فوضى المذاهب وسقوط تركيا .. نهاية جمهورية أتاتورك
ليس هناك أكثر بؤسا ممن لايرى الا ماتراه عيناه .. وليس هناك أكثر حذقا ممن لايصدق عينيه ولايبالي بأهواء قلبه وضرباته ورقصاته بل يحيل كل ماتراه العين وكل مايراقصه قلبه الى محاكم عقله ومخابر وعيه لقياس الصور التي يراها ومعرفة السراب من الواقع .. فليس هناك أكثر خداعا للنفس مثل العين البشرية التي لاترى الحقائق التي تكتب دوما بالأشعة تحت الحمراء .. ومن يراجع تاريخ الانسان يعرف ان ما لارأته العيون هو الذي أخرج الانسان من الظلام .. من الذرّة الى الالكترون .. وأن العيون التي لحقت الظلال وتموجات الضوء والصور انما كانت تلاحق السراب ..
في الأزمة السورية صدق الناس مارأته عيونهم على الجزيرة وشهود العيان ونبوءات صفوت الزيات وعنتريات مجلس الأمن وتهديدات الغرب وسيمفونية الأيام المعدودة .. وكل من صدق العيون التي شاهدت قدوم انهيار الدولة السورية كالقدر المحتوم وشاهد سقوطها بأم عينيه على الشاشات والورق والفيسبوك أدرك اليوم أن مارأته عيناه كان هو السراب بعينه .. وأدرك كل الذين راقصت قلوبهم وجوانحهم أحلام انهيار النظام السوري على كل الأنغام وفي مهرجانات الأمم المتحدة أنها كانت حفلات تسلية ومسرحيات للوهم والخيال .. وأن الأشعة ماتحت الحمراء كانت تقول غير ذلك .. لكنه لم يرها ..
لاأدري لم لايستطيع الناس قراءة المشهد التركي بنفس الطريقة البعيدة عن العواطف والرقصات والأدعية الجوفاء .. فقد بدا البعض مشدوها من نجاح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية .. وتم تطويب النصر باسم اردوغان .. ولكن هذا الذهول وخيبة الأمل من نتيجة الانتخابات يدلل على أن من يتابع الشأن التركي لايزال لايقدر على التمييز بين اردوغان وحزب العدالة والتنمية والاسلام السياسي وانتهازيته ونفاقه وتحولاته الدراماتيكية .. ولايقدر على التخلي عن مغازلة الأمنيات .. وهو يصر على أن ينظر بعينيه الى الظلال ونقوش الأخيلة على الجدران .. ولايرى ماتقوله الأشعة ماتحت الحمراء للسياسة .. نعم .. لاتزال العينان تمارسان الخداع عندما لايزجرهما العقل ..
وقبل الخوض في هذا الموضوع الشائك فلا بد أن أعترف انني أحس بالذل أنني أذل لغتي عندما أغمسها في حبر المذاهب وعندما أسمح لها بمصافحة الفروع وأسماء الطوائف .. بل انني أحس أنني كمن يقبض على جمرة من نار كرها ورغما عنه .. وأعرف أنني أفضل الحديث مع الشيطان على ان أمر على سيرة المذاهب .. وأنني لن أتخلص من عار الخوض في مياهها المتلاطمة الا بأن أتعمد في مياه العفو والغفران .. وأطلب الصفح من آلهة اللغة ومن ألواح الحروف التي ولدت في أوغاريت قبل ولادة كلام المذاهب .. والمذاهب..
****************************
لقد أراد الناس أن يروا في تركيا مشهد السقوط الذي انتظروه وتوقعوه .. ولكن حزب العدالة والتنمية لايسقط بالانتخابات بهذه الطريقة كما أن أردوغان لن تسقطه صناديق الاقتراع بل حزب العدالة نفسه .. والغريب أن كثرة تعثرات أردوغان خلقت مناخا من التوقعات بقرب سقوطه في الانتخابات .. الا ان من يعرف اسرار تركيا الاسلامية سيفاجأ بأن تكون نتيجة الانتخابات على عكس ماظهرت .. وهنا لابد من أن يميز الناس بين الاسلام السياسي والسنية السياسية التي حملت أردوغان في انتخابات البلديات ..
