فلاديمير فلاديميرفيتش بوتين يتسلق قمة إفرست
جريدة البناء اللبنانية-
د. أحمد الزين:
في السادس والعشرين من كانون الأوّل 1991 وضعت نقطة النهاية لاتّحاد استطاع منذ ما بعد الحرب العالميّة الثانية أن يشكّل الكفّة الثانية من ميزان العالم في مقابل كفّة أخرى هي الولايات المتّحدة الأميركيّة.. إنّه الاتّحاد السوفياتي، وليد خمس عشرة دولة ممتدّة على مساحة توازي سدس المساحة الكليّة للكرة الأرضيّة.. ففي هذا اليوم أعلن الرّئيس ميخائيل غورباتشوف عن انحلال الاتّحاد السوفياتي داعياً جمهوريّاته إلى إنزال علمه عن مؤسّساتها معلناً إياها دولاً مستقلّة غير تابعة له..
أمّا الأسباب الكامنة وراء هذا السقوط المدوّي فكثيرة، لعلّ أبرزها كان الحرب الباردة وسباق التسلّح الذي خاضه الاتّحاد السوفياتي مع الولايات المتّحدة وأدّى في ما أدّى إليه إلى تراجع الاقتصاد السوفياتي وكان أحد اسباب تحلّله…
كذلك لا ننسى دور المخابرات الأميركية «CIA» والتي نادراً ما يحصل حدث كبير في العالم دون أن يكون على صلة بها، إمّا صانعة له، وإمّا معزّزة لفرضيّات حصوله، ففي كتابه «رقعة على رقعة الشطرنج» الّذي صدر عام 1956 كتب «وليام جاي كار» وهو ضابط في البحرية الأميركية وعميل مخابرات، ما معناه أنّ الاتّحاد السوفياتي سينهار مستقبلاً وأنّ الولايات الأميركية تعمل على ذلك.
ولعلّ العالم لم يشعر بهذا الانهيار كما شعر به الشرق الأوسط فمن أفغانستان إلى ليبيا إلى العراق تحوّلت الولايات المتّحدة إلى لاعب أوحد يمارس خياراته على دول فقدت عنصراً لا نقول إنّه كان حاميا لها، بل نقول إنّ مصالحه كانت تدفعه إلى الحدّ من الاندفاعة الأميركيّة نحوها…
أكبر دول الاتّحاد السوفياتي كانت روسيا وكانت هي المؤسّسة له لذا كان بديهيّا أن تشكّل وريثا شرعيّا لهذا الاتّحاد.. وقد عادت روسيا إلى الرّقعة الدّوليّة مع فلاديمير فلاديميرفيتش بوتين الّذي جاء من عالم المخابرات واعتلى سدّة الرّئاسة فيها عام 2000 فبرز إلى العالم متسلّقًا يبغي الوصول إلى قمّته..
بين عامي 2000 و 2008 استطاع فلاديمير بوتين أن يعيد لروسيا الكثير من ألقها، فسلاح الاتّحاد السوفياتي لا يزال ضمن حدودها، وبالتالي فإنّ ذلك شكّل نوعا من الرّدع للغرب فيما الإجراءات الاقتصاديّة البنّاءة استطاعت أن تضع حدّا للركود لا بل أن تتوجّه نحو ازدهار اقتصادي، فخلال رئاسة بوتين الأولى الممتدّة بين عامي 2000 و 2008 نما الاقتصاد الرّوسي بشكل مضطرد فمنح الشعب ثقته لبوتين ورأى فيه قائداً قادراً على التسلّق حتّى الوصول بروسيا نحو القمّة من جديد..
هي رحلة التسلّق بدأت والمتسلّق حكيم يعرف أين يضع قدميه..
بين العامين 2008 و 2012 شغل بوتين منصب رئيس مجلس الوزراء في ظلّ رئاسة ديمتري ميدفيديف ليعود فيُنتخب من جديد رئيسا لروسيا عام 2012.
