“لبنان الكرامة والشعب العنيد”.. ليس خاضعًا
موقع العهد الإخباري-
جورج حداد:
منذ المظاهرة الدامية لدعم المقاومة الفلسطينية في 23 نيسان 1969 وحتى اليوم، يدور على الساحة اللبنانية صراع شديد، عسكري ــ سياسي ــ اقتصادي ــ اعلامي وثقافي، تداخلت فيه العوامل المحلية والعربية والاقليمية والدولية، وتخللته الحرب الأهلية اللبنانية، والقتل على الهوية والتقسيم الجغرافي ــ الطائفي للبلد وتجربة “الحكم الذاتي” لكل منطقة، والمجازر ضد اللاجئين الفلسطينيين، وإسقاط مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين وكسر شوكة الحركة الوطنية اللبنانية واغتيال كمال جنبلاط وتغييب الامام موسى الصدر لصالح أميركا و”اسرائيل” والسعودية وطابورهم الخامس في لبنان، والحروب والحملات العدوانية الاسرائيلية فائقة الوحشية (ومنها الحصار الاسرائيلي لبيروت اكثر من 80 يوما وتدميرها بوحشية في صيف 1982، وآخرها عدوان تموز ــ آب 2006)، ونزول القوات الاميركية والناتوية متعددة الجنسية في لبنان وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية، وعقد مؤتمر الطائف برعاية اميركية ــ سعودية، وتغيير الدستور اللبناني، واغتيال رفيق الحريري والخروج السوري من لبنان، وأخيرًا وليس آخرًا ما يواجهه لبنان اليوم، شعبًا ومقاومة ودولة وجيشًا، من حرب شعواء، مالية ــ اقتصادية ــ صحية ــ اعلامية ــ نفسية، لأجل فرض الاستسلام عليه أمام الجبهة الامبريالية الاميركية ــ اليهودية و”الانظمة العربية”، والسعودية على رأسها، اللاهثة نحو التطبيع مع “اسرائيل”، وإدخال المنطقة العربية في “العصر الاسرائيلي”، وخلال هذه الملحمة التراجيدية الطويلة، الدامية والاليمة، التي لم تنته فصولًا بعد، برز على سطح كل الأحداث تياران شعبيان لبنانيان متناقضان 180 درجة وهما:
الاول ــ “التيار الوطني”: هو تيار شعبي وطني تحرري، يتمسك بالانتماء التاريخي، القومي والحضاري والديني (العربي، المسيحي الشرقي والاسلامي)، للبنان أرضًا وشعبًا. ويرى هذا التيار في لبنان وطنًا لشعب عريق جدير بالحرية والاستقلال الحقيقي التام، يضع نفسه ندًا في صفوف جبهة الشعوب المناضلة لتحرير الانسانية مرة والى الأبد من رقبة النظام العبودي الحديث للامبريالية الاميركية ــ الصهيونية العالمية.
والثاني ــ “التيار الكياني”: هو تيار “شعبي” يرى في “كيانه اللبناني” مزرعة تابعة للامبريالية العالمية والرجعية العربية، تعيش فيها كائنات البشرية، تتألف من:
ــ أ ــ شريحة واسعة من المواطنين العاديين، ربما الشرفاء بذاتهم، الذين أفقدهم الاستعمار الأجنبي والاستبداد المحلي والظلم المتمادي لمئات السنين، حس الانتماء القومي والحضاري والكرامة الانسانية، فاستسلموا لمشيئة “القدر” الذتي تفرضها اليوم الامبريالية العالمية على الشعوب المستضعفة، وأصبح كل همهم يقتصر على نزعة البقاء، وأن “يعيشوا بسلام”، ويأكلوا ويشربوا ويتناسلوا، ويعملوا لتحسين معيشتهم بأية وسيلة كانت، مستقيمة أم ملتوية، نظيفة أم قذرة، راضين ومستسلمين ومتكيفين مع الظروف والشروط، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التي تمليها الامبريالية واليهودية العالمية والأنظمة العربية الموالية لها.
ويرى هؤلاء أن “كيانهم” ينجح ويزدهر، ويعيش “شعبه” في رغد وبحبوحة بمقدار ما ينجح في الانضواء تحت لواء الامبريالية الأميركية والصهيونية العالمية والمملكة السعودية والانبطاح أمامها وإرضاء رغباتها.