ان كان هناك من توصيف لوضع تركيا اليوم فهو أنها جسد للاسلام السياسي ومآلاته وسيرة حياته ومصيره .. وهي ترمومتر المجتمعات الاسلامية والحركات الاسلامية .. فتركيا هي حقل التجارب الذي بدأ فيه الاسلام السياسي تمريناته في السلطة دون ثورة .. فرغم ان كل الاحزاب الاسلامية في كل العالم الاسلامي خاضت صراعا مريرا من أجل الوصول للسلطة دون جدوى فان اسلاميي تركيا وصلوا الى السلطة دون ثورة ودون صراع !! رغم ان تركيا معقل من معاقل حلف الأطلسي وجيوشه .. الا أن هناك لغزا لم يفهم بعد وهو في سؤال كيف تخلى الأطلسي عن تركيا دون قتال للاسلاميين فيما منع اسلاميي الجزائر من الوصول للسلطة عبر دعم قرار الجيش بالغاء نتيجة الانتخابات الشهيرة؟؟ وفي هذا سر لاتراه الا الأشعة ماتحت الحمراء للسياسة الدولية .. ولايجيب عنه سوى الجدران السرية التي كانت تضم أردوغان مع زواره من الأمريكيين في السجن عندما سجن بتهمة التحريض على الكراهية عام 1998 ..
في استماتة اسلاميي تركيا للاستيلاء على سورية ظهرت حقيقة التحولات في التجربة الاسلامية في تركيا والتي بدأت تكشف عن تحولات مرضية خطيرة أصيب بها الاسلام السياسي كتيار واسع تقوده تركيا .. فظهرت أمراضه وبثوره وقروح جلده وتحولاته العمرية والتي تجلت في تجربة رجب طيب اردوغان وحزب العدالة والتنمية .. وفي التجربة التركية تحول مثير للدهشة فقد ذاب الثلج وبان المرج وانتهى الاسلام السياسي الى الوقوع في أكبر خطيئة وفخ تاريخيين وهي أنه فتك بالاسلام السياسي ليحل محله “السنية السياسية” .. وبدا ذلك عندما شققنا قلبه ورأينا أنه لم يبق في ذلك القلب “سياسة اسلامية” بل براغماتية وانتهازية سياسية ومذهبية فاقعة .. لأن الأصبغة التي تزين بها وكل الماكياجات ذابت وتحللت في الأزمة السورية والربيع العربي وتبين أن أزمة الاسلام السياسي ومرضه هي في الحقيقة في انبثاق هوية جديدة لمخلوق جديد اسمه “السنية السياسية” .. وهي احدى منتجات مشروع الفوضى الخلاقة وأحد فروعها الرئيسية ..
والانتخابات البلدية التركية هي الدليل القطعي على تفكك الاسلام السياسي الى مكوناته المذهبية بنضوج الشكل النهائي الفج للسنية السياسية بدل الاسلام السياسي الذي سقط في الربيع العربي حيث التهمت السنية السياسية بقايا الاسلام السياسي الذي كان يشكل حلما رومانسيا للاسلاميين جميعا بشقيهم السنة والشيعة .. وهي آخر تجليات المشروع الغربي الصهيوني لتدمير الخطر الاخضر .. المتمثل بالمجتمعات الاسلامية .. عبر آخر طراز من اشكال الفوضى الخلاقة وهو فوضى المذاهب ..
ومن يراقب تفكك الاسلام السياسي الى مكوناته المذهبية عليه ان يراجع سيرة حياة الاسلام السياسي من ساعة الولادة الى شيخوخته .. فربما بدأ الاسلام السياسي مع محاولات الاخوان المسلمين اعادة احياء فكرة الخلافة في مصر كرد على انهيار الخلافة العثمانية كرمز سياسي أخير للمسلمين ..ولكن كل محاولاتهم فشلت عبر العقود .. الى أن فوجئ الجميع بنجاح نموذج الاسلام السياسي في ايران في التمكن من السلطة عبر وصول صاخب وعبر ثورة شعبية عارمة للامام الخميني حرك بها الجموع بشكل مدهش وأنجز اقامة أول جمهورية اسلامية في العصر الحديث بعد آخر امبراطورية سقطت في استانبول ..
