قائد في «الناتو» لـ«السفير»: لا نقف متفرجين
من يستمع إلى تقييم حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ثم يعود لاستعادة تحذيرات الدول الأوروبية الصارخة من ظاهرة «المقاتلين الأجانب» في سوريا، لا بد سيتساءل: أين السياسة وأين الواقع في ما يقولون؟
بعيدا عن التكهنات، يبدو أن هناك إصرارا على إبقاء هذه القضية ميدانا للعب الأمني والسياسي، وعدم العمل عليها كعنوان لتهديد أمني بالدرجة الأولى.
قادة أركان دول الحلف اجتمعوا في بروكسل، وكانت الحرب السورية من بين القضايا التي ناقشوها. في بيانه الختامي، ذكر رئيس اللجنة العسكرية للحلف الجنرال كنود بارتلز أن الوضع في أوكرانيا، إلى جانب ما يحدث في بقع أخرى مثل سوريا ومنطقة الساحل الأفريقي، «عزز الحاجة للحلف كي يكون جاهزا لمجموعة واسعة من التهديدات المحتملة، سواء قرب الحدود أو بعيدا عنها».
حسنا إذا. لطالما أعلن قادة «الناتو» أنه ليس فقط منظمة عسكرية، بل أيضا منظمة أمنية، وأنها تعمل بناء على هذا الأساس. يشمل ذلك عمليات الرصد والمراقبة، تبادل المعلومات وعمل الاستخبارات العسكرية. لكن حتى الآن، وبإصرار لافت، حاذر الحلف الإشارة بالأصبع إلى قضية «الجهاديين» الغربيين. كان هذا ليمر بسهولة، لكن دول الحلف نفسها، في أوروبا والولايات المتحدة، لا تكف عن القول إن هؤلاء المقاتلين يشكلون «تهديدا أمنيا». قبل أيام فقط، في مؤتمر بروكسل حول الظاهرة، قال وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف إنها «مشكلة أوروبية وعالمية».
إذا، كيف يقيم الحلف هذه المشكلة، ولماذا لم يعلنها بوضوح تهديدا أمنيا له؟ هذا السؤال طرحته «السفير» على رئيس اللجنة العسكرية للحلف، فقال بلهجته المتأنية: «تتأثر المنطقة بأسرها بسبب الأحداث في سوريا، التي لها انعكاسات كبيرة بشكل عام. نحن لم نتطرق إلى بعض التفاصيل من القضايا التي ذكرتها للتو، لكن سوريا هي مصدر قلق خطير جدا للجميع، لأنه ليس في مصلحة أحد أن تتم زعزعة استقرار منطقة الشرق الأوسط من خلال ذلك الصراع».
تجنب بارتلز الردّ على صلب السؤال، وهذا ينفع إذا كان يتحدث إلى جمع في مناسبة احتفالية. أصررنا على تلقي جواب دقيق، فكيف يمكن الحديث بهذه العمومية بينما العديد من دول الحلف تصرخ تحذيرا من عودة «الجهاديين»، وتقيم منصات تعاون دولي لاحتوائهم، فهل يمزحون معنا مثلا؟
يرد بارتلز متجنبا الاستفزاز: «لا أستطيع أن أرى الخلاف في ما تعبر عنه، وما قلتُه أنا للتو. إننا حقا نعتبر المسألة السورية قضية خطيرة جدا، لديها تداعيات على أمن الحلف، ولذا سلطنا الضوء عليها. بقدر ما أعرف، لا أحد يمزح مع أحد هنا».
إلى جانب رئيس اللجنة العسكرية، كان يجلس جنرال ذاعت شهرته في الأشهر الأخيرة. إنه فيليب بريدلوف، قائد قوات «الناتو» في أوروبا. بما أنه تحدث بإسهاب عن التهديدات الأمنية وآفاقها، خصوصا في المسألة الأوكرانية، سألته «السفير» عن تقييم الحلف الفعلي لظاهرة «المقاتلين الأجانب»، فقال إن «المقاتلين الأجانب مصدر قلق لجميع دول حلف شمال الأطلسي، لأن كل تلك الدول لديها أفراد منهم في سوريا، وهم يتعرضون للتطرف وينضمون إلى القوة القتالية هناك»، مضيفا «في النهاية سيعود هؤلاء إلى بلادهم، أو سيذهبون إلى دولة أخرى من دول حلف شمال الأطلسي، لذلك هذا مصدر قلق لدولنا».
