كيف تصنع الـ CIA جهاداً في سبيل الله؟
رنّ جرس الهاتف في حجرة نوم الرئيس الأميركي في الطابق الثاني بالبيت الأبيض. كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحاً. رفع الرئيس السمّاعة، فخاطبه صوت مستشاره للأمن القومي قائلاً: «سيدي الرئيس، آسف لأني اضطررت لإيقاظك. الوضع غَدَاً خطر».
بعد أربع ساعات تقريباً، في تمام السادسة والنصف صباحاً من يوم الخميس 27 كانون الأول 1979، نزل جيمي كارتر إلى المكتب البيضاوي. كان زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي بانتظاره جالساً مترقباً. بادره الرئيس بالسؤال: «ما الجديد؟».
أجاب بريجنسكي: «لقد قتلوا الرئيس أمين! الأمر لم يعد يتعلق الآن بإعادة تمركز قواتهم كما كنا نتصوّر من قبل، بل هو غزو واحتلال كامل للبلد! إنّ أعداداً كبيرة من القوات المجوقلة انضمت للقوات السوفياتية المتمركزة على الأرض، وبدأت بالهبوط في كابول. شبكة الاتصالات انقطعت بالكامل في أفغانستان، وهذا البلد صار معزولاً تماماً عن العالم الخارجي».
صمت بريجنسكي قليلاً ثمّ نظر في أوراق دوّن عليها بعض النقاط والملاحظات، وأردف: «سي آي إيه أكدت لي منذ قليل أنّ كتيبتين من القوات الخاصة السوفياتية هما «ألفا» و«زينيث»، قامتا باحتلال الأبنية الحكومية والعسكرية والإذاعية في كابول، بما فيها القصر الرئاسي، حيث تخلصوا من الرئيس حفيظ الله أمين. وكتيبة «فايتبسك» المظلية احتلت مطار بغرام. وأمّا عملاء «كي جي بي» فقد أحكموا السيطرة على مراكز الاتصالات الرئيسية في العاصمة، وشلوا بذلك القيادة العسكرية الأفغانية».
سأل كارتر: «وهل تظن أن غزوهم سيقتصر على أفغانستان؟». صمت بريجنسكي برهة قليلة، ثمّ أجاب: «تقديري الخاص، أن غزو السوفيات لأفغانستان هو بداية الأمر، وليس نهايته. ويشاطرني في هذا الرأي أيضاً الأميرال تيرنر» (يقصد ستانسفيلد تيرنر، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية آنذاك).
حكّ الرئيس كارتر أنفه وهو ينظر إلى زبيغينيو بقلق، فأردف كبير المستشارين البولندي الأصل، موضحاً لرئيسه مكمن الخطر: «السيد الرئيس، إذا تركناهم اليومَ يضعون أيديهم على أفغانستان، فما الذي يضمن لنا أن لا يتطلعوا غداً نحو إيران؟! الوضع الآن في إيران مشوش. ونحن فقدنا السيطرة تماماً على هذا البلد الأهم في الشرق الأوسط، والخميني يبدي عداء ضارياً لنا، والحكومة الإيرانية تخشى من ضربتنا الوشيكة لهم بعدما احتجزوا موظفي السفارة. كل هذا قد يجعل الخمينيين يتقربون من السوفيات ويحتمون بهم، كما تقرّب بالأمس منهم أمين واحتمى بهم. والسوفيات إذا مدوا عروقهم أكثر في طهران، صنعوا فيها ما يصنعونه اليوم في كابول. فإذا سقطت طهران بعد كابول، صارت منابع النفط في الخليج الفارسي في متناول يد موسكو!».
ران صمت ثقيل في المكتب البيضاوي، قبل أن يقطعه الرئيس الأميركي قائلاً بصوت حازم: «ادع مجلس الأمن القومي فوراً».