ولكن رغم ان الثورة الايرانية رفعت شعار الاسلام والوحدة الاسلامية لتشمل جميع المسلمين سنة وشيعة وأتبعت اسم جمهوريتها بصفة “الاسلامية” .. ويحسب لقادتها أنهم لم يتورطوا في الخطاب المذهبي في حديثهم العام .. فان التيارات الاسلامية الرئيسية خارج ايران بما فيها الاخوان المسلمين بقيت حذرة في الترحيب بالوافد الجديد وفاترة في توجهها نحو ايران .. والسبب كان عقائديا بحتا .. فالجمهورية الاسلامية الايرانية أسسها ثوار من الشيعة .. وهذا نقيض كاف للتردد بشأن الاندفاع نحوها وعناقها .. بل اكتفى الاسلاميون العرب السنّة بالمجاملات و “التقية” السياسية .. وانصرفوا لاقامة مشروعهم الخاص بهم ..الجمهورية الاسلامية .. بنسخة سنية ..وهذا مايفسر سبب عدم تمدد الثورة الايرانية خارج حدود التواجد الشيعي في المنطقة
وكان أن الحرب العراقية الايرانية قد رسمت أسوارا حول مشروع ايران الثوري في العالم الاسلامي .. فرغم أنها خيضت على شكل صراع عربي فارسي كما حاول الرئيس صدام حسين تصويره الا أن المزاج الباطن للجمهور العربي كان يراها صراعا بين السنة والشيعة في النهاية .. وكان السبب في ذلك الشعور هو تلاعب الاعلام العربي الخليجي والاعلام الغربي الخبيث بمشاعر الناس .. فقد كانت هيئة الاذاعة البريطانية في قسمها العربي في لندن (بي بي سي) تردد دوما أن الرئيس العراقي يضع الجنود الشيعة في مقدمة الجيش العراقي والخطوط الدفاعية العراقية لمواجهة الهجمات الايرانية لكنه يحتفظ بالجنود السنة في الخطوط الخلفية عبر وحدات الحرس الجمهوري التي كانت تطلق النار على القوات العراقية الأمامية التي تتخاذل أو تتراجع في القتال ضد العدو الايراني .. وكان هذا الأمر المنسوب للقادة العراقيين دسا للسم في عسل القومية العربية وذكريات القادسية وجيش رستم التي حاول صدام حسين التشبث بها في حين أن العقل المسلم أخذ عنوة وتم جره من قادسية صدام الى معركة صفين .. وكان من الواضح أن خيار تفعيل الصراع السني الشيعي بدأ يطبخ على نار هادئة ولكنه كان يحتاج الى وقت لينضج والى وسائل لطبخه .. الى أن تم غزو العراق على يد جورج بوش وهناك ظهرت ملامح المشروع ووسائل تصنيع الفوضى المذهبية ..
