتحسين موازين قوى وتجميع الأوراق في المنطقة.
اعتقد السعوديون للحظة بعد أن استقالت حكومة نجيب ميقاتي أنهم أمسكوا مجدداً بملف لبنان بفضل معادلة جديدة يحاول وليد جنبلاط إرساءها، لكنهم سرعان ما أدركوا أن لجنبلاط حساباته المعقدة لبنانياً وسعودياً التي تجعله غير قادر على مغادرة المنطقة الضبابية، فـ«عندما تتصارع الدول، على صغار القوم أن يحموا رؤوسهم.. وإلا يذهبون «فرق عملة»، ان لم يكن «دعوسة»»، على حد تعبير الزعيم الدرزي نفسه!
تغيّر المشهد السعودي داخلياً. بين رمضان 2012 ورمضان 2013، ثمة مواقع سعودية تتحرّك. مواقع تتقدم وأخرى تتراجع. الثلاثي الأمني بندر بن سلطان ومحمد بن نايف ومتعب بن عبدالله، يمسك بالمفاصل الأساسية في المملكة. رئيس الديوان الملكي يتغير. أمراء يغادرون مناصبهم ليس الى مناصب جديدة بل إلى منازلهم. احتجاجات صامتة وأخرى لا تغادر عتبات الدواوين، وثمة روايات نسجت حول حقيقة ما رافق العودة المفاجئة للملك عبدالله بن عبد العزيز من المغرب الى بلاده في شهر حزيران المنصرم.. من «الأواكس» التي حلقت في سماء المملكة الى التحركات العسكرية التي شهدتها إحدى أبرز القواعد العسكرية الجوية في شمال المملكة (تبوك). صحيح أن الأميركيين يمسكون بزمام المفاصل الأمامية، ولكن القلق السعودي مقيم حتى إشعار آخر.
ليس خافياً على أحد أن الحراك الداخلي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالصراع على السلطة والخلافة، لكنه في جانب منه، يهدف الى بناء ركائز سعودية داخلية متينة تهيئ المملكة لإعادة لعب دور إقليمي من خلال إعادة الإمساك بعدد من الملفات الحيوية في المنطقة.
هذه المعادلة العامة متفق عليها بين «ثلاثي» بندر بن سلطان ومحمد بن نايف ومتعب بن عبدالله. ثمة اختلاف في مقاربة الأولويات والعلاقات الاقليمية، لكن يبدو أن دور بندر يتقدّم وهو الذي يُصر على الشراكة الكاملة مع الأميركيين. الرجل يحقق «نجاحات». الهاجس القطري انتهى. تركيا عادت الى تركيا ولن تشفى من أمراضها الداخلية حتى يمر زمن طويل. مشروع «الأخوان» تلقى ضربة كبيرة في مصر ولا يخفي السعوديون بصماتهم، لا بل فرحتهم بـ«الانقلاب».
ثمة أزمة مفتوحة في اليمن يقابلها عجز سعودي، وأزمة البحرين لا يمكن أن تنتهي الا بتكرار السيناريو القطري (ولي العهد يحل محل الملك ورئيس الوزراء)، ولا يخفي الأميركيون حماستهم لذلك. لكن ماذا عن سوريا والعراق ولبنان؟
في هذه الساحات الثلاث، «العدو واحد». إنه ايران. انتفى خطاب العداء لإسرائيل. يريدون عراقاً مركزياً لكن بحكم لا يكون أداة استراتيجية بيد الايرانيين. هكذا اتفقوا مع بشار الأسد عندما دعموا أياد علاوي وفاجأهم الإيراني بكسبه معركة المالكي.. وهكذا بذلوا الغالي والنفيس لأجل فوز سعد الحريري وفريقه السياسي.. قبل أن يقلب الإيرانيون المعادلة رأساً على عقب..
استعجل السعودي «استعادة» سوريا. قبيل رمضان العام 2012، يبعث الملك عبدالله بن عبد العزيز برسالة واضحة (عبر موفد سري) إلى بشار الأسد مفادها «فُكّ ارتباطك بالإيرانيين.. ونضمن لك بقاءك في السلطة وإنهاء الحراك».