صبيحة يوم 27 كانون الأول 1979، انعقد مجلس الأمن القومي الأميركي في «مبنى إيزنهاور» المقابل للبيت الأبيض. ضمّ الاجتماع كلّاً من الرئيس كارتر، ونائبه والتر موندل، ومستشار الأمن القومي بريجنسكي، ووزير الخارجية سايروس فانس، ووزير الدفاع هارولد براون، ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال ديفيد جونز، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية ستانسفيلد تيرنر، وبعض المستشارين المتخصصين المرافقين لأعضاء المجلس. دام ذلك الاجتماع أربع ساعات. واتفق فيه على جملة من القرارات تصب في خدمة هدفين اثنين هما:
1ــ يجب على الولايات المتحدة أن تردع الاتحاد السوفياتي بكل وسائلها، كي لا يطمع قادته أو يفكروا فيما وراء أفغانستان.
2ــ بعد التأكد من تحقق الهدف الأول، يجب على الولايات المتحدة أن تعمل لدحر السوفيات في أفغانستان نفسها، حتى يخرجوا منها مهزومين غير منتصرين.
وفي ما يخص الهدف الأميركي الأول، يكون على واشنطن أن تنبّه السوفيات بالوسائل الدبلوماسية/ السياسية بدايةً، ثمّ بفرض العقوبات الاقتصادية/ المالية عليهم تالياً، ثمّ بتفعيل الاتفاقيات الأمنية/ العسكرية السرية المبرمة مع ملوك ورؤساء وأمراء البلدان الحليفة في الشرق الأوسط. وفي هذا الصدد، يكون على السفراء الأميركيين المعتمدين في العواصم الخليجية (وفي القاهرة وعمّان) أن يطلبوا من السلطات المحلية تنفيذ تفاهمات واتفاقات سرية أبرمت مع الولايات المتحدة سابقاً، بما في ذلك حق أميركا في استخدام القواعد العسكرية في بلدانهم للأغراض الحربية. ويفضل أن تمر تلك الإجراءات بهدوء، ومن غير صخب إعلامي.
وأمّا في ما يخص الهدف الأميركي الثاني، فإنّ واشنطن يجب أن تنال غايتها من دون أن تتدخل عسكرياً أو علنياً ضد السوفيات في أفغانستان، وذلك لثلاثة أسباب:
أولاً: لأنها لا ترتبط قانونياً مع حكومة كابول بأي اتفاق دفاعي مشترك، على عكس غريمها السوفياتي الذي وقع منذ عام، مع الرئيس الأفغاني السابق نور محمد تراقي «معاهدة الصداقة والتعاون وحسن الجوار» التي تتيح لموسكو إمكان التدخل العسكري لمساعدة النظام الحليف لها في أفغانستان. وبذلك تنزع تلك الاتفاقية، قانونياً، عن «العملية السوفياتية» صبغة الاحتلال.
ثانياً: لأنّ حماية أفغانستان نفسها ليست هدفاً أميركياً مغرياً. فما يهم واشنطن أساساً هو حماية مصالحها الاستراتيجية التي تحيط بأفغانستان (في إيران وباكستان والخليج). ولذلك فإن دخول أميركا في صدام عسكري مباشر مع الاتحاد السوفياتي من أجل أفغانستان – بقطع النظر عن مسوغاته القانونية – هو أمر غير مرغوب، فضلاً عن أنه مكلف.
ثالثاً: لأنّه باستطاعة أميركا تحقيق غايتها، وإخراج السوفيات من أفغانستان منكسرين، من دون أن تخسر هي جندياً واحداً من جنودها، أو تحرك طائرة واحدة من طائراتها… وذلك لأنّ بلاد الأفغان يمكنها أن تكون فخاً أميركياً مثالياً للروس!