ومر حادث عابر تم دفنه بسرعة عندما ألقى العراقيون القبض في البصرة على ملثمين بثياب عربية يطلقان النار على الشرطة وجموع مدنية وعندما لوحقا وألقي القبض عليهما تبين أنهما جنديان بريطانيان .. وفي الحال اقتحمت المدرعات البريطانية جدران السجن واستعادتهما حتى قبل التحقيق معهما واختفت القصة من الاعلام كأنها لم تحدث .. وكان ذلك كافيا ليتساءل الناس عن مشروع غربي لتجييش الناس ضد بعضهم .. ولكن الحادثة انزلقت في بلاليع الذاكرة بسرعة وانطوت تحت ركام تفجيرات الكاظمية والأعظمية واختفت تحت دموع الآلاف في الحسينيات والمساجد السنية حيث كانت فرق الموت من بلاك ووتر تنشط في عملية قتل الطرفين من السنة والشيعة .. وتولت فضائية الزوراء الترويج لها بشكل هستيري فكانت تصور ضحايا السنة وتحرض على ماسمته عصابات مقتدى الصدر .. لتقوم الجزيرة بعملية تحريض أوسع وتوزيع أشمل لمنتجات التمذهب بشكل متقن وحرفي للتأثير على العقل العربي والتلذذ بفكرة الانتقام وزرع الشعور بالحاجة الماسة لقيام سلطة دينية سياسية “سنية” تقف في وجه فرق الموت الشيعية والمد السياسي الشيعي الذي قضم الحياة السياسية للجماهير “السنية” .. تماما كما روجت فكرة الهولوكوست للحاجة الى وطن قومي لليهود الذين يتعرضون للابادة على يد النازيين .. وهنا كانت الصورة الرائجة تقول بأن السنة يتعرضون لانتقام رهيب وأن نهجهم يتعرض للغزو الفكري والاجتياح وأن عقيدتهم مهددة بالاستئصال وهم يتعرضون للابادة .. فقد تم تدمير سلطتهم في العراق بعد ألف سنة من تربعهم على السلطة في بلاد الرافدين .. ثم تم تدمير سلطتهم في لبنان عبر اغتيال الحريري آخر بقايا السنية السياسية .. وبذلك كان الهلال الشيعي يتمدد مثل الكابوس على مساحات العقل ..
وفي هذه المرحلة تفجر الخوف السني والعصبية السنية بشكل غريب كنوع من ميكانيزما الدفاع العنيفة في العراق .. دفاع ضد خوف وتوجس من الموت والانحلال والانقراض تجلى ذلك بعنف مفرط ضد المكونات الأخرى الدينية والمذهبية ومغالاة في الرد وقسوة في التعبير عن الخوف من الخصم بقطع رأسه والتمثيل بجثته ..والتفنن في تعذيبه الى حد جنوني تجلى في أقسى صورة في مجزرة عرس الدجيل عام 2006 التي هوجم فيها أحد الأعراس واغتصبت العروس في مسجد بلال الحبشي قبل أن يقطع ثدياها بالمنجل .. أما الأطفال الصغار فقد تم القاؤهم في نهر دجلة بعد ربطهم بالاثقال والحجارة أمام أعين ذويهم .. ثم تم قتل جميع الرجال بوحشية ..
في هذه السنوات ظهر البديل والمنقذ في تركيا ونهض النظير السياسي السني للمشروع الاسلامي الايراني .. وطفا الحلم الرومانسي للاسلاميين وكان نجم الدين اربكان يريد اقامة تجربة تركية مستفيدة من دروس نجاح الثورة الايرانية في اطلاق مشروعها الاسلامي السياسي لكن لقاءات غامضة بين اردوغان والمخابرات الامريكية في سجنه عام 1998 غير من مشروع أربكان الى مشروع اردوغان .. واستجاب الله أخيرا لدعوات المؤمنين المظلومين .. وظهرت تركيا درة الاسلام الجديد ..ونموذج النجاح المذهل .. والأرض الموعودة .. ولكن خلف الاسلام السياسي التركي كان هناك مخلوق جديد يترعرع .. ولم يظهر الى العلن الا في زمن الربيع العربي ..
*******************************************
الاسلام السياسي الذي أفرزته ثورات الربيع ليس الا تعبيرا عن صعود مرسوم للسنية السياسية التي صدمها سقوط الحكم في العراق وصعود الشيعية السياسية التي مهدت لها الطريق الدبابات الامريكية ..وتوجتها بمسرحية اعدام الرئيس صدام حسين المحاط بنداءات شيعية تمجد الشهيد الصدر كرمز للشيعية السياسية المنتصرة .. فقد نظرت الجموع الى هذا الاعدام على أنه اعدام قامت به “الشيعية السياسية” “للسنية السياسية” .. فجن حنونها ..