عقوبات غربية تمّ فرضها على روسيا في العام 2014 على خلفيّة ضمّها لشبه جزيرة القرم وتدخّلها العسكري المباشر في شرق أوكرانيا.. أدّى ذلك إلى انكماش اقتصادي بلغ في العام 2015 ما نسبته 3,7% لكنّ هذا الرّكود لم يثن بوتين عن العمل على معالجة المشاكل الاقتصاديّة فانتعشت البلاد وولّى الرّكود.. ليعاد انتخابه رئيساً من جديد عام 2018 في فترة رئاسيّة ستمتدّ حتّى العام 2024.
رحلة جديدة من التّسلّق، والمتسلّق ذكي يعرف أين يضع قدميه..
على روسيا، وريثة الاتّحاد السوفياتي، أن تخرج إلى العالم من جديد، وكان ذلك من البوابة السّوريّة حيث السّعي الأميركي الدّؤوب لإسقاط نظام الأسد وإلحاق سورية بركب الدّول العربيّة المهشّمة أو الرّاضخة من العراق إلى ليبيا فالأردنّ…
لكنّ هذه المرّة لن يتكرّر السيناريو الليبي أو العراقي، ففي الأفق لاحت تباشير التّدخّل الرّوسي ليشكّل سدّاً في وجه المشروع الأميركي، لم ينهه لكنّه استطاع بمساعدة حلفاء سورية أن يوقف اندفاعه، فبقيت الدّولة السّوريّة لم تسقط كما سقطت ليبيا.. وكان لهذا التّدخّل الروسي في سورية أثره الكبير في عودة روسيا إلى الساحة الدّوليّة وإعادة شيء من التوازن إلى العالم.
يتابع بوتين رحلته في جبال المجد.. وهو ذكي يعرف أين يضع قدمه فلا تزلّ… رحلة نحو أعلى قمم العالم، هي قمة شبيهة بقمة إفرست كأعلى قمم العالم.
تحالفات جديدة.. نحو الشّرق در حيث ينهض التنين الصيني من كبوته، وبوتين لن يحارب هذا التنين بل سيشكّل معه تحالفاً عظيماً يملأ فراغ التراجع الأميركي، ويساهم في صنع عالم جديد متعدّد الأقطاب، أمّا بالنسبة للغربيين فيحاكيهم بشعرة معاوية يشدّون فيرخي يرخون فيشدّ، والوجهة دائما رحلة جديدة من التّسلّق نحو قمّة هذا العالم التّوّاق إلى معادلات جديدة..
وكما تكمن صعوبة تسلق أعلى القمم في انخفاض نسبة الأوكسيجن فإنّ صعوبة تسلق القمم السياسية تكمن في الشراسة الاميركية بالدفاع عن الاحادية العالمية في ادارة شؤون العالم.. وبداية المواجهة كانت في القرم حيث حركت الولايات المتحدة الأميركية أذرعها لاستفزاز الدب الروسي. فكان الردّ مباشراً فبدأت عملية ضمّ روسيا للقرم في 27 نيسان 2014 وغير مباشر من بوابة كوريا الشمالية ورئيسها كيم جونغ أون الذي وضع أميركا أمام خيارين أحلاهما مرّ فإما المواجهة وآلاف القتلى من الجيش الأميركي وإما المفاوضات وظهور اميركا بمظهر الضعيف فكان الخيار الثاني. المواجهة الثانية كانت في الساحة السورية مع إطلاق الولايات المتحدة الأميركية صواريخ توماهوك في نيسان 2017 لكن روسيا أسقطتها باستعمال منظومة الحرب الإلكترونية الجديدة (Krasuha-4)، وهي من أفضل أنظمة الدفاع الجوي الالكتروني في العالم، وقد سبّبت تشويشاً على رادارات المقاتلات الأميركية سابقاً وعلى طائرات أواكس. من المعروف أن الناتو، لديه أنظمة (DIRCM) و(DRFM) وغيرها، وهي أنظمة الكترونية تستخدم ضد الصواريخ المعادية لكن المنظومة الروسية (Krasuha-4) هي الأفضل واستعملتها روسيا في سورية لتوجه رسالة لمن يعنيهم الأمر أن لا مجال للتدخل العسكري في سورية. اما المواجهة الأكثر ضراوة فكانت في أوكرانيا حيث استخدمت الولايات المتحدة الأميركية باب الكنيسة للضغط على روسيا، وكما في القرم كذلك في أوكرانيا حيث كان هنالك ردّ روسي مباشر في أوكرانيا وردّ غير مباشر في فنزويلا ضدّ المصالح الأميركية. أما المواجهة الأكثر حداثة فكانت في اذار 2021 عندما وصف الرئيس الأميركي بايدن نظيره الروسي بالقاتل. بعد هذا الوصف المهين بثلاثة أيام سقط الرئيس الأميركي جو بايدن ثلاث مرات متتالية على سلّم الطائرة الرئاسية. تناول الإعلام الموضوع بالموقف المحرج دون التطرّق لأسباب هذا السقوط الذي وللمرة الأولى تكشف حقيقة أنّ هذا السقوط لم يكن عرضياً… بعد هذه الرسالة الروسية الشديدة الخطورة، أدرك من يعنيهم الأمر في بلاد العم سام أن لا مجال سوى بالتعاون مع الرئيس الداهية فلاديمير فلاديميرفيتش بوتين فبدأت الدبلوماسية الأميركية تتسوّل اللقاء بين الرئيسين على أرض محايدة وتطلّب الأمر الكثير من التضرّع حتى وافق فلاديمير فلاديميرفيتش بوتين على اللقاء.