على الأقل هذا كلام مباشر وواضح، لكن بناء عليه ما الذي يفسر صمت الحلف؟ يرد بريدلوف: «أنا لا أتفق مع افتراضك أننا لا نفعل أي شيء أو أننا لا نساعد. إن دول حلف شمال الأطلسي تتعاون مع بعضها البعض على نطاق واسع بشأن هذه المسألة». اكتفى الجنرال الأميركي بهذا القدر، مفضلا عدم الخوض في التفاصيل.
بالطبع، يمكن لحلف «الناتو»، إذا أراد، لعب دور في هذه المسألة. هذا الجدل يجذب خبيرا عسكريا مطلع بدقة على عمل الحلف، فضل الحديث من دون إعلان هويته. يفضل الحديث بشكل تقني، ويقول إن قضية «المقاتلين الأجانب» هي قضية «أمن مدني، وليست قضية أمن عسكري، كي يتدخل الحلف فيها».
يضيف مصرا على تحليله: «إذا تدخلت الأجهزة العسكرية للحلف، عندها ستعترض أجهزة الاستخبارات الوطنية للدول المعنية، وتقول إنها مسألة ليست من شأنها». يتدخل هنا مسؤول عسكري في الحلف، قريب من قيادة قواته في أوروبا، ويؤيد كلام الخبير قائلا: «إنها قضية لا يمكن بالطبع التعاطي معها باستخدام القدرات العسكرية أو الدبابات».
الشرح التقني هناك ما يناقضه طبعا. الحلف منخرط في عمليات اعتبرها تهديدا أمنيا، وليس لها أي علاقة بالجانب العسكري. أبرز الأمثلة عمليات «مكافحة القرصنة» التي يقودها في مقابل سواحل الصومال. القراصنة ليسوا ضباطا ولا يقودهم ماريشال، لكن الحلف يسهر على ترصد حركتهم وعملياتهم.
مع ذلك، فان التشريح التقني يضيء على الثغرات. يقول الخبير العسكري إن إدراج «المقاتلين الأجانب» بشكل صريح على أجندة الحلف، ممكن في حال طلبت إحدى دوله ذلك، لا سيما تركيا. لكن أنقرة بالتحديد لم تفعل، ولم تثر القضية علنا على هذا المستوى. يحدث هذا رغم أن المسألة بالغة الحساسية عند وضعها في سياق الصورة الشاملة. قوات «الناتو» تحارب في أفغانستان ضد ما تسميه «خطر الإرهاب»، المتمثل بتنظيم «القاعدة» وحلفائه. لكن تنظيمات مرتبطة علنا مع «القاعدة»، التي يحاربها هناك، صارت تتنقل، جيئة وذهابا، عابرة حدوده الشرقية.
ما تؤكده ردود قيادة الحلف العسكرية هو أن دوله تفضل التعامل مع «الجهاديين» كملف أمني وسياسي، خصوصا تركيا، لكونها الدولة الأشد التصاقا بالموضوع. هكذا يبقى الأمر ملعبا لأجهزة الاستخبارات وأداة سياسية، تسيره وفق حسابات الحرب السورية من دون إغفال مصالحها الخاصة. الأوروبيون يقولون إنهم لا يريدون سفر مقاتليهم، لكن بدرجة أهم لا يريدون عودتهم. تركيا تدير الملف بالكامل من تحت الطاولة، وتتذرع في العلن بأنها لا تستطيع مراقبة حدودها الطويلة. في نفس الوقت، لا يبدو الحلف هائما بتبني قضية، ليصبح ملاحقا بإعلان تطوراتها بالأرقام والنتائج.
لو أراد «الناتو» أن يعلن أن القضية هي ملف يديره بوصفه «تهديدا أمنيا»، لما احتاج اجتراح المبررات. هناك حوالي ألفي مقاتل متطرف يحتمل عودتهم إلى دوله، وهؤلاء بالطبع تهديد أكبر من عصابة قراصنة تستقل زوارق بائسة في المحيط الهادئ.
وسيم ابراهيم – صحيفة السفير اللبنانية