ولذلك نرى أن رد فعل الثورات العربية كمشروع للاسلام السياسي لم يفكر بالانتقام من الغرب والامريكيين الذين غزوا العراق وأذلوا قادته .. ولم يفكر بالصهيونية المسيحية ومشاريعها الضخمة لابتلاع المنطقة وأديانها ومجتمعاتها وثرواتها .. ولم يكترث بكل ماقيل عن المسجد الأقصى وتهويده وبكل اهانات الرسول والقرآن .. بل كان جل همه هو ابراز الهوية الطائفية للاسلام السياسي الناهض على أنه اسلام سني وصعود للسنية السياسية والالتفات نحو النقيض العقائدي المتمثل بالشيعة .. وهذا واضح جدا في اصرار الحركات الاسلامية الحالية على تثبيت صفة (الاسلام السني) على منطلقاتها النظرية الجديدة والعمل الحثيث على القاء الناس في أتون الحروب المذهبية وانتزاعهم من حضن المشاعر الوطنية للارتماء في أحضان المذهبية السياسية فقد امتصت الثورات العربية مفكرين ومثقفين الى مستنقع المذاهب والولاءات الضيقة .. ويبدو الاصرار على سنية فكر الحركات الاسلامية الحالية وتخصص كتائبها المقاتلة في قتال الأقليات وصبغ الجيش الوطني بصبغة طائفية دليل على أنها ليست موجهة للغرب (المسيحي) بل للنقيض الاسلامي الداخلي .. وتجلى ذلك بالخطاب المذهبي البغيض لمحمد مرسي في زيارته لايران بعد توليه السلطة بأيام .. وكان ظاهرا في محاولة اهانة الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد في الازهر والصراخ في وجهه ضد تمدد “الشيعية السياسية” عبر ماسمي التشييع الذي تمارسه ايران للمنطقة .. وهو التعبير الظاهري للمطالبة بايقاف الشيعية السياسية وليس التشيع الذي يدرك الجميع أنه ليس الا مشروعا خياليا .. وهذا كان لاعطاء هوية للاسلام السياسي الناهض وهي “السنية السياسية” .. وقد تجلت أكثر مظاهر الميول المذهبية في اعطاء الثورة السورية البعد المذهبي الأقصى رغم كل براقع الحرية فهناك اصرار على محاولة اقرار طائف سوري وواقع مذهبي يقر بحقوق سنية ثابتة مقدسة لاتقبل النقاش مقابل حرمان بقية الأقليات من هذه الميزات السياسية ليمهد ذلك لصعود السنية السياسية في سورية كتيار متمم “للسنية السياسية” المجاورة في لبنان المتمثلة في تيار المستقبل ولتتكامل مع صعود لموجة السنية السياسية العراقية عبر الأنبار كنوع من التوازن مع الشيعية السياسية التي ثبتت اقدامها في العراق ..
وتركيا ليست استثناء بل هي ربما المحور الرئيسي في كل منظومة بناء السنية السياسية الحديثة ومحركها الرئيسي .. لأن تركيا تبين انها في هذه المرحلة تدير الصراع في أنبار العراق وتستقبل زعماء الأنبار الطائفيين .. وتركيا تدير الصراع في سورية كأمه الرؤوم وتذكي من المشاعر المذهبية وتقدم نفسها حامية للسنة من خلال اثارة الحنين للعهد العثماني الذي كان يمثل النقيض الصرف للصفوية .. وكانت تدعم محمد مرسي في سياق اطلاق الاسلام السياسي الذي سيكشر عن أسنانه المذهبية وينضم لجوقة منشدي المذهبية السنية كلما دعت الضرورة كما حدث في تجنيد محمد مرسي للحرب في سورية في مواقفه الشهيرة ورعايته للخطاب المذهبي ومؤتمرات الجهاد في بلاد الشام ضد الكفار والروافض ..رغم أن الحكمة كانت تقتضي أن ينأى محمد مرسي بنفسه عن التورط المباشر وتركه لتركيا ليتفرغ لحل مشكلات الاخوان في مصر .. لكن أردوغان لم يكن قادرا على الانتظار .. واستدعى الاخوان المسلمين المصريين الى السفربرلك في الجهاد ضد الكفار والروافض ..فوقع محمد مرسي بسرعة ..
