في ضرورة توليد الأمل من الالم
مجلة الوعي العربي ـ
فهد الريماوي:
في جحيم العناء والعذاب، يسقط العربي المسكون بهموم امته، ما ان يقرأ عناوين الصحف اليومية، او يشاهد شاشات القنوات الفضائية.. فالصراعات الدامية تكتسح الوطن العربي الكبير من الماء الى الماء، والخلافات السياسية والعقائدية تزلزل كيانه وتخلخل اركانه، والاختراقات الامنية تتعدد وتتمدد بتعدد الاصابع الاستخبارية الاجنبية التي تعيث فيه فساداً وخراباً.
الامة العربية كلها في محنة خانقة، بل في دوامة فوضوية قاتلة، وربما غير مسبوقة في التاريخ الحديث.. فالحاضر مجلل بالدم ومجندل بالارهاب، والمستقبل ملبد بالغموض ومبني للمجهول، والمرجعيات القيادية العاقلة والفاعلة مفقودة او متقاعدة، والجماهير الشعبية تائهة وحائرة وموزعة بين دعاوى الامركة والصهينة والتغريب، وفتاوى التمذهب والتكفير وجهاد المناكحة.
المفجع والمرعب والمقلق حد الذعر، ان الصراعات الاهلية الراهنة تدور في قلب الوطن العربي وليس في اطرافه، وتشتعل داخل عواصم القرار القومي وحواضر التاريخ العربي، كالقاهرة ودمشق وبغداد وبيروت، وليس في الدول الهامشية والمناطق الحدودية والمشيخات المصطنعة التي ما تصدرت الصفوف قط او تبوأت يوماً عربة القيادة او سدة المسؤولية العربية.
المفجع والمرعب ايضاً ان هذه الصراعات البالغة احياناً حدود الوحشية، تجري باسم الدين وليس الدنيا، وتنتسب للمطلق والمقدس وليس النسبي والواقعي، وتنطلق من المساجد والمعابد وليس الثكنات والمعسكرات، وتستند الى موروث الخلافات المذهبية والتاريخية الطاعنة في القدم وليس معطيات الزمن الحاضر والوقت الراهن.
هي في واقع الامر وحقيقته، توظيف للدين في معترك السياسة، واستحضار للماضي خدمة لاجندات الحاضر، وتظاهر بالحرص على مصلحة الشعب والوطن بغية التستر على خطيئة التحطيب في حبال القوى الامبريالية والصهيونية والرجعية النفطية والوهابية التي وضعت نصب اعينها تشويه الدين الاسلامي بذريعة نصرته، وتدمير الوطن العربي بدعوى تحريره، وتمزيق الشعوب العربية باثارة كل الرواسب والحزازات والنعرات الطائفية والمذهبية والجهوية والعشائرية.
اخطر الفتن واطول الحروب، تلك التي تندلع لاسباب ومنطلقات دينية، وتدور رحاها تحت رايات الالوهية والقداسة والقول الفصل، وتستمد زخمها وتطرفها من سطور الفتاوى والسلفيات والغيبيات وصكوك الحرمان والغفران، خصوصاً اذا ما تولى الجهلة والمتخلفون مهمات تفسير وتأويل النصوص والآيات، وتحميلها فوق ما تحتمل، وقراءتها بعين التشدد والتعسف والانغلاق، وليس التسامح والاعتدال والانفتاح.
كل الدلائل والمؤشرات والمقدمات تنذر بان امتنا العربية تقف حالياً على كف عفريت، وتسير الى حتفها بظلفها، وتندفع حثيثاً نحو السقوط في براثن الفتن المتعددة الانواع والمستويات.. فتن بين الحكام والمحكومين، وبين العلمانيين والاسلاميين، وبين اهل السنة والشيعة، وبين الاسلاميين المعتدلين والمتطرفين، شأن ما يجري راهناً في تونس بين حركة النهضة الاخوانية وجماعة انصار الشريعة السلفية، وقبلها في مصر بين الحكم الاخواني والاحزاب السلفية والجماعات التكفيرية، وبالذات في شبه جزيرة سيناء.
اعمى البصر والبصيرة كل من لا يرى هذا المسار العربي المجنون والمصير الخطير، وكل من يكابر او ينكر ان ما تشهده امتنا محض هجير قاتل وليس ربيعاً يانعاً، وكل من يتوهم انه بمنأى عن ألسنة الحرائق والنيران ما دامت تدور في غير بلده وخارج حدوده، جاهلاً او متجاهلاً ان المخطط التآمري التخريبي يستهدف الوطن العربي بأسره، والدين الاسلامي بعمومه، حتى لو اعتمد سياسة التدرج والتقسيط، وحتى لو تقصّد في البداية بلداً دون آخر او مذهباً دون غيره.