ــ ب ــ وتتحكم بهذا الجمع عديم الكرامة الانسانية شريحة أو طبقة من أرباب الفساد والإفساد من اللصوص والنصابين ومهندسي الألاعيب المالية والصفقات المشبوهة والمضاربين والاحتكاريين مصاصي دماء البشر، الذين هم في الوقت نفسه وكلاء وعملاء للامبريالية و”اسرائيل” وشيوخ وأمراء النفط السعوديين.
وفي هذا الصدد يجدر التأكيد على الظاهرتين التاليتين:
الاولى ــ أن كلا هذين التيارين كان “مخترقًا” للطوائف.
والثانية ــ أن الصراع بين هذين التيارين لم يكن صراعًا ثانويًا أو جانبيًا، بل صراع “وجودي”، وجزء رئيسي من الصراع ضد الامبريالية والصهيونية العالمية والاحتلال الاسرائيلي.
ورغم كل ضراوة المعركة الدائرة على الارض اللبنانية، وسوريا، وتضافر القوى الامبريالية الاميركية والناتوية والاسرائيلية و”النظامية العربية” والداعشية، فإن الحركة الوطنية اللبنانية (بمعناها الواسع السياسي ــ العلماني والديني)، تمكنت من توجيه ضربات قاسية للجبهة المعادية وتحقيق انتصارات مفصلية عليها. ونذكر من ذلك:
ــ1ــ بروز المقاومة الوطنية والاسلامية وتحرير الارض اللبنانية المحتلة من دون قيد أو شرط لأول مرة في تاريخ الحروب العربية ــ الاسرائيلية.
ــ2ــ اضطرار القوات الأميركية والناتوية متعددة الجنسية للفرار مذعورة من لبنان، تحت ضربات المقاومة الباسلة.
ــ3ــ الانتصار التاريخي الكبير للمقاومة الاسلامية بقيادة حزب الله ضد العدو الاسرائيلي في حرب تموز 2006.
ــ4ــ المشاركة البطولية لحزب الله في الحرب ضد الجيش التكفيري الدولي الذي هاجم سوريا والذي كان يهدد باجتياح لبنان فيما لو قدر له الانتصار في سوريا.
واليوم يراهن التيار “الكياني اللبناني” على فرض رؤيته للبنان عن طريق أحد أمرين أو كليهما معًا وهما:
الاول ــ أن تؤدي حرب التجويع والحرمان والاذلال المعيشي للمواطنين اللبنانيين الى ضرب شعبية المقاومة وتدجين الشعب اللبناني بالدولار وتنكة البنزين والرغيف والدواء وحليب الاطفال.
والثاني ــ اذا فشلت خطة التجويع والحرمان، أن يتم افتعال اضطرابات أمنية، أيًا كان شكلها، لتبرير تدخل عسكري دولي ــ نظامي عربي ــ اسرائيلي، ضد المقاومة بقيادة حزب الله خاصة، وضد التيار الشعبي “الوطني اللبناني” عامة.
ولكن جهابذة التيار الشعبي “الكياني اللبناني”، يخطئون تمامًا في حساباتهم الإستراتيجية، ويخوضون حربًا خاسرة عاجلًا أم آجلًا. ويكفي أن نشير الى الأسباب التالية:
ــ1ــ ان جدلية الصراع الوجودي الشديد في لبنان اليوم لا تترك “سترا مغطى” وهي تكشف كل الاوراق. وشيئا فشيئا ترتسم الآن في لبنان لوحة سوريالية يظهر فيها حتى للعميان أن جميع الفاسدين واللصوص وأصحاب الصفقات المشبوهة والمتلاعبين بالدولار ومهربي الأموال الى الخارج ومهربي السلع المدعومة وتجار المخدرات والاحتكاريين ومجوعي الشعب، من جميع الطوائف، يصطفون معًا في جبهة واحدة مع التيار السياسي “الكياني اللبناني” الذي يحتمون به، بحيث يصبح النضال لأجل انقاذ لبنان من التجويع والفساد جزءًا أساسيًا من النضال ضد التيار “الكياني اللبناني” ومكوناته السياسية، داخليًا، وجزءًا أساسيًا من النضال ضد الامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية و”اسرائيل” والسعودية وزعانفها، خارجيًا.
وبالمقابل يبرز حزب الله بوصفه ليس فقط قائد مسيرة المقاومة ضد الامبريالية الاميركية و”اسرائيل” والسعودية، خارجيًا، بل وقائد مسيرة المقاومة ضد جبهة الفساد ولانقاذ الشعب اللبناني من التجويع، داخليًا.