***********************************************
لقد فوجئ بعض الناس من فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية وهم كانوا يتوقعون نهاية حقبة العدالة والتنمية نتيجة الاحباطات والتخبطات التي مر بها اردوغان كمسؤول مباشر عن نشاطات الحزب .. بل ان كم الفضائح والفساد في تركيا انبعثت روائحه في كل العالم وانتكست الحريات كثيرا وخاضت المؤسسة الحاكمة صراعا مريرا مع جزء من الشعب التركي .. ولو أنها في اي بلد ديمقراطي عريق لقدمت الحكومة استقالتها على الفور دون تردد ودعت لانتخابات مبكرة .. لكن الانتخابات البلدية أظهرت أن كل هذه الزلازل لم تغير كثيرا في مزاج الناس .. لأن الناس في تركيا صوتوا لما صار يمثله حزب العدالة والتنمية من شكل من أشكال “السنية السياسية” المستهدفة لأنها المعنية بالدفاع عن الهوية السنية الاسلامية عبر الباسها الدرع السياسي الذي يحميها .. فان سقطت السنية السياسية سقط المذهب السني .. والاسلام ..
وتحول أردوغان الى أيقونة للسنية السياسية في عقول الاسلاميين الأتراك والثوار العرب .. فالرجل خلع فجأة لبوس الاسلام السياسي الذي ارتداه عندما كان يقوم بعملية اختراق للمنطقة .. بل وترجل نهائيا من مراكب الاسلام السياسي وصعد الى مركب “السنية السياسية” وذلك عبر ادعائه أنه يدافع عن اهل السنة المظلومين في سورية وغيرها .. وصار يهاجم الشيعة والأقليات غير السنية في تركيا .. ويوجه لها اتهامات لاتخلو من الاحتقار والكراهية .. بل انه صار يجاهر بميوله المذهبية وبرغبته في أن يكون زعيم العالم السني .. وذلك عبر تمجيد السلاطين الذين ارتكبوا مذابح دينية بحق الأقليات والمذاهب الأخرى ..
ومن هنا تبين أن حزب العدالة والتنمية قد تحول بسرعة بسبب انتهازيته من ذراع للاسلام السياسي الى ذراع للسنية السياسية وبالتالي فان عملية اقتلاعه من السلطة في تركيا صارت بمثابة اقتلاع للسنية السياسية بلا مقابل وتدمير لقلعة مذهبية يلجأ اليها المظلومون والخائفون من “الهلال” .. ولذلك ورغم كل الموبقات التي يرتكبها أردوغان ورغم كل فساده فان حزبه لم يهتز لأنه صار حزب المذهب السني الذي تصاعد في تركيا.. وصارت علاقة الناس به في منطقة الأناضول تحديدا علاقة عاطفية وعلاقة نعرة مذهبية .. تماما مثل علاقة السنة في لبنان بسعدو الحريري .. فالحريري ليس فيه أي كاريزما وهو مخجل بكل المقاييس ليتبوأ منصب زعامة دينية لأنه ليس فقيها ولافصيحا ..ولامتحدثا .. وليس راويا للحديث والسنة ولايحفظ القرآن وليس في سلوكه زهد عمر وتواضعه ..ولاهو ناسك في صومعة .. ومع ذلك فانه في عيون كثير من السنة اللبنانيين الزعيم الأوحد .. وقائد السنية السياسية التي تواجه الشيعية السياسية .. وتتناظر مع تجربة المارونية السياسية والدرزية السياسية في لبنان ..
