لبنان بحاجة إلى قادة ينكرون ذواتهم في سبيل المصلحة العامة
جريدة البناء اللبنانية-
أحمد بهجة:
“كلّ ما دقّ الكوز بالجرّة” يخرج أحدهم لـ “يجلد” الرئيس البروفسور حسان دياب ويضع اللوم عليه ويحمّله مسؤولية ما يسمّونه “إعلان إفلاس البلد” لأنه أعلن في 9 آذار 2020 قرار الحكومة بتعليق دفع سندات اليوروبوندز.
آخر مَن استخدم السوط كان النائب مروان حمادة الذي غرّد بالأمس منتقداً ذلك القرار، والغريب أنه ابتدأ تغريدته بالقول: “الله لا يوجّه له الخير حسان دياب…”! هكذا بأسلوب غير لائق في التخاطب السياسي الذي يجب أن يبقى بعيداً عن الشخصانية، فكيف إذا انطوى الأمر على تمنّي الأذيّة للآخرين؟
لكن الغالبية الكبرى من المنتقدين يجافون الحقيقة ولا يتحدثون بموضوعية وفقاً لحقائق الأمور، وهذا أمر تعوّدنا على حصوله في لبنان دائماً، خاصة حين يرمي أيّ سياسي المسؤولية على غيره للتنصّل من تبعات ما قام به هو وفريقه من ارتكابات ومخالفات على مدى ثلاثين عاماً، أوصلت البلد إلى هذا الحضيض الذي يعيش فيه اللبنانيون أسوأ الأيام والأوقات من كلّ النواحي!
الحقيقة التي يعرفها الجميع هي أنّ الرئيس دياب أعلن في ذلك اليوم قراراً اتخذه مجلس الوزراء وليس قراره الشخصي، وكان فريق النائب حمادة ممثلاً في الحكومة من خلال وزيرة الإعلام الدكتورة منال عبد الصمد، وبالتالي لا يستطيع التنصّل من المسؤولية ورميها على الآخرين كما هي العادة!
من ناحية ثانية فإنّ الرئيس دياب لم يعلن قرار التوقف عن دفع اليوروبوندز هكذا بشكل مجرد عن أيّ أمر آخر، بل ألقى خطاباً مطوّلاً ضمّنه شرحاً مفصّلاً للأسباب التي أملت اتخاذ القرار، وليس أقلها أنّ الحكومة لو دفعت تلك السندات التي تبلغ قيمتها 12 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات، 2020 و2021 و2022، لكانت الخزينة أفلست بالفعل، أيّ أنّ الإفلاس كان ليحصل لو تمّ الدفع وليس بوقف الدفع كما قال حمادة وغيره من أعضاء الجوقة المعروفة!
كذلك فإنّ خطاب الرئيس دياب يومها تضمّن خريطة طريق لرؤية إنقاذية متكاملة من شأنها أن تعيد الاقتصاد الوطني إلى السكة الصحيحة، بحيث ينتقل من خانة الاقتصاد الريعي القائم على المضاربات العقارية والمالية والفوائد الخيالية، إلى رحاب الاقتصاد المنتج القادر على خلق الفرص المطلوبة لتحقيق النمو والتنمية المستدامة، خاصة أنّ لبنان ليس بلداً فقيراً، بل يمتلك المقوّمات اللازمة التي تجعله ينهض باقتصاده ويلبّي حاجات شعبه الاجتماعية والإنمائية والخدماتية…
وبالفعل لم يمض وقت طويل حتى أقرّت حكومة الرئيس دياب في 30 نيسان 2020، خطة التعافي المالي والاقتصادي، ووضعت الأسس الصلبة وحدّدت الخطوات والإجراءات اللازمة لتنفيذها، وشرحت للبنانيين بدقة وصراحة تامّة حجم الصعوبات التي عليهم تحمّلها لكي تتوفر للخطة المذكورة ظروف النجاح.
