كمين تلكلخ: حلقات مفقودة وارتباك.. ومخاوف من جولة عنف جديدة
«المجاهدون» الطرابلسيون ضحايا بيئة تحريضية تعزز الفكر الجهادي
صحيفة السفير اللبنانية ـ
غسان ريفي:
ما زال الغموض يلف قضية مقتل الشبان اللبنانيين الاسلاميين في بلدة تلكلخ السورية، في الكمين الذي نصبه لهم الجيش السوري النظامي، وذلك بعد خروجهم من طرابلس عبر الحدود اللبنانية ـ السورية بهدف «الجهاد» الى جانب المعارضة المسلحة فجر يوم الجمعة الفائت، في عداد مجموعة ضمّت نحو ثلاثين شخصاً.
وما تزال المعلومات في شأن العدد الحقيقي والنهائي للقتلى متضاربة. ففي حين أعلنت مصادر أمنية لبنانية بداية أن العدد يفوق العشرين شاباً قتلوا في الكمين، أكد النائب خالد ضاهر «أن أربعة من المجاهدين فقط استشهدوا، فيما فرّ الآخرون وبينهم جرحى الى جهة مجهولة».
وتوقعت مصادر شمالية مطلعة أن يكون 16 شاباً من المجموعة قد قتلوا، علما أن الاعلام السوري الرسمي تحدث عن سقوط 21 لبنانياً بين قتيل وجريح في الكمين المذكور.
هذا التخبط ضاعف من حالة الارتباك في صفوف العائلات المفجوعة والتي كانت باشرت بنعي أولادها والاعلان عن إقامة مجالس عزاء لهم، قبل أن تتراجع وتنزع أوراق النعي بعد الحديث عن وجود عدد كبير من الناجين من الكمين.
وما عزز هذا الأمل هو إعلان أحمد سرور (شقيق حسين وحسان سرور من التبانة) أن عائلته تلقت اتصالاً من حسان أبلغها فيه «أنه ما زال على قيد الحياة»، وكذلك تأكيد عائلة الأيوبي أنها تلقت اتصالاً من مجهول أبلغها بأن «ابنها عبد الرحمن حيّ لكنه مصاب وهو وبأيد أمينة».
في غضون ذلك، يستمرّ الحذر مخيماً على طرابلس، خصوصاً على جبل محسن والتبانة والقبة والمنكوبين التي نصب الأهالي فيها خيمة للمطالبة بالكشف عن مصير أبنائهم، وسط تدابير أمنية استثنائية يتخذها الجيش اللبناني، وفي ظل شائعات ترخي بثقلها على أجواء المدينة عن احتمال اندلاع جولة عنف جديدة غداة انتهاء مهرجان تأبين اللواء الشهيد وسام الحسن.
وما يضاعف من حجم المخاوف، هو قيام مجهولين بإرسال صور بعض القتلى الذين سقطوا في كمين تلكلخ عبر الهواتف المحمولة مذيّلة بعبارات مذهبية قاسية ساهمت بشحن النفوس، ورفعت من منسوب الغضب لدى الأهالي.
حلقات مفقودة
ويبدو واضحاً أن ثمة حلقات كثيرة مفقودة في التسلسل المنطقي لمجريات هذه القضية، وأن الثابت منها فقط هو خروج نحو 30 شاباً إسلامياً من مختلف مناطق طرابلس والمنكوبين وعكار الى سوريا بهدف القتال ضد النظام، وأنهم تعرّضوا لكمين نظامي في تلكلخ أدى الى إصابات في صفوفهم.
أما التفتيش عن الحلقات المفقودة فيحتاج بداية الى الإجابة على كثير من الأسئلة أبرزها: لمن يتبع هؤلاء الشبان؟ وما هي بيئاتهم؟ ومن بثّ الحماسة فيهم؟ ومن نسّق بينهم؟ ومن أرسلهم؟ ومن استقبلهم عند الحدود؟ وما هي اسباب وقوعهم في الكمين وهل هي قلة خبرتهم العسكرية وعدم معرفتهم بجغرافية المنطقة؟ أم أنهم كانوا ضحية خيانة أو عمل أمني مخابراتي؟
أوجه الشبه
ويمكن القول إن خروج المقاتلين بهذه الطريقة لـ«الجهاد» في سوريا، يشبه الى حد بعيد، مع فارق الوجهة والهدف والظروف السياسية، ما شهدته طرابلس في بداية العام 2000 من صعود عدد كبير من الاسلاميين «الجهاديين» الى جرود الضنية للتدرب على السلاح، وما تلا ذلك من مواجهات عسكرية حصلت بينهم وبين الجيش اللبناني الذي تمكّن من القضاء عليهم وأسر من بقي حياً منهم، في بلدة كفرحبو، وذلك بما يعرف حتى الآن بأحداث الضنية.
