قراءة في فشل الحصار الأميركي على روسيا
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
في شباط/ فبراير 2022، فرضت الولايات المتحدة الأميركية ما عُرف بأنه أضخم عملية عقوبات على دولة واحدة، استهدفت فيها كسر الإرادة الروسية عقب بدء حرب الأخيرة في أوكرانيا. منظمات مالية عالمية ومحللون وخبراء أسواق أفتوا حينها بأن موسكو ستدخل في نفق مظلم، وأن شعبها سيعاني الأمرّين، قبل أن يضغط على حكومته، التي ستجد نفسها حينها في العراء، في ظل تطبيق سلة متكاملة من العقوبات تشمل 1400 بند أو أكثر على البلد.
وعقب مرور عام ونيف على التطبيق الشامل لهذه العقوبات، والتي أيدها بالطبع وشارك فيها حلفاء واشنطن في أوروبا الغربية واليابان وأجزاء من آسيا، يبدو أن الرهان الأميركي معطل، أو بشكل أدق، استطاع الروس القفز فوق العقوبات ببساطة، ولم نجد صدى على الأرض لعملية تفجيز ذاتي هائلة، كانت الولايات المتحدة تهدد بها، وقد جربتها في أكثر من موضع طوال سني وجودها كقوة عظمى وحيدة ومهيمنة على الكوكب، ما يستدعي إعادة تفسير للمشهد كله من خارج محفوظاتنا السقيمة، بعد أن نضج وانكشف طريقه وتوضح مستقبله، القريب على الأقل.
الحقيقة الوحيدة الجديدة، هي أن العالم العربي بحاجة لإعادة قراءة معطيات زمن الطغيان الأميركي، وأسباب استمرار تفرد أميركا على القمة اليوم، وعوامل ضعفها وتراجع تأثيرها وبداية طور أفول عصرها، والقيام بما يشبه عملية “الجرد” العقلاني لمستقبلنا، في ظل ظروف جديدة سيالة بالاحتمالات وشديدة التغير، وإلا فإننا قد ننتبه ذات يوم إلى أن الحقائق الجديدة قد تركتنا حيث توقفنا وتوقف تفكيرنا، وسافرت إلى المستقبل، وغافلتنا أو غافلنا نحن أنفسنا وأهملنا وتركنا مكاننا لغيرنا يحجزه.
وفقًا لفلسفة العقوبات الأميركية على روسيا، فإنها انطلقت من المنظور الغربي للعالم، الذي لا يعترف بالآخر، وإن اعترف لا يقدره بحق. الأرقام الغربية وجداول تصنيفاتها المعتمد تقول إن روسيا عملاق عسكري، ومواجهته بالسلاح مباشرة لن تعني إلا نهاية العالم ودمار الجميع، حتى المنتصر سيكون في حكم المنتهي، لكن نقطة ضعف موسكو هي اقتصادها.، تحتل روسيا المركز الحادي عشر بين أكبر اقتصادات العالم، بناتج محلي إجمالي يبلغ 1.79 تريليون دولار، بتقديرات عام 2021، تبلغ 1.5% من الإجمالي العالمي، وهو بالتالي أقل كثيرًا من إيطاليا على سبيل المثال، ويتساوى مع أستراليا.
هذه النظرة الغربية اعتمدت عليها تقديرات الحكومات وصناع القرار لمدى وجدوى تأثير العقوبات على هذا الاقتصاد “الضعيف”، وصراحة قال وزير المالية برونو لوميه إن سلاح العقوبات قادر على سحق إرادة موسكو وتركيع روسيا وشل اقتصادها، وقبله أكد الرئيس الأميركي جو بايدن أن حزمة العقوبات غير المسبوقة على الاقتصاد الروسي قادرة على إصابته بانكماش بنسبة النصف.
في الواقع لم تركع موسكو، ولم تتراجع بالأصل عن موقفها الصلب، ولفهم هذا نحتاج إلى تصنيف آخر أكثر واقعية من الترتيب الغربي للاقتصادات، وهو إجمالي الناتج المحلي وفقًا لتعادل القوة الشرائية “P.P.P”، وبهذه الطريقة الأدق في الحساب، فإن إجمالي الناتج المحلي الروسي يبلغ 2.74 تريليون دولار عام 2021، ويأتي خلف الاقتصاد الألماني –الأكبر أوروبيًا- بهامش ضئيل، كما أن وضعية روسيا كدولة مصدرة للطاقة والغذاء وتستطيع الاستغناء عن نسبة كبيرة من وارداتها، ولديها قطاع صناعي ضخم، وتتمتع بقدرة على التدخل والتأثير في التخطيط الاقتصادي وتوجيه الموارد، يرجح أن سلاح العقوبات الغربي قد استنفد ذخيرته دون إصابة هدفه، وأن المعاناة التي ضربت الأسواق الأوروبية لانقطاع الإمدادات الروسية جاءت بلا فائدة ترجى.
