عملاق وعبيد صغار
موقع إنباء الإخباري ـ
محمد أحمد السيد قاسم:
طرحت تساؤلات كثيرة في الآونة الأخيرة حول مجريات “حادثة رومية” وتداعياتها (فعلاً، توثيقاً، تسريباً، نشراً، احتجاجاً وقراءةً في الدلالات).
التساؤل مبرر وحق، ومحاولة الإجابة واجب، والموقف السياسي والأخلاقي واجب ضروري أيضاً، فيما يتعلق بتطبيق القوانين والسجن التعسفي وحقوق الإنسان..
نعم، صحيح، لكن يبدو أننا غرقنا في التفاصيل…
إذا أردنا أن نعرف ماذا في بيروت يجب أن نعرف ماذا في الرياض.
فرضية هزلية مثّلت مرة في مسلسل تلفزيوني وتكررت حتى اجتاحت ذاكرتنا الطفولية على لسان المرحوم الممثل نهاد قلعي أمام الممثل دريد لحام (طال عمره) ولا زلنا نرددها بابتسام ونحاول إسقاطها اليوم في كل مرة نحاول قراءة مشهد كبير جامع دون التركيز على التفاصيل، للقول بضرورة البحث عن الأسباب الحقيقية في أماكن أخرى.
أقتبسُ عن ابن خلدون مع شيء من التصرف والإيجاز، بأن الثروة تعايش ثلاث مراحل، أو أجيال: مرحلة المراكمة والتجميع، مرحلة المحافظة والتوظيف، مرحلة المقاسمة والتوزيع.. وبالتالي التبديد.
طبعاً، ما يصح عن الثروة كنقد أو عقار، يصح عن عناصر القوة الأخرى عند الأفراد والجماعات، خاصة وأننا نعيش في بلاد، النخبة الاقتصادية فيها هي عينها النخبة السياسية، بالإضافة إلى تميّزات أخرى.
لا شك بأن الرئيس رفيق الحريري شغل حيّزاً مهماً جداً في الاقتصاد والسياسة وبنكهات استخبارية طيلة أكثر من عقدين في البلد والإقليم والعالم. إن تموضعه على المفارق السورية ـ السعودية ـ الفرنسية ـ الأميركية وعلاقاته العامة والخاصة والمخصصة جعلت من دوره أساسياً جداً لا يمكن التنكر له، من موقع المحبين وغير المحبين. وبالتأكيد كان دوراً محمياً من المعادلات السياسية الأمنية الاقتصادية التي تجتمع خيوطها عند شخصه وموقعه ومؤسساته. وهكذا أفهم ما يُنقل عنه بأن لا أحد يتجرأ على إلحاق الأذى به.
من ينكر علاقته بفرنسا وأمريكا وحمياة الملكين فهد وعبد الله له وعلاقته المؤثرة بتركيا وباكستان و…؟
خلا العالم من الشخصية الكبيرة في شباط/ فبراير عام 2005، وشعر الناس بالفراغ الكبير الذي أحدثه ارتحال الرجل، وكبر الحيّز الفارغ اقتصادياً وسياسياً واستخبارياً، ثم أضيف إليه حيّز إعلامي هائل لم يحظَ به أي رئيس وزراء آخر في لبنان أو غير لبنان، ثم حيّز قانوني دولي بما يحمل من تداخلات سياسية واقتصادية واستخبارية هو الآخر.
بالعودة إلى ابن خلدون فإن الرئيس ررفيق الحريري راكم وجمّع، وحافظ ووظّف. ولا أعتقد بأن هناك عاقلاً لا يقرّ بذلك ولا يعترف به، طبعاً عبر مسيرة عقود من حياته، أهمها الخمس عشرة سنة الأخيرة، بحيث لم يخلُ حدث في السياسة أو المقاولات أو الخدمات أو التعيينات أو القوانين من اسم الشيخ الرئيس رفيق الحريري، ودائماً في ظل الرضا السوري والمساعدة السورية، والعطف الملكي السعودي والشراكة الإقليمية والرعاية الفرنسية، وعناصر قوة أخرى لا يعلمها إلا الله.
بعد عشر سنوات، ما هو المشهد؟
مُلئ الفراغ، طبعاً فهذا قانون طبيعي، لكن المرحلة الراهنة هي الثالثة. كثيرون ـ أو عديدون على الأقل ـ هم الذين يحاولون أن يرثوا الحيّز الذي كان يشغله الراحل الكبير بعد أن اجتهد الورثاء الطبيعيون بالتبديد، فآلت إلى آخرين. الأموال والعقارات تُقسّم، والتشريعات المسهّلة لذلك تصدر.
تخاض الانتخابات وتُربح بناتج أكبر كتلة برلمانية في لبنان، وحكومات تقاد أو تؤلف بالأصالة أو بالوكالة.. ثم يبرز صقور وحمائم، والمارد المتشدد يخرج من القمقم ويفرض منطقه على المعتدلين.. وتُخاض الحرب في سوريا، ويمتد ربيع العرب إلى عاصفة الحزم. وتأتي المكرمات لدعم الجيش اللبناني بأربع مليارات من الدولارات.. أو لا تأتي. وعلى العرش السعودي سلمان أو ابن سلمان، ويمسك بمقاليد الأمور هناك أناس آخرون غير الذين كانوا في عهد فهد أو عهد عبد الله.
هنا، يبان خنجر ريفي ليقتطع أبناء الأحياء الفقيرة والمناطق الفقيرة في الشمال، وهم أبناؤه على أي حال، ويُسمع صوت خارج عن الكتلة للتكلم باسم الذين يرَون فيه نبياً، ويضيق نفس مسؤول وكأنه مشنوق فيقول إن هناك أرضاً محتلة ثم تقع ضمن الخطوط الحمراء، وابن صيدا ضابط إيقاع الاختلاف (الصراع الخفي)، وآخر يُتم عمرته في الرياض كي ينعم بسلام، والشيخ خلف الحدود قد يكون بطل التويجري ـ غيت.
والإنجاز اليمني الذي حققه العدوان السعودي الدولي كيف سيبدو؟
مَن في الرياض مستعد لتحمّل وزر الهزيمة أو الجريمة؟
مَن في الرياض خلف من في لبنان؟
مراكز قوى خلف الملك تبان، ولكلًّ من يخطب ودّه من الذين يملأون الفراغ بعد الرئيس رفيق الحريري..
أعتقد بأن أبلغهم وأقواهم اليوم هو أصمتهم الذي يتكوّن سياسياً واقتصادياً واستخبارياً، أو هو تكوّن منذ أمد بعيد.
إذا أردنا أن نعرف ماذا في بيروت علينا أن نعرف ماذا في الرياض.