كما في السياسة كذلك في القدرات العسكرية. فمع أن الميزانية العسكرية للقوات الأميركية هي عشرة أضعاف الميزانية العسكرية الروسية الا انّ الاسلحة الاستراتيجية العسكرية أثبتت تفوقها على نظيرتها الأميركية، ودائماً حسب المحللين العسكريين الأميركيين. فعلى سبيل المثال لا الحصر أدخل الصاروخ البالستي سارمات أو ما يعرف «الشيطان 2» الخدمة الفعلية بداية سنة 2021. هذا الصاروخ الذي أزيح الستار لأول مرة عن خصائصه التكتيكية والفنية خلال منتدى «آرميا – 2019» الذي أقيم في العاصمة الروسية موسكو لعرض الأنواع والطرازات الجديدة من الأسلحة والمعدات العسكرية يعتبر كابوساً مرعباً للجيش الاميركي وجنرالاته. و”الشيطان 2” ليس لقباً روسياً للصاروخ سارمات بل أطلقه حلف شمال الأطلسي “الناتو” عليه باعتباره الأكثر تطوراً ودقة في تاريخ الصواريخ البالستية.
عسكرياً، الرسائل العسكرية المباشرة من روسيا الاتحادية للولايات المتحدة الاميركية تختصر ببساطة “ألزموا حدودكم فان اللعب بالنار يحرق”.
في جميع المواجهات بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأميركية كانت الغلبة دائماً لوريث الاتحاد السوفياتي بقيادة الرئيس الفذ فلاديمير فلاديميرفيتش بوتين.
رحلة جديدة من التّسلّق، والمتسلّق ذكي يعرف أين يضع قدميه حتى لو كانت في مواجهة دولة تعتقد أنها قادرة على حكم العالم.
ختاماً، لعلّنا لا نخبر جديداً إنْ قلنا إنّ عالماً جديداً يتشكّل، عالماً لا يصنعه بوتين بالتّأكيد لكنّ فيه لمساته دون شكّ، عالماً يحلم به من أنزلتهم إلى حضيض الدّول المشاريع الأميركيّة، تحديداً في شرقنا الأوسط المتألّم الحزين والمرهق.. علّ بارقة أمل جديدة تلوح في أفق هذه الكرة الأرضيّة ومن يدري لعلّها تحمل الخير إلى من عاشوا حياتهم بانتظار تغيير ما في الموازين العالميّة يدفع نحو عالم أنظف وأقلّ تسلّحا.. لعلّنا نحلم لكنّ هنالك بالفعل قوى صاعدة، وهنالك تحالفات جديدة وهنالك بوتين يتسلّق ومن يدري لعلّه يصل ويكتب على القمّة الأحرف الأولى لعالمنا الجديد… على قمة أعلى جبال العالم، يتم وضع العلم الروسي.
يقول خبير الدببة الأميركي جون هيكتيل: «أذا رأيت دباً لا تقف في طريقه بل عليك أن تتراجع بطريقة آمنة للمحافظة على حياتك».