كما يشبه تجمع عناصر إسلامية «جهادية» منضوية تحت لواء تنظيم «فتح الاسلام» في شقق سكنية في طرابلس استعداداً لعمل أمني كان يحضر للمدينة في العام 2007، قبل أن يداهمهم الجيش والقوى الأمنية في «شارع المئتين» ومحلة الزاهرية ويقضي عليهم ويتفرغ بعدها للقضاء على بنية هذا التنظيم في مخيم نهر البارد في «حرب الـ 106 أيام».
البيئة المؤاتية
لكن الأسئلة التي تطرحها الأوساط الطرابلسية التي ما تزال تعيش تحت وقع الصدمة والحزن على مقتل هؤلاء الشبان بهذه الطريقة هي: لماذا إقحام المدينة بالنار السورية؟ ومن المستفيد من ذلك؟ وهل تحتمل الفيحاء تداعيات وارتدادات ما حصل؟ وهل أقنع الكمين المعنيين بعدم جدوى إرسال المقاتلين الى سوريا؟ وهل سيتوقف هؤلاء عن القيام بمغامرات كهذه؟ وهل سيتوقف التحريض السياسي والمذهبي الذي يشحن نفوس الشباب؟
ويقول مطلعون على أوضاع طرابلس أن الخطاب التحريضي سياسياً ومذهبياً والمستمر منذ أشهر، أدى الى خلق بيئة مؤاتية لنمو بعض الحالات الاسلامية «الجهادية» لا سيما في المناطق الشعبية، وأن ثمة من استغل هذه البيئة وعمل على تجنيد الشبان وإرسالهم الى سوريا عشوائياً عبر مهربين غير محترفين.
ويكشف هؤلاء أن مجموعات شبابية ذهبت الى سوريا قبل أشهر بالطريقة ذاتها، وتعرضت لشتى أنواع المعاناة، من دون أن تتمكن من القتال أو الالتحاق بأي فصيل من فصائل المعارضة التي برأيهم «تحتاج الى الدعم بالسلاح والمعنويات وليس بالعناصر المقاتلة»، فعادت أدراجها الى طرابلس.
كما يؤكد المطلعون أن عدداً من الشبان الذين كانوا في عداد المجموعة الأخيرة أعربوا سابقاً عن رغبتهم بالذهاب لـ«الجهاد» في سوريا، لكن بعض المشايخ منعوهم من ذلك، وأكدوا لهم أن ذهابهم لن يقدم ولن يؤخر في ما تقوم به المعارضة هناك.
ماذا تقول العائلات؟
هذا الواقع المترافق مع هذا المناخ التحريضي، دفع عدداً كبيراً من العائلات الطرابلسية الى الخوف على أولادها ومراقبة تحركاتهم، خصوصاً أن أكثرية عائلات الشبان الذين قتلوا في الكمين لم يكونوا على علم بذهابهم وفوجئوا بعدم عودتهم الى منازلهم في الاوقات المحددة لهم قبل أن يصلهم الخبر ـ الصاعقة بمقتل وجرح وأسر معظمهم.
وفي هذا الاطار، يقول لقمان الأيوبي (عمّ عبد الرحمن الأيوبي) لـ«السفير»: «لم نكن على علم بما كان ينوي عبد الرحمن القيام به، وفوجئنا أنه سحب بعض أمتعته الشخصية تباعاً من المنزل، وغادر ليل الخميس ـ الجمعة بعد أن أنهى عمله مع والده في الملحمة»، مؤكداً أن عبد الرحمن لا ينتمي لأي تنظيم أو تيار، «إنما هو شاب مسلم ومتدين يتردد على المساجد وعلى حلقات العلم».
ويطالب الأيوبي الدولة «بالكشف عن المهربين وعن المحرضين الذين يغررون بالشبان والفتيان»، مؤكداً «أن العائلة تلقت اتصالاً من مجهول أبلغها فيه أن عبد الرحمن مصاب لكنه بخير وبأيد أمينة».