وأثناء نقاشات مجلس الأمن القومي الأميركي (المذكور)، عرض ستانسفيلد تيرنر مدير «سي آي إيه» كيف نجحت وكالته، مع حلفائها الباكستانيين، في اختراق قيادات من القبائل الأفغانية (خصوصاً من قبائل الباشتون ذات الارتباطات الإثنية مع باكستان). وكيف جُنّدت ميليشيات من رجال القبائل للقيام بحرب عصابات ضد الحكومة الأفغانية، وضد الجنود والمستشارين السوفيات الداعمين لها، في إطار معاهدة التعاون العسكري. وذكر تيرنر كيف عملت «سي آي إيه» فعلاً على مضاعفة دعمها «للمجاهدين»، بعد أن أصدر لها الرئيس كارتر في الثالث من تموز 1979 توجيهاً رئاسياً لزيادة تمويلهم وتسليحهم، وتحفيزهم معنوياً تحت شعارات «الجهاد ضد الشيوعيين الملحدين الذين يريدون شراً بالإسلام في أفغانستان». وبالفعل فقد قامت هذه الميليشيات بجهد مميّز في حربها ضد حكومة كابول ما اضطر الاتحاد السوفياتي، في نهاية المطاف، إلى التدخل بنفسه في أفغانستان، لينقذ نظاماً جاراً وحليفاً له من التهاوي تحت ضربات «المجاهدين» المدعومين من وكالة الاستخبارات الأميركية. وكان من رأي مجلس الأمن القومي في اجتماعه المذكور، أنّ أميركا تستطيع أن تزيد جرعات دعمها لميليشيات «المجاهدين»، وأن تحفزها دينياً «للجهاد – أكثر فأكثر – ضد الملحدين الذين يريدون شراً بالإسلام». ذلك أنّ جهاد أولئك المجاهدين إذا وفرت له أميركا بيئة مساعدة إقليمياً وإسلامياً وغطاء من الدعاية الإعلامية ومدداً من المتطوعين الراغبين في الشهادة في سبيل الله ورُزَماً من المال وترسانات من السلاح، فهو حينئذ لا بدّ أن يؤتي أكله، عاجلاً أو آجلاً… ولقد أثمر «الجهاد» نتائج رائعة لمصلحة أميركا، فيستنزف السوفيات، من دون أن تخسر هي شيئاً يذكر!
ولأجل تحقيق هذه الأهداف، قرر الرئيس الأميركي إيفاد مستشاره للأمن القومي في «جولة مكوكية» إلى الشرق الأوسط لإقناع الحلفاء بمحاسن «الجهاد الإسلامي»، وبأهمية تمويل «المقاومة» وتسليحها، وبضرورة الوقوف كالبنيان المرصوص ضد دولة الاحتلال، وضد الكفار والملحدين الذين يريدون شراً بالإسلام وأهله!
بدأ زبيغنيو بريجنسكي جولته في القاهرة، فالتقى يوم 3 كانون الثاني 1980 الرئيس المصري أنور السادات. ولم يكن إقناع «الرئيس المؤمن» بخدمة المشروع الأميركي الجديد صعباً، فالرجل قد أسلم زمامه تماماً «لصديقه الحميم» كارتر، منذ أن قبل بمعاهدة «كامب ديفيد». وكان مطلب المبعوث الأميركي من مصر هو القيام بحملات دعائية إعلامية نشطة يشارك فيها شيوخ الأزهر (ولا بأس إذا تمكّن السادات بما له من دالة على «الإخوان المسلمين» أن يشركهم في هذه الحملة أيضاً)، والمراد من تلك الحملات أن تبيّن للعرب قبح صنيع الملاحدة الروس، وأن تستصرخ ضمائرهم لنجدة إخواننا المسلمين في أفغانستان، وأن تفتي بوجوب الجهاد في سبيل الله لتحرير هذا البلد الأسير.
وفي المقابل فإنّ مصر ستنال أجرها وافياً على مجهوداتها، من خلال صندوق تمويل تزمع واشنطن إنشاءه بالتعاون مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى، ويكون مقره في جنيف. ثم إن مصر قد تنال أجرها على الجهاد مضاعفاً من أميركا. فإن لزم «المجاهدين الأفغان» سلاح (ولا شك أنه سيلزمهم) فإن القاهرة بإمكانها أن تبيع بأسعار مربحة إلى «صندوق الجهاد» تلك الأسلحة السوفياتية الفائضة عن حاجتها، والتي اشترتها من موسكو في الماضي بأسعار زهيدة، للمساهمة بها في الجهاد ضد الروس!
