علي ودانا: قصة حب وبندقية
موقع إنباء الإخباري ـ
إيمان مصطفى:
نحن نعيش في زمن يحتوينا ويشكّلنا، هو زمن اعتيادي يومي والذي تؤكد لنا ساعات الحائط واليد أنه يمر بشكل منتظم، وهل هناك أصدق من عقرب الثواني؟
لكننا أحيانا لا نشعر أننا فهمنا الزمن بشكل كاف، فبعض العواطف تسرّعه و بعضها الآخر تبطئه…. و لهذا سأعود بعجالة إلى بعض الاحداث التي صارت حكايات وإلى أبطال فصل آخر من روايات المجاهدين مع الحب المقدس.
هل تذكرون علي ودانا؟ هي قصة الجريح علي ياسين وعروسته دانا روماني، اللذين كانا على موعد مع عقد قرانهما في أيام عيد الفطر المبارك الماضي، و لكن شاء القدر أن يصاب علي، وهو أحد المجاهدين الذين خاضوا المعارك في حلب، إصابة بليغة أدت الى بتر ساقه قبل الموعد، الأمر الذي دفع العروس وأهلها لتقريب الموعد، وأصروا على عقد القران فوراً وفي المستشفى، دون أي تأجيل أو تأخير، فكان لهما ذلك.
بعد أشهر من هذه القصة التي انتشرت آنذاك كالبرق، وأخذت كل الضجيج على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام… كان لموقعنا لقاء ليس طويلاً مع العروس دانا، ولكنه كان كافياً لنعرف كل التفاصيل منذ البداية، وسأحكي بلسان حال دانا أحداث القصة لأنني كنت أشاهد الكلمات التي تقولها في عينيها وأحيانا في ابتسامتها. لكنني كنت صامتة من الدهشة، من الحب الطاهر الصادق، ومن صفاء الروح.
حاولت الكتابة .. توقف قلمي … احتار من أين يبدأ … كيف سيترجم إحساسهم إلى حروف مكتوبة؟ فالحب هو أعظم مدرسة يتعلم كل عاشق فيها لغة لا تشبهها لغة أخرى. هو الذي ينقل الإنسان إلى تلك الواحات الضائعة… واحات الطهارة والمودة لكي يستمتع بعذوبة تلك الذكريات الجميلة التائهة في بيداء الروتين اليومي.
إنها الساعة الثانية عشر منتصف الليل، بدأت الكتابة في الساعة التي بدأت بها قصة دانا وعلي .
نعم… إنها الساعة الثانية عشر… سأحاول من جديد… رن الهاتف… كادت الفرحة تغمرني، لقد رن هاتف علي بعد محاولاتي العديدة خلال النهار… إنه غائب منذ أيام.
ساورني القلق برهة… لماذا لم يكن لديه إرسال والآن رن الهاتف؟ قفز قلبي كي يجيب، فقد اشتعل شوقاً…
“ألو… دانا… كيف حالك؟”
“علي لماذا تلهث هكذا… هل حصل لك مكروه؟”
“لا، فقط إننا ننتقل من مكان إلى آخر.”
“هل تخفي أمراً عني؟” لم يجب … فجأة سمعت صوته منادياً: “ولاء ولاء تعال”… قلت له: “حبيبي علي طمئن قلبي”.
ولكنه اعتذر لانه مضطر أن يقفل الخط، وأوصاني بنفسي وبأن أَطمئن وأُطمئن أهله أنه بخير، وأن أسلّم عليهم، وتركني مع أمل بأن يحدثني في اليوم التالي…
أغلقت الهاتف، ابتسمت بصعوبة، اليوم الأثنين… من خمسة أيام كنتَ بقربي، وحدّد أهلنا موعداً لعقد القران… نعم علي، اقترب الموعد فالعيد اقترب… تذكرت كل شيء من جديد…
خمس سنوات، جمعتنا علاقة غريبة، لم نكن فيها سوى أصدقاء وإخوة… ولكنني كنت أستيقظ لأحدثك يا علي وأنام على كلماتك، أشكو لك يا علي وأخبرك بتفاصيل يومي…
كان علي دائم الغياب، إما للدورات أو للعمل، لكن الفترة الأولى التي بدأ يغيب فيها كانت الأقسى بالنسبة لي… سألت نفسي كثيراً: هل ستتحملين غياب علي؟ يصعب عليّ فعل أي شيء دونه… من السهل أن يشتاق الانسان لمن يحب، لكن من الصعب أن يجده كلما اشتاق اليه، خصوصاً إن كان مجاهداً.