ولسبب لا يملك الايرانيون تفسيراً له حتى الآن، فإن الأسد استمزجهم الرأي في ما وصله، وكان ذلك سبباً كافياً كي يتركوا له هامش اتخاذ القرار الذي يعتقد أنه الأنسب، قبل أن يفاجأوا بأنه أعطى جواباً سلبياً للسعوديين، كان كافياً كي يصبح شعار إسقاط النظام أولوية خليجية، فكانت معركة دمشق في رمضان 2012 ومن بعدها، قرر الإيرانيون ومعهم «حزب الله» الانخراط في المعركة مهما كانت الكلفة عالية.
سنة كانت كافية لتبدل جوهري في موازين القوى. صار شعار إسقاط النظام من الماضي. دفع القطريون ثمن الإخفاقات، فكان قرار السعوديين الأخير بأن يمسكوا بملف سوريا السياسي والتمويلي والتسليحي. صار التخاطب مباشراً بين بندر بن سلطان ونظرائه الغربيين. أخوه الأصغر منه (غير الشقيق) سلمان بن سلطان يدير «غرفة العمليات السورية» من عمان بوصفه معاونه في جهاز المخابرات. أمسك بندر بالائتلاف السوري من خلال تعديل موازين القوى فيه وتقديم أحمد الجربا على الآخرين. فتحت «حنفية» المال السعودي على مصراعيها. تكثفت وتيرة التسليح (برغم تحفظ الغرب على نوعية الأسلحة).
كل من التقى بندر، يدرك أن الرجل مقتنع بأن التسوية الأميركية الروسية في الملف السوري حتمية، ولو بأفق زمني طويل، وفي انتظار ذلك، على المملكة أن تعزز نفوذها في ساحة المعارضة، وتجمع أوراقها كي تكون بين الرابحين.. والا تنعقد التسوية وتجد نفسها خارجها كلياً… لذلك، ثمة قناعة بأن الشهور الآتية، (من أيلول وحتى كانون الثاني) ستكون شهوراً مفصلية وقاسية على الأرض السورية.
أين لبنان في هذه المعادلة؟
ليس أدلّ على الاهتمام السعودي بلبنان، سوى الإجازة المفتوحة التي أخذها سفير المملكة بدءاً من شهر رمضان. لبنان ليس أولوية سعودية. قالها بندر ومدير مكتبه لكل من راجعه لبنانياً. الحقد على «حزب الله» على خلفية معركة القصير، لا يوازيه حقد. خط الرجعة مع بشار الأسد محتمل والصلح مع ايران ممكن، أما مع «حزب الشيطان» فالقصة مختلفة. الإجراءات العقابية ضد الحزب من قبل مجلس التعاون الخليجي كانت بمثابة ورقة ضغط على الأوروبيين: «هل يُعقل أن تصنف دولنا «حزب الله» إرهابياً وأنتم تصرّون على التعامل معه بعدما قاتل الى جانب النظام في سوريا؟».
تلك العبارة التي قالها مسؤول سعودي كبير لوزير خارجية دولة أوروبية كانت كافية لتبديد تحفظات تلك الدولة وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي، وجاء الضغط الأميركي والإسرائيلي ليجعل المستحيل على مدى عشر سنوات، ممكناً في أقل من عشرة ايام.
أبعد من الحساب المفتوح مع «حزب الله»، بات لبنان بالنسبة الى المملكة ساحة احتياطية الى حين انقشاع الغبار السوري وانعقاد التسويات الكبرى. يعني ذلك أن لا قرار سعودياً أبعد من تزكية تسمية تمام سلام رئيساً للحكومة. لا استعداد لخطوة كبيرة من نوع تشكيل حكومة أمر واقع قد تفضي الى مشهد شبيه بالسابع من أيار، فتكون تلك الدعسة الناقصة مدعاة لخسارة ساحة احتياطية بدلاً من العكس، خاصة وأن الرهان على تطويع وليد جنبلاط وميشال سليمان قد فشل الى حد كبير، بدليل البرودة السعودية المتعمدة والتي بلغت حد الإهانة المتعمّدة لأحد موفدي الزعيم الدرزي الى السعودية مؤخراً.
أما حكاية إخراج ميشال عون من تحالفه الاستراتيجي، فلميشال عون أن يروي فصولها التي صارت ملكه والسيد حسن نصرالله، وكذلك للسفير السعودي علي عواض عسيري أن يروي كيف حاول توريط ميشال عون بموقف ضد «حزب الله»، فكان الجواب بعكس المشتهى!