اعمى البصر والبصيرة كل عربي لا يدرك مراحل وتنويعات المخطط الامبريالي – الصهيوني – الرجعي لتدمير الامة العربية، وسحق عروبتها وتفكيك شعوبها وتجزئة اوطانها.. ففي البداية تولت اسرائيل هذه المهمة من خلال التصدي المباشر للمشروع القومي الناصري والعمل الفدائي الفلسطيني، طوال عقود الخمسينات والستينات والسبعينات، ثم ما لبثت الولايات المتحدة ان تسلمت دفة التصدي المباشر لهذا المشروع القومي من خلال احتواء مصر السادات وتدجين فتح عرفات وضرب عراق صدام حسين، ولدى افلاس الولايات المتحدة المالي والعسكري، وهزيمة اسرائيل مرتين على ايدي ابطال حزب الله اللبناني خلال العقد الماضي، فقد استقر رأي المراكز الاستعمارية العالمية على تنحي امريكا واسرائيل عن سدة العمل العدواني المباشر، وايكاله الى القوى والعواصم الرجعية والوهابية والاخوانية في قطر والسعودية وغيرهما بهدف ”تعريب الصراع”، وتدمير ما تبقى من مبادئ قومية وانفاس عروبية وتطلعات وحدوية، عبر توظيف المال النفطي الغزير والعصابات الارهابية والتكفيرية المتوحشة والهمجية.
الغريب العجيب ان معظم فصائل المعارضة العربية التي طالما اتهمت نفسها بالاستقلالية والتقدمية والمرتبة الريادية والطلائعية، لم تتورع عن الاستقواء بالعثماني والامريكاني، والانطواء تحت عباءة الرجعي والوهابي، والارتواء من ابار الغاز والنفط، والايغال في مسافات الردة والثورة المضادة، واللهاث خلف بريق السلطة والشهرة والنفوذ، مهما كلف الثمن وبلغت التقلبات وتعددت الذرائع والمبررات.
الاغرب من فساد اهل النخبة والمعارضة، هو هزال البنى الشعبية وضعف العلائق والروابط الاجتماعية العربية، ربما لان الجماهير عانت كثيراً وطويلاً من عسف الحاكمين وجورهم وفسادهم واستبدادهم، فادارت ظهرها للعمل العام والانتماء الوطني والمشاركة الشعبية، وانصرفت لتدبير شؤونها الخاصة والمعاشية، واستعادت ولاءاتها الضيقة والموروثة جهوياً وقبلياً وطائفياً، واوكلت امر تخليصها من حكامها الظالمين الى رب العالمين الذي دأبت على التقرب له من خلال التعبد والدعاء والرجاء وارتياد المساجد والكنائس والحسينيات.
وحتى حين نفضت هذه الجماهير الكادحة عن نفسها غبار الذل والكسل، وانفجرت في وجوه حكامها واطاحت عدداً منهم، فقد احتارت ماذا تصنع بانتصارها، وعجزت عن استكمال فصول ثورتها، واسلمت قيادها للجماعات الاصولية والسلفية، واتاحت لاجهزة الاستعمار والاستكبار التسلل والنفاذ الى اوساطها واعماقها، وركوب موجاتها وتياراتها توطئة لحرفها عن حقيقة اهدافها، وتوجيه بوصلتها نحو مآرب اخرى من شأنها خلط الحابل بالنابل، واشاعة اجواء الفوضى والانقسام، وادارة طاقة المرء ضد نفسه واهله.
طيب.. ما العمل ؟؟ وهل يجوز ان يستمر الحال على هذا المنوال ؟؟
ليس في مقدور شخص بعينه، مهما اوتي من العلم والحكمة، ان يقدم اجابة شافية وافية عن هذا السؤال، فالامر جلل والوضع معقد وخطير، ولا بد من جهد قومي جماعي تنهض به البقية الباقية من صفوة ابناء هذه الامة، لاشتقاق مشروع فكري وثقافي وسياسي انقاذي شامل ومؤهل لاجتذاب واستقطاب اوسع القطاعات الشعبية والنخبوية العربية، وتحرير عقلها السياسي، وتطهير وعيها من سطوة المشايخ والفتاوى والاوهام الظلامية، واعادتها الى جادة الثوابت الوطنية والقومية والتقدمية المعروفة، ولكن وفق شروط الوقت الحاضر وحقائقه ومستجداته.