ولكن هذه الانتخابات أظهرت الآن المشكلة الكبرى التي تواجه تركيا وهي أن السنية السياسية التي خلعت الاسلام السياسي لاتستطيع الاستمرار طويلا دون تغذية مذهبية .. وغذاؤها سيكون برفع سقف التهييح المذهبي في الداخل التركي .. ومن يرى تفصيل النسب والأرقام في انتخابات تركيا يعرف مدى الورطة التركية .. فالمجتمع منقسم مذهبيا بشكل واضح .. وحزب العدالة والتنمية يحشد لدى جمهور السنة الأتراك ليحافظ على ولائه له والوفاء له والذود عنه في صناديق الانتخاب .. وهذا يعني اطلاقا في المقابل لحمّى المذاهب في تركيا .. وربما صعودا للعلوية السياسية كون المكون الضحية لهذا السعار المذهبي سيكون حتما الأقليات العلوية التي خاضت صراعا مريرا في الثمانينات في انطاكية ضد مكونات مذهبية مناوئة لها واضطر الجيش التركي للتدخل يومها لايقاف الصراع بعد مئات من الضحايا .. ولكن في الثمانينات كانت الدولة علمانية ويتساوى الجميع لديها .. ولذلك تمكنت من ايقاف التوتر لأنها لاتنتمي الى أي من الطرفين .. أما اليوم فللحكومة جمهورها الذي وعدته بحماية السنية السياسية كهوية جديدة ووعدها هو بالوفاء لها .. وأي توتر قادم سيكون دمويا وقاسيا للغاية سيترك اثره على كل تركيا ويفتح أمامها احتمالات تفكك الجمهورية لأن لاقوة ستكون قادرة على ايقاف الحنون عندما ينطلق .. والناس لم تصوت اليوم لأردوغان لأنه رئيس حكومة فاسد ومتلاعب بالحقائق ولأنه قد يتورط في حرب عبثية في سورية لكنها صوتت ضد اسقاط السنية السياسية في تركيا لأن حزب العدالة والتنمية (وعبر تصريحات لالبس فيها لأردوغان) صار يمارس الابتزاز المذهبي في تركيا نفسها ..
جمهورية اتاتورك العلمانية تتآكل لأن الاسلام السياسي الذي كان يمكن ان يتابع مسيرته دون صدام مع مكوناته ومذاهبه قد انتهى ونهشته السنية السياسية لحزب العدالة والتنمية الذي استغلها بانتهازية وأنانية .. وهذا ثمن ستدفعه كل التيارات الدينية عندما تغالي في شعاراتها الدينية .. هذا هو بالضبط مارفضته الدولة الوطنية السورية دوما .. ورغم كل محاولات الوسطاء بادراج التيارات الدينية والاخوان المسلمين في ترتيبات الحكم بشكل صريح .. لأن صعود التيارات الدينية حتى في بلد علماني يعني صعود المذاهب أيضا في مرحلة لاحقة بشكل حتمي .. ولاأزال أذكر حادثة سمعتها من شاهد عيان عندما كان أحد القياديين السوريين يقدم قائمة مرشحين للقيادات البعثية للرئيس الراحل حافظ الأسد .. وكان كلما قدم اسما نوه الى أنه سيمثل هذه الطائفة او تلك في القيادة .. وهنا بدا الغضب على وجه الرئيس حافظ الأسد الذي سأل ذلك القيادي متهكما: انك قدمت لي في قائمة لقيادة بعثية ممثلين للطوائف .. فهل لك أن تقول لي أين هو ممثل حزب البعث؟؟ الا يحق لحزب البعث أن يكون ممثلا في قيادة بعثية ؟؟ .. ثم أعاد الورقة دون توقيعه وأنهى الاجتماع وقد بدا عليه الاستياء .. وهذا كان يدل على أن الاعتبارات المذهبية وان تمت مراعاتها برفق ودون تشنج الا أنها لم يكن ليسمح لها بأن تحل محل الاعتبارات الوطنية .. ولا أن تتقدم على الهوية العامة الشاملة ..