ــ2ــ ان قادة التيار “الكياني اللبناني” تتشدق باستمرار بحاجة لبنان الى ما يسمونه “المجتمع الدولي” و”الاشقاء العرب”، ويقصدون دائمًا الدول الامبريالية عالميًا، والسعودية وزعانفها عربيًا، الى درجة انهم أكرهوا اعلاميًا مرموقًا مثل الاستاذ جورج قرداحي علًى تقديم استقالته من وزارة الاعلام، لمجرد قوله ان الحرب في اليمن هي عبثية.
هذا مع العلم ان هذا “المجتمع الدولي” وهؤلاء “الاشقاء العرب” لا يفعلون شيئا لمساعدة الشعب اللبناني، بل هم قادة الحصار وحرب التجويع ضد لبنان، مثلما هم قادة حرب الابادة ضد الشعب اليمني المظلوم.
ولكن العمى السياسي يمنع قادة التيار “الكياني اللبناني” من الاعتراف بأن التاريخ لم يعد يسير على توقيت واشنطن أو الرياض أو “تل ابيب”، وأن المجتمع الدولي لم يعد واحدًا، وأنه يوجد اليوم المحور الشرقي العظيم، الذي يتشكل الآن موضوعيًا من دول عظمى كروسيا والصين وايران، ذات الحضارات العريقة، والقدرات العسكرية والمالية والاقتصادية والعلمية والسياسية التي لا تقهر.
ــ3ــ ان الرأسمالية والامبريالية تستفيد بالتأكيد من التطور العلمي لزيادة تكديس الارباح. ولكن التقدم العلمي، والتطور التكنولوجي يسير، كاتجاه تاريخي رئيسي، في خدمة البشرية والشعوب المناضلة من أجل الحرية والتقدم. وهذا ينطبق أيضًا على العلوم والتكنولوجيا العسكرية. ويتبين ذلك بوضوح تام في الواقعين التاليين:
الاول ــ ان الميزانية الحربية الاميركية تبلغ 11-12 ضعف الميزانية العسكرية لروسيا. ولكن العلماء والخبراء العسكريين الروس، الذين يعملون ويبدعون بحوافز وطنية وفكرية اجتماعية انسانية، لا تتقيد بقوانين السوق والربحية الرأسمالية، كسروا معادلة التفوق الرأسمالي الاميركي على روسيا، وحققوا انجازات علمية وتكنولوجية ــ عسكرية، نوعية، لا مثيل لها، مكنت روسيا من ان تتقدم ــ حسب تقديرات الخبراء ــ عشرات السنين على اميركا. وهذا ما يجعل جميع الجنرالات الاميركيين يرتعشون كورق الخريف المتساقط امام فكرة الاصطدام العسكري الشامل مع روسيا.
والثاني ــ ان تطور علوم التكنولوجيا العسكرية، معطوفا على تراكم التجارب الكفاحية للثورات وحروب التحرير الشعبية، أديا الى اختراعات وابتداع تكتيكات عسكرية دفاعية وهجومية بسيطة ورخيصة وسهلة الاستعمال من قبل المقاتلين الشعبيين والناس العاديين. من ذلك مثلا: حفر الانفاق، والبالونات الحارقة، والغواصات الصغيرة، والصواريخ الدقيقة والأقل دقة، والطائرات المسيرة (الدرونات).
ان سعر طائرة الــF-35 الاميركية، التي تقتل بها السعودية الاطفال الرضع اليمنيين وامهاتهم، يبلغ مئات ملايين الدولارات، وتدريب الطيار السعودي قاتل الاطفال يكلف عشرات ملايين الدولارات وسنوات طويلة من الدراسة والتدريب، في حين أن الصواريخ والطائرات من بدون طيار، التي يطلقها الثوار اليمنيون وترعب السعودية، لا تكاد الوحدة منها تكلف سوى بضع مئات أو بضعة آلاف من الدولارات، ويمكن صناعتها في مشاغل بسيطة تحت الارض، ويطلقها مقاتلون شعبيون فقراء وبسطاء.
خلاصة: لبنان الوطني سيبقى وطن الشهداء الأبرار والأبطال الأحرار وأعظم وأشرف وأكرم الناس، كما يناديهم الضمير الحي للبنان الحر سماحة السيد حسن نصر الله، وسيبقى “لبنان الكرامة والشعب العنيد”، و”لبنان أخضر حلو” يشمخ فيه الأرز العتيق.