وفي جلسات لاحقة أتبَعت الحكومة خطة التعافي المالي والاقتصادي بخطط تفصيلية مواكِبة تُعنى بالنهوض بقطاعات الاقتصاد الحقيقي (الزراعة والصناعة والسياحة) على أن يُعتمد بشكل أساسي على التكنولوجيا المتطوّرة والذكاء الاصطناعي لأنّ ذلك من شأنه أن يعطي الإنتاج قيمة مضافة أكثر، وهذا بالضبط ما يحتاجه الاقتصاد اللبناني لكي يستعيد عافيته وقدرته على ترقية حياة المواطنين إلى مصاف الدول المتقدمة.
وهذا يُسجل لحكومة الرئيس دياب، لأنها أول حكومة لبنانية تضع خططاً إنتاجية من هذا النوع وتصوّت عليها وتقرّها، وهو ما نوّهت به مؤسسات دولية عديدة من بينها صندوق النقد الدولي، لأنّ وضع لبنان اقتصادياً لا يمكن أن يتحسّن إلا من خلال الإنتاج، ووقف سياسات لحس المبرد التي تؤدّي فقط إلى الخراب والدمار الذي نعيشه اليوم.
وبالعودة إلى خطة التعافي المالي والاقتصادي فإنّها لحظت بشكل واضح أنّ الشريحة الفقيرة في المجتمع وذوي الدخل المحدود لن توضع على أكتافهم أحمالٌ إضافية بل على العكس تمّت دراسة عدة وسائل لمساعدة هؤلاء على اجتياز المرحلة الصعبة، واستقرّ الرأي على إصدار بطاقة تمويلية تعطى بشكل مباشر لمئات آلاف العائلات، عوضاً عن سياسة الدعم التي حرّكها “حاكم” مصرف لبنان رياض سلامة كما يشاء، واستغلها كبار التجار والمستوردين والمحتكرين ولم يصل من الدعم للمستحقين إلا القليل.
وما ان أحِيلت خطة التعافي المالي والاقتصادي إلى المجلس النيابي، وتحديداً إلى لجنة المال والموازنة، حتى تلاقى الجلادون إياهم من فريق التخريب لقطع الطريق أمام تنفيذ الخطة التي من شأنها أن تقلب الأمور رأساً على عقب، للمرة الأولى في تاريخ لبنان، بحيث لا يتحمّل أعباءها عامة الناس بل أركان طبقة سياسية ومالية ومصرفية ومَن معهم من رجال دين وإعلاميين مهللين وليس مُحللين!
وللتذكير فإنّ صندوق النقد الدولي رحّب بخطة التعافي الاقتصادي والمالي التي أقرّتها حكومة الرئيس دياب، وأعرب موفدوه إلى لبنان عن استيائهم الشديد لأنّ هناك سياسيّين عملوا على عرقلتها ووقف تنفيذها، علماً أنّ الحكومة الحالية اعتمدت الخطة نفسها تقريباً في آخر جلسة عقدتها قبل أن تصبح حكومة تصريف أعمال بعد الانتخابات النيابية في منتصف شهر أيار الماضي، مع فارق أنها عدّلت في نسب توزيع الأعباء، حيث أرادت أن يتحمّل المودعون الخسائر التي تكبّدها مصرف لبنان والمصارف الخاصة، بدل أن يتحمّلها مَن تسبّب بخسارتها، أيّ “الحاكم” ومعه أرباب هذا القطاع من أصحاب المصارف وشركائهم السياسيين ورجال الدين والإعلاميين!
ختاماً لا بدّ من القول إنّ أوضاع الناس لم تعد تحتمل هذا الاهتراء الذي يضرب كلّ مفاصل البلد، وبات لزاماً على الجميع أن يضعوا جانباً مصالحهم الخاصة، وأن يقوموا بمسؤولياتهم تجاه مجموع المواطنين بدون خوف على ثروة أو على امتيازات في الداخل والخارج، وما على الخائفين إلا التنحّي لكي يتقدّم الصفوف مَن هم مؤهّلون للقيادة بكلّ ما تفرضه عليهم من تضحيات وبذل ونكران الذات من أجل المصلحة العامة…