ولذلك فان فوز العدالة والتنمية ليس فوزا لأردوغان .. بل ان الرجل في حسابات الحزب طار ورقة محترقة ..ووجودها مؤقت ريثما تمر مرحلة الانتخابات .. فالحزب في النهاية يدرك أن أردوغان وأوغلو لايستطيعان اصلاح الخلل الكبير في داخل تركيا وخارجها .. فهناك شرخ كبير بين اردوغان وشريحة كبيرة من الناس في الداخل وصل الى مرحلة العداء الشرس والكراهية المريرة .. وهناك شعور أن الجمهور تغاضى عن فساده لاعتبارات مذهبية ورمزية وحزبية ..وهناك قناعة متعاظمة أن تركيا لاتستطيع أن تعيش معزولة الى عشر سنين أخرى بسبب اردوغان .. فالرجل لم يبق في محيط تركيا من يطيقه في الحوارات الصريحة لقادة المنطقة .. لاسورية ولاايران ولاالعراق ولاروسيا ولاارمينية ولاقبرص ..رغم كل المجاملات والكلمات البروتوكولية .. ومن الأفضل أن يتم تبديله بطريقة انقلاب حزبي على طريقة توني بلير ..قبل أن تنفجر الفنابل الموقوتة ..
قد ينجح حزب العدالة في تمرير التبديل لتسهيل حل المشكلات الداخلية والخارجية .ولكنه لم يعد قادرا على تجنب انهيار جمهورية اتاتورك الا بعودة العلمانيين لاصلاح مرحلة فوضى المذاهب التي أطلقها اردوغان .. لأن انطلاق المذاهب السياسية على محركات وعجلات المذاهب الدينية خطر للغاية .. فقد تحول حزب العدالة والتنمية الى حزب للسنة الأتراك .. وبدأت الأحزاب الاخرى في عملية امتصاص الطوائف والأقليات الغاضبة لتتحول الى أحزاب طائفية بالتدريج .. وسيعلو صوت السعار الديني كلما أحس حزب العدالة والتنمية بأنه مهدد بالخسارة والتراجع .. وهذا الأسلوب هو وصفة دقيقة جدا لنهاية جمهورية علمانية .. ونهوض مشروع فوضى المذاهب .. وهو الترجمة الحرفية للفوضى الخلاقة ..هل هناك فوضى خلاقة أكثر دمارا من فوضى المذاهب؟؟ ..
وينظر الآن الى الانتخابات التركية اليوم بنفس مقياس الانتخابات البريطانية التي ثبتت توني بلير رئيسا للوزراء للمرة الثالثة رغم ان المجتمع البريطاني كان يرى فيه كاذبا بعد حرب العراق وقبركته لدوسيه ال 45 دقيقة التي ستصل خلالها صواريخ صدام حسين الكيماوية الى سكان لندن وتقتلهم .. حتى أطلق عليه الناس لقب (كلب بوش) .. لكن الناخبين البريطانيين الذين تسببوا في نجاحه لثالث مرة قالوا انهم لم يصوتوا له بل لسياسيات وزير خزانته غوردون براون الذي نجح في سياساته المالية .. وكان الخيار أمام الناخب البريطاني أن يتم التصويت لحزب العمال حتى وان بقي بلير رئيسه لأن الانتقام من بلير يعني الانتقام من الحزب وحرمان الناس من سياسات براون المالية القوية .. ولكن الحزب وصلت اليه الرسالة الانتخابية وقام بعملية التجميل بتنحية بلير بشكل مهذب وتنصيب براون مكانه بعد أشهر قليلة من الانتخابات .. وهو نفس الدرس الذي تلقته مارغريت تاتشر وهي في أوج عزها وانتصارها برصيد حرب الفوكلاند .. لكن انهيار سمعتها جعل الحزب يستبدلها ليحافظ على نفسه ..
أردوغان ليس بريطانيا .. وكل الدلائل تركد أنه تركي وعقله لايعمل بالوقود الأوروبي بل بالوقود التركي .. ولذلك فان خروجه من الحياة السياسية لن يكون الا خروجا صاخبا وعلى الطريقة التركية .. مهما احتفل الاسلاميون بانتصاراته ..ولاأدري لم تسرع السافل اسماعيل هنية للاحتفال ببلديات أردوغان .. ولم يتعلم من درس احتفاله بصعود مرسي .. من جديد لايقال الا: الأغبياء لايرون الا بعيونهم .. وكل من يصفق ..ويراقص قلبه .. ماعليه الا انتظار ماتراه الأيام في الأشعة ماتحت الحمراء للسياسة ..
نارام سرجون – موقع سوريا الآن