قرار العدوان لم يكن زلة لسان
وكالة أخبار الشرق الجديد ـ
غالب قنديل:
القرار الذي أعلنه الرئيس الأمريكي باراك أوباما باعتزام شن الحرب على سوريا لم يكن مصادفة، ولا هو زلة لسان كما يتهيأ للكثيرين، هذا القرار هو تجسيد لحقيقة المأزق الذي دخلته الامبراطورية الأمريكية ومعها الكيان الصهيوني وجميع الحكومات العميلة للغرب في المنطقة، بعد الفشل المدوي للعدوان على سوريا طيلة سنتين ونصف وأكثر من المحاولات المستميتة، لتدمير الدولة الوطنية، وللنيل من موقع سوريا العربية كدولة مقاومة واستقلالية، وكمحور حاسم لمنظومة المقاومة في المنطقة، التي أنهت عهد التحكم الاسرائيلي بقرارات الحرب والسلم في المنطقة.
أولاً إن أهم أهداف قرار الحرب الأمريكية، هو إنقاذ الإمبراطورية الأمريكية من خطر السقوط النهائي والحاسم لفكرة الهيمنة الأحادية على العالم، وما أسسته الحركة الروسية سياسياً في الاستثمار على نتائج الصمود السوري، طيلة الفترة الماضية منذ آذار 2011، وضع الولايات المتحدة أمام التحدي. فالقبول بقواعد جديدة في العلاقات الدولية، يعني أن الإمبراطورية الأمريكية سترضخ لمبدأ انتهاء الهيمنة الأحادية، التي تنعمت بها طيلة أكثر من ربع قرن في العالم. حيث تحولت الولايات المتحدة إلى وحش عسكري فالت، يملي إرادته، ويستعمل الأمم المتحدة كما يشاء وفقاً لمصالحه، في ظل مسايرة روسية وصينية، غلب عليها مبدأ تحاشي الاصطدام بهذا الوحش الاستعماري العالمي.
إن القواعد التي سعت روسيا لارسائها من خلال فرض الاحتكام إلى المنظمة الدولية في أي شأن عالمي، ورفض استعمال القوة وسياسة الحروب والغزوات، هذه المبادئ لا تناسب مصلحة الامبراطورية الأمريكية في حماية انفرادها بالتحكم بمعادلات العالم، ولذلك فقد اتخذ قرار العدوان على سوريا من خارج مجلس الأمن، لتوجيه صفعة قوية إلى روسيا، وللقول أن ما جرى من تشاور بشأن الوضع السوري في “جنيف 1” و”جنيف 2″، لم يكن بادرة لتغيير منهجي في سلوك الإمبراطورية العجوز والمتهالكة، التي تدافع عن مصالحها بشراسة. ويبدو واضحاً أن قسماً أساسياً من النخبة الأمريكية الحاكمة يرفض الرضوخ للقواعد الجديدة في العلاقات الدولية، وهو لذلك يدعم ويتبنى قرار أوباما بشن الحرب، بعدما فشلت، وبصورة كلية، إستراتيجية الحرب غير المباشرة أو بالواسطة، التي أبدعها ديفيد بترايوس للالتفاف على عصر العجز الأمريكي والهزائم الإسرائيلية، من خلال استعمال عصابات التكفير والارهاب في محاولة تدمير الدولة السورية.