وإذا ما أضيف نجاح موسكو في تفعيل تحالفاتها مع قوى أخرى خارج العالم الغربي، ولو كانت لا تزال تتبع سياسة الحياد الرسمي، فإن إمكانات وآفاق خروجها من نفق الأثر النفسي للعقوبات وما تستهدفه من خلق حالة حصار على موسكو، مثل الصين التي تتجاوز أوروبا الغربية بكاملها أو الولايات المتحدة اقتصاديًا، والهند أحد أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، وهي تحل بالمركز الخامس متفوقة على بريطانيا وفرنسا طبقًا لناتجها المحلي الإجمالي، ومرشحة للصعود إلى المركز الثالث خلال سبعة أعوام فقط، فإن هذه الأسواق قادرة على تعويض موسكو على المدى المتوسط والبعيد.
صندوق النقد الدولي لم يكن بعيدًا عن الاستخدام من جانب واشنطن، بترديد مسؤوليه ومديريه، طوال عام 2022، لأكثر التوقعات سوداوية وتشاؤمًا بشأن مستقبل الاقتصاد الروسي والآثار المحققة للعقوبات الأميركية عليه، إذ توقع الصندوق أن يسجل الاقتصاد الروسي انكماشًا حادًا يبلغ 6% في 2022، إلا أن تقاريره أظهرت تراجع هذه النسبة إلى 2.1% مع نهاية العام، بل وفي العام الحالي يتوقع أن ينمو الاقتصاد الروسي بنسبة 0.7%، رغم استمرار الحرب والعقوبات والحصار الاقتصادي لأسواقها القريبة في أوروبا.
تقارير الأمم المتحدة الاقتصادية لم تخرج أيضًا عن حالة صندوق النقد الدولي، إذ إن المنظمة الدولية أكدت خلال العالم الماضي أن الاقتصاد الروسي سيعاني من انكماش مخيف يبلغ 15%، إلا أنها عادت العام الحالي لتعترف في تقرير “الحالة والتوقعات الاقتصادية في العالم”، أن نسبة الانكماش لم تتعد 3% خلال عام 2022، ومن الممكن أن تتجاوز موسكو آثار العقوبات في المستقبل القريب.
تقارير وأحاديث المنظمات المالية العالمية لا تقول بشيء سوى أنها أداة في حرب البروباغندا الأميركية، وأن الولايات المتحدة نافذة التأثير في عالمنا –والعربي بالذات- لأننا نقبل أن نبتلع الطعم ونذهب باختيارنا إلى شبكة الصياد، والجزء الأهم من رصيد القوة والاستكبار الأميركي لا يرجع لقواها الذاتية، لكنه يرجع أكثر لإيماننا بضعفنا وعجزنا عن مقاومتها ومعاندة إرادتها والوقوف ضدها، السلاح الأمضى لواشنطن يكمن في قدراتها الفريدة على الوصول بإعلامها إلى كل بيت، وبالتالي تمكنها من فرض قيمها ولغتها وأولوياتها علينا، والجزء الأكبر من الحل يتمحور أساسًا حول ذكاء التعاطي مع ما تريد له واشنطن أن يسود وأن ينتشر، والتوقف عن اعتبارها مصدر الحقيقة الوحيد.
..
الدرس الأول من قصة العقوبات الأميركية، ليس في موسكو، وإنما في طهران، وهو أنه متى امتلكت دولة إرادتها وتمسكت بحقها في صبر ويقين، فإن المخططات الأميركية تفشل، ومؤامراتها تتبدد، وأساليبها مهما بلغت ومهما طال المدى، تصبح عديمة الفعالية، والشعب الذي يملك الحد الأدنى من استقلاله الوطني الحقيقي، يستطيع أن يقهر إرادة واشنطن، ويراكم مكاسبه، وأن يسافر بأحلامه ورغبته إلى المستحيل ذاته.
كانت الجمهورية الإسلامية تفعل هذا في زمن عصيب، لا حليف دولي قادر، ولا أطراف وقوى اقتصادية جديدة قد ظهرت في العالم، وبلا دعم محتمل ولا حكومة في الكوكب تجرؤ على أن تتحدى الولايات المتحدة فعلًا لا قولًا، والنتيجة أنها تمتلك اليوم قاعدة صناعية هائلة وذات كفاءة، وتطورت بنيتها التكنولوجية بشكل مثير للإعجاب، وبدلًا من أن تخضع كما كان يرسم لها، خرجت بتجربة هي الأغنى على صعيد مقاومة واشنطن، تجربة متكاملة وناجحة وصالحة للاستلهام والنقل.