[في الحقيقة، أن الأسلحة السوفياتية لمصر لم تكن رخيصة، وإنما كانت شبه مجانية، لأن مصر لم تدفع لحد اليوم ثمنها، بل يمكن أن يقال إن الاتحاد السوفياتي قد تبرّع بمجمل السلاح الذي قاتل به الجنود المصريون في أربعة حروب (56/ 67/ الاستنزاف/ 73) لمصلحة المجهود الحربي المصري والعربي ضدّ «إسرائيل». والاتحاد السوفياتي لم يكتف بالتبرع للعرب بالسلاح الذي قاتلوا به عدوهم، بل هو تبرع لهم بمستشارين عسكريين، وبطواقم من خيرة طياريه ليقاتلوا جنباً إلى جنب مع المصريين، وليعلموهم كيف يستعملون ذلك السلاح بكفاءة. أمّا إذا تطرقنا إلى المساعدات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السوفياتية لمصر وللعرب جميعاً، فحدّث ولا حرج!].
ومباشرة بعد تلقيه مطالبَ المبعوث السامي الأميركي، أمر السادات بتخصيص مطار قنا العسكري ليكون مقراً لمجهود «الجهاد» الأميركي، وليصير قاعدة منها تحمّل الأسلحة المصرية (السوفياتية) إلى باكستان حيث توزعها «سي آي إيه» على إخواننا «المجاهدين». كما أمر الرئيس المصري بجعل ميناء بورسعيد قاعدة خلفية لتخزين وشحن السلاح إلى ميناء كراتشي.
وفي 1 نيسان 1980 بقّ السادات البحصة كما يقول المثل اللبناني، حين تكلم في حديث صحافي نشرته وسائل الإعلام المصرية قائلاً: «إننا على استعداد بأسرع ما يمكن لكي نساعد في أفغانستان وأن نتدخل لنصرة إخواننا المجاهدين هناك، سواء طلبوا منا المساعدة أو لم يطلبوها!» (1).
وبعد يوم من اجتماعه مع السادات، طار بريجنسكي إلى جدة، حيث التقى الأمير فهد ولي العهد السعودي وشقيقه الأمير سلطان وزير الدفاع. وكان المطلوب من السعودية أن تخرج من جيوبها المال. ولم يرفض فهد أن يدفع، ولكنه اشترط أن تجرى الأمور الأمنية ضد الروس بسرية مخافة انتقامهم من المملكة، وأن يتولى الأمير تركي الفيصل رئيس الاستخبارات العامة السعودية تنسيق الجهد السعودي مع «سي آي إيه»، وأن تحصرَ الاتصالاتُ السياسية والتوجيهات المباشرة للمجاهدين بالطرف السعودي. ثمّ إنّ الأمير فهد اشترط على مستشار الأمن القومي الأميركي أن تؤدي الولايات المتحدة قسطها المالي بما يساوي قسط السعودية، أي أن تدفع هي الأخرى 500 مليون دولار للجهاد، تتجدد دورياً بحسب حاجة المجاهدين.
وكان على بريجنسكي أن يقبل بشروط فهد، ولكن المشكلة أن الشرط المالي الأخير عويص التحقيق. وواشنطن كان «عشمها» أن تتكفل السعودية بتحمل الأعباء المالية للجهاد في سبيل الله لوحدها، أو بالاشتراك مع دول الخليج الأخرى. ولقد حاول بريجنسكي أن يشرح لفهد بأنّ عبء النصف مليار دولار سنوياً هو أثقل مما تستطيع ميزانية وكالة الاستخبارات المركزية أن تتحملَه. كما أنه أكبر مما تقبل به لجنة الأمن المتفرعة من لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس، للموافقة على اعتمادات العمليات السرية. فضلاً عن أنّ الذهاب إلى مثل هذه اللجان يعني شبه كشفٍ للعملية السرية ضد الروس! ولم يتزحزح فهد عن شرطه إلا قليلاً، فقبل أن تؤجل أميركا مساهمتها لبعض الوقت حتى تدبر أمرها، ثمّ قبل أن تبادر السعودية إلى تمويل مشروع الجهاد منفردة على أن تلحق بها واشنطن حين ييسّر الله لها مخرجاً من عسرها.