ثانياً إذا كان محور حماية الهيمنة الأحادية الأمريكية على العالم هو المحور الأول في خلفيات قرار العدوان على سوريا، فإن المحور الثاني الذي لا يقل أهمية، هو المأزق الكياني والوجودي الذي تعيشه إسرائيل، منذ تعاظم قوات الردع لدى المقاومة اللبنانية، وبعدما أظهرت منظومة المقاومة في الشرق فعاليتها وتناغمها وتماسكها، عبر الأداء المنسجم والموحد، الذي جمع خلال العدوان على سوريا كلا من الدولة الوطنية السورية والجمهورية الاسلامية الايرانية والمقاومة اللبنانية، وما يجري في الميدان السوري، هو في الواقع مختبر حقيقي لتوليد قدرات ردع نوعية وحاسمة، ستجعل قرار إسرائيل بالحرب أقرب إلى قرار الانتحار. واذا كانت حروب اسرائيل المهزومة والفاشلة طيلة السنوات العشر الماضية سواءً في غزو لبنان عام 2006 أو في الحرب على قطاع غزة، قد اقتضت من الولايات المتحدة قيادة تحالف عالمي داعم لحروب إسرائيل، وشحن القذائف جواً لصالح الجيش الإسرائيلي، لتنفيذ المجازر سواءً تلك التي استعملت فيها القنابل الكيماوية والفوسفورية في غزة، أو تلك التي قتلت أهالي وأطفال قانا والضاحية الجنوبية، فإن البديهي أن ما تحقق من اندماج في قدرات منظومة المقاومة على أرض سوريا، بات يطرح تحديات استراتيجية ليست إسرائيل في مستواها، وهي قاصرة عن مجابهتها بمفردها. وسيكون صعباً على الولايات المتحدة أن تقرر النزول بأساطيلها وصواريخها في ميدان المواجهة، لو كانت الحرب حرباً عربية إسرائيلية في صيغتها الأولية. أما وقد توافرت فرصة تصنيع الذريعة لخوض الحرب ضد سوريا والتوسع بها باتجاه باقي أطراف منظومة المقاومة، نظراً لتداعيات الميدان، فإنها فرصة نادرة لحماية الكيان الصهيوني واختبار القدرة على النيل من امكانات منظومة المقاومة وقدراتها المتعاظمة، التي تزلزل الإسرائيليين وتقض مضاجعهم. وقد برهن اختبار القوة الأخير بعد اعلان أوباما قرار العدوان على سوريا على أن الكيان الصهيوني، هو بالفعل أوهن من بيت العنكبوت، كما قال قائد المقاومة اللبنانية سماحة السيد حسن نصر الله.
ثالثاً أما المحور الثالث والمهم أيضاً، الذي يأتي ترتيبه بعد المحورين السابقين، فهو أن الولايات المتحدة تجد في مشروعها للعدوان على سوريا مناسبة لصيد مئات مليارات الدولارات من دول الخليج ومن صادراتها النفطية، التي سترهن لسنوات قادمة لصالح الاقتصاد الأمريكي المنهار، الذي يشكو أعراضاً كيانية مفتوحة ومستمرة. وقد فشلت كل محاولات إدارة أوباما في السيطرة عليها، وهو جاء تحت شعار انقاذ الاقتصاد الأمريكي وانقاذ سمعة الولايات المتحدة بعد هزائمها المدوية في العراق وأفغانستان. وما حصدته من انعكاسات داخل المجتمع الأمريكي تظهر تداعياتها اليوم باستطلاعات الرأي، التي تبرهن على رفض غالبية أمريكية كبيرة للخوض في مغامرة عدوانية جديدة.
الادارة الأمريكية تحكمها هذه العقد الثلاث على المحاور الثلاث، وهي تعرف جيداً أن تراجعها عن قرار العدوان سيرتب انتصاراً لجميع خصومها معنوياً وسياسياً، وسينعكس في توازنات القوى. فأنظمة الخليج العميلة مهددة بالانهيار والتهاوي في اللحظة التالية لإشهار انتصار الرئيس بشار الأسد، والدولة الوطنية السورية وروسيا ستأخذ الولايات المتحدة إلى بيت الطاعة الدولي، في حال انكفأت موجة العدوان وعادت لغة الحوار السياسي في التعامل مع النزاعات والقضايا الكبرى في منطقة الشرق أو في العالم، والملفات كثيرة، وكل ملف ينعكس على الآخر، من القنبلة النووية الكورية إلى جزر اليابان إلى أوروبا الشرقية والدول التي سلخها الناتو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وصولاً إلى سوريا والملف النووي الإيراني. وبالتالي فاختبار القوة الجاري سيرتب نتائج أكيدة في كل مكان من ساحات الصراع الروسي الأمريكي على مستقبل العالم. وكذلك تعرف اسرائيل أن انكفاء موجة العدوان الأمريكية، التي أعلنها أوباما وارتداده عنها، ستكون حصيلته الأكيدة، أن إسرائيل باقية في المأزق وفي دائرة الخطر، وعاجزة عن شن أي حرب جديدة في المنطقة، والملف النووي الإيراني تحصيل حاصل، وقدرات المقاومة اللبنانية والدولة السورية حاضرة بالمرصاد. وهذا يعني أن اسرائيل تدخل مرحلة الاحتضار الاستراتيجي، ولو على نار هادئة وبحرب باردة، في سباق مستحيل مع قوى تعرف ما تريد، وتدرك ما تفعل، وتملك الكثير.