قطعان الطوائف لا عقل لها
صحيفة السفير اللبنانية ـ
عبد الله بن عمارة:
ينظر إلى الطائفية في العالم العربي كظاهرة سياسية واجتماعية وثقافية خطيرة تشكل عائقاً أمام أي مشروع نهضوي عربي تكون المواطنة رافدا جوهريا فيه، وقد شكلت مادة خصبة لعديد من الدراسات التي حاولت مقاربتها من كل الجوانب المرتبطة بها، عدا الجانب الذي يحاول قراءة الآليات الناظمة للعقل الطائفي أو لبنيته.
نقد العقل هو الخطوة الأولى في سيرورة المشروع النهضوي، لكون الفكر هو جوهر الانتقال الجذري من حالة التخلف إلى النهضة، ولكن محاولة قراءة العقل الطائفي هي الأولوية على اعتبار أن قراءة من هذا النوع ـ والتي تشكل المسكوت عنه في الفكر العربي ـ يجب أن تسبق أي ممارسة للنقد.
إن العقل الطائفي هو عقل انطوائي بطبيعته يحيط بنيته بسياج دوغمائي من المسلّمات الجامدة التي تجسد الحقيقة المطلقة أمامه، تختزل كل دينامية في العالم عند حدود طائفته، فالتاريخ يبدأ وينتهي عند هذه الحدود، لذا فإن الهاجس الأول لديه هو الحفاظ على الشعور بالتضامن داخل الطائفة، الذي يكرّس الإحساس بكينونة الطائفة كهوية جزئية، فهو يخلق رؤى مشتركة بين أفراد الطائفة تؤثر في سلوكهم من دون وعي مباشر بها أحيانا، فيتشكل ما سماه اميل دوركايم بالعقل الجمعي الذي يولد سلوكا أقرب إلى سلوك القطيع لناحية الطاعة المطلقة لنخبة الطائفة الأعلم والأقدر على صون مصالحها.
العقل الطائفي هو عقل يخاطب الوجدان والعاطفة، فهو بهذا المعنى مجاله الغريزة لا المعرفة والمنطق، والغريزة هنا هي حاجة ملحة في إطار ترسيخ «وحدة» الهوية الجزئية للطائفة عن طريق تأجيج مواطن الإثارة الغرائزية عند المخيال العام المترسخ في العقل الجمعي للطائفة. هذه الاستثارة تستدعي ديمومة الاستحضار لمشاعر «المظلومية» ولأحاسيس «الضحية»، وهذا يكون بالقراءة الانتقائية للتاريخ التي تضخم أحداثاً بعينها، بما يخدم الصورة النمطية التي صنعتها لنفسها – صورة المظلومية – أو باختلاق وقائع تاريخية تصل حد كتابة تاريخ آخر وفق ما تتطلبه أجندة الشحن الغرائزي المستمر، فهو مرتبط أساسا بهذا الماضي الافتراضي الذي يجسد مظلوميته وبطولاته أحيانا في الدفاع عن كينونته، ليبقي وجدان أفراد الطائفة مشدودا له وأكثر ارتباطا بالهوية الجزئية للطائفة لضمان عدم تكرار «نكبات الماضي «، كما أن مصطلحات هذا الماضي المليء بالفتن والحروب هي مصدر إلهام لخطابه السياسي والثقافي (الروافض، المجوس، المرتدون، الصليبيون…..الخ) وهذا الذي يجعل من العقل مجافياً للمعرفة، لأنها تعني تقديم الحقيقة العلمية أو التاريخية كما هي بما لا يخدم مشروعه، ومعاد لأي نزوع نحو العقلانية لأنها تعني استدعاء التحليل المنطقي، الذي يعني إخضاع القرارات التي تتخذها النخبة المتحكمة في الطائفة للتمحيص، وهذا في حد ذاته خطر على هذه النخبة التي تعمل بطريقة أبوية، ما في وسعها لترسيخ سلوك القطيع عند عموم أبناء الطائفة. إن حضور الخطاب الغرائزي القائم على الشحن الطائفي واستثارة الأحقاد والضغائن لدى النخبة المهيمنة على مصير الطائفة ممثلة في زعيم الطائفة أو رمزها السياسي، يقصي أي دور للعقلانية في رؤية الأمور، بما فيها مصلحة الطائفة نفسها التي تصبح مرهونة بتقدير رؤية هذه النخبة التي تختزل الطائفة كلها فيها. فقدان العقلانية لدى العقل الطائفي يجعله يقارب كل القضايا، مهما اختلفت، من زاوية ضيقة، يطغى عليها التسطيح والتنميط كحاجة حتمية لضمان ديمومة تزييف الوعي العام التي يعتمدها (اعتبار العقل الطائفي التكفيري مثلا حرب لبنان 2006 مجرد مسرحية بين إسرائيل وحزب الله).