مرت سنة 1980 الانتخابية من دون أن تدفع إدارة كارتر تكاليف مشروعها الجهادي، بل إن المملكة السعودية هي التي تحملت عبء حصتها وحصة أميركا معاً. وانتهى عام 80 بخسارة كارتر ومغادرته مع مستشاره بريجنسكي للبيت الأبيض، ومجيء رونالد ريغان وطاقمه. وكان من الطبيعي أن تفتح للإدارة الأميركية الجديدة جميعُ الملفات السرية، ومنها عمليات «سي آي إيه» للجهاد في سبيل الله ودحر الكفر والإلحاد. وكان على الجنرال فيرنون والترز نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية آنذاك، أن يشرح لريغان تفاصيل تلك العملية. ويبدو أن الرئيس الأميركي المنتخب قد تحمس كثيراً لمسألة الجهاد ضد السوفيات. ولكن المعضلة القديمة كانت ما تزال قائمة، فالاعتمادات المالية للعملية باهظة جداً، والرياض بدأت تتذمر لكونها تحمل «الشيلة» لوحدها، ثمّ إن حملة ريغان الانتخابية نفسها رفعت شعار الضغط على الإنفاق الحكومي لتقليص الدين العام، ومن غير الوارد أن يخنث الرئيس بالوعد الذي قطعه للناخبين منذ يومه الأول في الحكم.
ولقد جاء الفرج، في شكل «نصيحة» من ألكسندر دو ميرانش رئيس جهاز مكافحة التجسس الخارجي (المخابرات الفرنسية)، للرئيس ريغان حينما اجتمع به في المكتب البيضاوي يوم 23 كانون الثاني 1981، بحضور وزير الدفاع الأميركي كاسبر واينبرغر، وروبرت ماكفرلين مساعد مستشار الأمن القومي، وفيرنون والترز الذي عينه ريغان مستشاراً له للمهمات الخاصة. وكانت نصيحة ألكسندر دو ميرانش لريغان أنه بإمكانه أن يستفيد من شحنات المخدرات الهائلة التي يصادرها كل من مكتب التحقيقات الفيدرالي وهيئة الجمارك، لأجل تمويل حصة الولايات المتحدة في صندوق الجهاد. وإنّ تلك الشحنات المصادرة من المخدرات ربما تثمّن بمليارات الدولارات في السوق السوداء، وبدلاً من إتلافها – كما ينص القانون الأميركي – يستحسن إعادة بيعها والاستفادة بثمنها في العمليات السرية للإدارة، من دون المرور بالكونغرس وبلجانه البيروقراطية. ولعل «سي آي إيه» تستفيد من المخدرات بطريقة أخرى إذا استطاعت توصيلها إلى الجنود السوفيات ليستهلكوها! (2).
ولقد راق هذا الاقتراح الفرنسي للرئيس الأميركي، فأمر مدير «سي آي إيه» الجديد ويليام كايسي بأن يسعى إلى تنفيذ هذه «الفكرة العظيمة» في الحال. وكذلك جعل الله لأميركا مخرجاً، ورزقها المال اللازم للجهاد في سبيله، من حيث لا تحتسب!
ويبدو أنّ «السي. آي. إيه» اكتشفت لاحقاً منافع الأفيون الذي تمتاز بإنتاجه أرض أفغانستان، فهذه الزراعة لو قدّر لها أن تتطوّر إلى صناعة، فإنها ستغني «المجاهدين» عن مدّ أكفهم لأيدي المحسنين. وهكذا فقد تضاعف، في سنوات الجهاد، إنتاج المزارعين الأفغان من الخشخاش مرات عدة حتى صار مردوده المالي يقارب ستة مليارات دولار سنوياً، وأصبح الأفيون وتقطيره أهم صناعة وطنية في البلاد. ولقد احتاجت تلك الصناعة سريعاً إلى أن تردفها التجارة، ثمّ احتاجت التجارة إلى طرق مواصلات مؤمنة. وكذلك أمسك كل زعيم ميليشيا (جهادية) بتقاطع طرق، فأنشأ عليه حاجزاً يُنَظِّم مرور شحنات الأفيون، ويسمح بها مقابل رسوم يقتطعها تحت يافطة «واجب دعم الجهاد»!