ويؤكد أحمد سرور لـ«السفير» أن «شقيقيه حسان وحسين لا ينتميان الى أي تنظيم سياسي أو حركة دينية أو جهادية، وأن الجميع فوجئ عندما سمع باسميهما مع الشبان الذين إستشهدوا في الكمين»، مشيراً الى أن العائلة «تلقت اتصالاً من شقيقه حسان أكد خلاله أنه ما يزال على قيد الحياة، لكنه لا يعرف أية تفاصيل عن رفاقه».
البيئة والفكر
من أي بيئة أتى هؤلاء الشبان، وما هو الفكر الذي يحملونه؟
تقول المعلومات المتوفرة لـ«السفير» إن الشبان هم من مناطق طرابلسية وشمالية متعددة، ومن منابت اجتماعية مختلفة، ومنهم من ينتمي لعائلات ميسورة ومتوسطة الحال، ومنهم من يعاني من الفقر، ولكن أكثرهم ليسوا عاطلين عن العمل وهم يعملون في مهن مختلفة.
ويقول عارفو بعض هؤلاء في مناطقهم إنهم كانوا يؤدون الصلوات الخمس في المساجد ويحرصون على سماع كل الدروس الدينية، ويشاركون في النشاطات الداعمة للمعارضة السورية، وكانوا يتمتعون بالأخلاق والسمعة الطيبة، وإن معظمهم لم يكن يظهر عليهم أنهم قادرون على حمل السلاح، أو أنهم تدربوا قبل ذلك على أساليب المواجهات العسكرية.
من هنا يبدو واضحاً أن لا شيء يجمع بين الشبان سوى الالتزام الديني، لذلك يعتقد البعض أن مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية كانت هي الرابط الأساسي بينهم تحت تأثير شعارات «الجهاد المقدس» في سوريا، وأنهم كانوا ضحية بعض الجهات التي وجدت نفسها قادرة على تجنيدهم بعدما لمست أنهم يملكون الرغبة والاقدام على ذلك.
أما لجهة الفكر الذي يحملونه، فثمة رأيان لشيخين بارزين من الحالة السلفية فضّلا عدم ذكر اسميهما.
يقول الرأي الأول إنهم إسلاميون «يقتدون ببعض الرموز الجهادية الكبرى أمثال أسامة بن لادن و«خطاب» (الأردني)، لكن من دون أن يكون لهم أي علاقة تنظيمية بـ«القاعدة» أو بحركات جهادية أخرى، وهم يختلفون عن بعضهم البعض في السلوك والمنهج، ولا يجمعهم أي تنظيم سري، بل تجمعهم الفكرة والهدف وهو مسألة الجهاد في سوريا ضد النظام انطلاقا مما يشاهدونه يومياً في الاعلام عن المجازر التي يرتكبها بحق المدنيين».
ويضيف: «أعتقد جازماً أن خروجهم الى سوريا جاء عفوياً، وهو خروج غير منظم إلا بمقدار بسيط من التنسيق الداخلي حول الاتصال والتجمع وكيفية الانتقال، وأكبر دليل على ذلك هو المنطقة التي دخلوها والتي تعتبر غير آمنة بالنسبة لهم لكونها تحت سيطرة الجيش النظامي، ولو كانوا يتبعون لتنظيم معين لكانوا دخلوا من منطقة أخرى (نموذج مشاريع القاع وغيرها) ووصلوا الى المناطق الآمنة».
ويقول الشيخ السلفي الثاني إن الشبان «يحملون فكراً جهادياً متقدماً، وإن دافعهم هو ديني بحت انطلاقاً من قناعتهم بأن سوريا أصبحت اليوم أرض جهاد، وأن القتال في سبيل الله ضد النظام الظالم فيها واجب شرعي».
ويضيف إن ذهاب الشبان الى سوريا «لا يخدم الثورة بتاتاً»، واعتبر أن إرسال مقاتلين من لبنان «سواء لمساعدة النظام أو المعارضة يشكل خطراً كبيراً على الأمن والاستقرار في بلدنا». ويرى أن سقوط الشبان في الكمين ناتج إما عن غباء أو عن خيانة، لافتاً النظر الى أن الطريقة البدائية التي انتقلوا فيها الى سوريا من شأنها أن تعرضهم للاختراق بسهولة، منتقداً بشدة «من يقوم بالتحريض ويرسل الشباب الى التهلكة، ومن ثم يمكث في منزله ويبقى بعيداً عن المساءلة والخطر»، مؤكداً أن ما حصل «يشبه الى حد بعيد أحداث الضنية حيث قامت جهات بإرسال الشباب الى الموت المجاني».