العقل الطائفي هو عقل إقصائي لا يستطيع أن يتعايش مع الاختلاف فيربط وجوده وفق منطق صفري بمعاداة الآخر الذي هو الهوية الجزئية الأخرى، فيقابلها بمنطق الرفض والكراهية، والقاعدة العامة للتعامل معها هي الاحتراب، فلا يسالمها إلا إذا فرضت عليه الظروف ذلك، فهو يستبطن القابلية لاستعمال العنف ضد باقي الطوائف، لأنه رديف للإقصاء ورفض العيش المشترك، من جهة، ومن جهة أخرى يمارسه داخل «أسوار» الطائفة نفسها ضد أي محاولة قراءة نقدية عقلانية يمكن أن تهدد نفوذ النخبة المسيطرة في الطائفة، وهو عقل استعلائي يستحضر من التاريخ كل أدبيات التميز والمركزية والعنصرية أحيانا، ويعتقد أنه إما الأكثر تحضرا وثقافة (العقل الطائفي الماروني في لبنان نموذجا) أو الفرقة الناجية وصاحب الحق الحصري في دخول الجنة أو في الحديث باسم الله (العقل الطائفي التكفيري)، العقل الطائفي هنا لا يمكنه أن يقبل بوجود أية هوية جامعة، فهو يرى في الانتظام تحت مظلة الهوية الجامعة تهديدا لوجود الطائفة الذي يعني غالبا وجود المصالح المادية والمعنوية للنخبة المهيمنة على الطائفة، فالولاء الوطني بالنسبة إليه أمر واقع يجد نفسه مضطرا لتحصيل أكبر قدر ممكن من المكاسب الضيقة في ظله إذا ما كان يحكم بنظام محاصصة طائفية، أو انه يتنصل من أي انتماء له إذا ما توافرت له الظروف للقيام بذلك؛ أي في حالة تراجع دور الدولة وتفككها أو دخولها في حالة عدم استقرار، تنسحب معه مؤسسات الدولة من أداء مهامها في الحفاظ على الحد الأدنى من الروابط التي تحمي النسيج الاجتماعي، تعبر الطائفة في هذه الحالة صراحة عن كينونتها «التحت وطنية» لتلبي حاجة أفرادها للأمن والانتظام تحت مظلة الهوية الجزئية المهيمن عليها من نخبة الطائفة.
لا يمكن للعقل الطائفي البتة الانخراط في مشروع مواجهة مع المشاريع الاستعمارية الكبرى للمنطقة، وعلى رأسها المشروع الوظيفي الصهيوني، على اعتبار الاستحالة الموضوعية لانتقال عقل طائفي متقوقع في هويته الجزئية من مشروع حماية مصالح الطائفة كأقصى طموح له إلى المشروع الأكبر الذي يعني حماية الهوية الجامعة بما تتطلبه من وحدة كيان ومصير بين كل المكوّنات، وهذا ما يفسر التقاطع بين كل المشاريع الطائفية والمشروع الصهيوني كمجسد لمشروع طائفي عنصري وظيفي في المنطقة، سواء تعلق الأمر بمشاريع طائفية انخرطت في تحالف مباشر معه (القوى اليمينية الطائفية في لبنان نموذجا) أو غير مباشر كما في حالة القوى التكفيرية التي تظهر عداءً للمشروع الصهيوني، لكنها لا تجعل من المواجهة معه أولوية مركزية توازي أولوية المواجهة الكبرى مع باقي المكونات المختلفة معها، بل يمكن للكيان الصهيوني أن يشكل نموذجا ناجحا كامنا في العقل الباطن لهذا العقل الطائفي.
لقد شكل ظهور الانتماءات العشائرية والطائفية أحد أهم مظاهر فشل الدولة الوطنية بعد الاستقلال، وأحد تجليات إخفاق المشروع النهضوي العربي، الذي لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل الحسم في قضايا تشكل رافدا جوهريا في مضمونه، فقيم المواطنة هي جوهر هذا المشروع، ومع الأحداث التي عصفت بالعالم العربي في السنوات الأخيرة في ما بات يعرف بـ«الربيع العربي»، وبروز مدى ترسخ الطائفية في السلوك العام عند النخبة العربية كما عند العامة، وعند الأطياف والتيارات المتدينة كما عند العلمانية، أصبح ملحاً إعادة قراءة مضمون المشروع النهضوي العربي، لجهة الإشكاليات الفكرية التي طرحها بإعطاء الأولوية المطلقة لقراءة بنية العقل الطائفي وتفكيكها في إطار مشروع تقييمي جديد لنقد العقل العربي.