ويروي الصحافي الباكستاني محمد رشيد كيف أنّ التغاضي والتواطؤ والجشع قد أوصلوا جميعاً إلى ما يشبه «الانفجار» في تجارة المخدرات. وفي عقد الثمانينيات من القرن العشرين اقترب حجم المخدرات الأفغانية المتداولة في العالم من 70% من إجمالي الإنتاج. ولقد اضطرّ بعض ضباط مكاتب مكافحة المخدرات التابعة للأمم المتحدة في بيشاور إلى الاستقالة من وظائفهم احتجاجاً على العراقيل التي يصنعها رجال الاستخبارات المركزية الأميركية والمخابرات العسكرية الباكستانية لجهودهم! (3). ومن غرائب التصاريف أنّ حركة طالبان، حين استولت على الحكم في أفغانستان فيما بعد، أرادت أن تحرّم زراعة المخدرات، لكنها وجدت أنّ موارد البلاد من المال قد شحّت بصورة مفجعة من بعد حملتها الأمنية ضد الخشخاش. ولمّا كان صندوق مال الجهاد السعودي/ الأميركي قد ولّى إلى غير رجعة مع انتهاء «الجهاد» في البلاد، فقد كان لازماً لأمير المؤمنين الملا محمد عمر أن يدبّر أمره. وهكذا أصدر أمير المؤمنين فتوى من أغرب ما يكون، وكان فحواها أن «زراعة الأفيون وتجارته مباحة شرعاً، وأما زراعة الحشيش وتجارته فهي محرمة شرعاً. والداعي: أن الأفيون تقع زراعته وصناعته بهدف التصدير، فلا ينزل ضرَرُه إلّا على الكفار، وأما الحشيش فإنه يُستهلك محلياً، فينزل ضرره على المسلمين!» (4).
■ ■ ■
لم تنته حتى اليوم تلك المأساة التي حلت بأفغانستان، تحت مسميات «الجهاد»، و«نصرة إخواننا المسلمين»، و«التصدي لمشروع الإلحاد»… ولقد وصل مجمل ما أنفقته الأطراف المتصارعة في أفغانستان، وما خسرته تلك البلاد جرّاء حروب «الجهاد» و«الحرية» و«دحر الإلحاد» إلى ما قيمته 45 مليار دولار. وصرفت «سي آي إيه» على الجهاد الأفغاني ما يقدّرُ الخبراءُ قيمته بين 12 إلى 14 مليار دولار. وتكفلت المملكة العربية السعودية بدفع عشرة مليارات من ذلك المبلغ، أمّا دول الخليج الأخرى ومنظماتها الخيرية، فقد أسهمت بالتبرع بالباقي. وساهمت «سي آي إيه» بنصيبها من المبلغ عبر تبييض تجارة المخدرات. ولكن سلسلة الحروب الأهلية التي رعاها القيّمون على «الجهاد والمجاهدين» في أفغانستان، ساهمت كذلك في قتل أكثر من 3 ملايين إنسان أفغاني، أغلبهم من الأطفال والنساء والشيوخ. وتهجير ما بين 3 إلى 4 ملايين من البشر. ودمّرت «الحرب الجهادية» بنية أفغانستان التحتية تماماً. وحرمت جيلاً كاملاً من الأفغان من كل فرص التقدم والتطور والنماء. ولم تنس بركات «حروب الجهاد» البلدان العربية الراعية، فقد عاد كثير من «المجاهدين» (الذين سموا في وسائل الإعلام بـ«الأفغان العرب») إلى بلادهم، لينشروا موجات أخرى من الجهاد في أوطانهم. وكذلك غرقت الجزائر ومصر (والسعودية أيضاً) لسنوات عديدة في صراعات داخلية دامية. ولم ينسَ الجهاد أميركا، فنالها شيء من رذاذه في أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001.
جعفر البكلي – صحيفة الأخبار اللبنانية
المراجع:
(1) محمد حسنين هيكل، الزمن الأمريكي: من نيويورك إلى كابول، الشركة المصرية للنشر العربي والدولي، ط 4، يونيو 2003، ص258.
(2) John Cooley – Unholy Wars: Afghanistan, America and International Terrorism – Pluto Press, june 2002 – P 128-129
(3)Ahmed Rashid –Taliban: Islam, Oil and the New Great Game in Central Asia -I.B. Tauris Publishers, 2000 – P 120-121
(4) محمد حسنين هيكل، المصدر السابق، ص293.