اعتدت غيابه بعد فترة، وأصبح هذا الغياب جزءاً من حياتي، رغم انشغال بالي المتواصل عليه. ولكن ما كان يثلج قلبي هو دعائي الذي رافقه دائماً، و كلماته التي تدفعني إلى الصبر والتحمل. كنت أنتظر ليالي طويلة فقط اتصالاً منه: “ألو دانا، أنا بخير” و يكفيني، صدقاً تكفيني هاتان الكلمتان. الشمعة تحترق مرة واحدة… أنا جرّبت طعم الاحتراق في كل مرة ودّعته فيها مئة مرة… أحياناً أشعر باطمئنان داخلي أنه عائد، ولكن أحياناً أخرى يغزو قلبي إحساس بالخوف وعدم الارتياح… رغم أنه يطمئنني بكلمات حنونة، ولكنني لا أستطيع السيطرة على مشاعر مبعثرة امتزجت بالخوف من المصير المجهول… خصوصاً أنه في ساحة حرب يُتوقع فيها كل شيء. كان يذهب نصفي معه… نعم نصف قلبي… ولكن هذه المرة أحسست بقلبي يصرخ عند وداعه… فأخذ كل قلبي معه… ومضى.
مرت ستة أشهر منذ أبصرت علاقتنا النور… وأطلقنا العنان لهذا الحب الطاهر الخجول الذي اختبأ داخل كل منا…
نمتُ وأنا غارقة بأفكاري، منتظرةً الغد لأسمع فقط صوت علي.
إنه يوم الثلاثاء وعلي لم يتصل بعد ! انتظرته كثيراً ولم يكلّمني… تسمّرت أمام الهاتف أعدّ الثواني ليكلّمني، وقلبي يشتعل شوقاً وقلقاً. ورغم قرب موعد امتحاناتي، لم أستطع أن أدرس ولو قليلا..
يئست من محاولاتي المتكررة للاتصال به، فالهاتف مغلق .. تذكرت ولاء ! ولحسن الحظ أننا تبادلنا الهواتف، وأرقام أصدقائه معي… تواصلت مع ولاء عبر الواتساب، والذي بدون أي مقدمات، قال لي إن علي أصيب مع عدد من الشباب عند الواحدة بعد منتصف ليل أمس، وإصابته هي الأخطر وإنه يخضع للعمليات… غيمت على فؤادي سحابة من الحزن والصدمة معاً … بداية لم أصدق، خصوصاً أن علي دائما ما يمزح معي هكذا… و لكن كلمات ولاء تحمل في طياتها جدية واضحة.
جلست دون التفوه بأي كلمة، شعرت بضيق في صدري، وكأن هموم العالم ترزح على قلبي، ولكنني لم أذرف دمعة… بل أحسست بتماسك غريب وصبر لم أكن أتوقع أن أملكه… لست أدري أيّ سر هذا…
الآن يجدر بي أن أخبر أهله… أمسكت الهاتف، أخبرتهم بكل رباطة جأش… ولكنني لم أنتظر رداً منهم… إنما شغلت نفسي بحمد الله وشكره.
سألت ولاء: “كيف تصاوب”؟ اكتفى بالقول: “فقط بعض شظايا في قدميه وسيكون بخير”.
لم أصدق… داخلي إحساس أن في الأمر شيئاً أكبر، أنا لست محتاجة ليخبرني أحد، لأن روح علي روحي وقلبه قلبي.
إنها الساعة الثانية عشر منتصف الليل أيضاً، ما زلت ساكنة، تائهة بأفكاري… لم يقطع هذا السكون سوى صوت خالة علي، مؤنس روحي، لتوصيني بالدعاء و الصلاة له، لأنه يخضع لعمليات خطيرة الآن… ما زال في العمليات منذ البارحة… وأنا كل النهار أمسك بالهاتف لعلّ اتصالاً منه يحييني… لم أتكلم.. لم أخبر أحداً من أهلي … لم أحرك ساكناً… لم أذرف دمعة.. أي صبر اجتاحني، من أين لي هذه القوة؟ لم أنفك عن حمد الله وشكره والدعاء لعلي بالشفاء العاجل.
علمت أيضاً من والدته أن قدمه بترت.. وعليّ أن أخبر أهلي .. الأمر الذي استصعبته أكثر من أي شيء، أخبرت صديقتي وأختي، ومن ثم والدتي التي انهارت أعصابها وخنقتها دموعها.. وأنا أصبّرها وأقوّيها. رأيت أبي يدخل وينظر لي ويسأل دون مقدمات: “قدم أم اثنتان؟” اكتفيت بقول “واحدة “. نظر وقال: “هذه الطريق ليست بالسهلة يا ابنتي، وأنتِ اخترتِها وبالتالي عليكِ التحلي بالصبر والتحمل، وأسأل الله أن يرزقك الصبر والقوة”. ثم سألني: “هل أنتِ متأكدة من قرارك؟”
لم أتمالك نفسي، و بكل قوة وغضب قلت: “لو بُترت قدماه الاثنتان لن أترك علي، و متأكدة أكثر الآن من قراري”.
خمسة أيام من الانتظار واللهفة والسهر مع عناء الصيام، عادلت السنوات الخمس التي كنت معه فيها… انتظرته لأكحل عيوني به، لم أنم، لم أدرس. كان كل همي أن يعود..
تحدثنا خلال هذه الفترة عبر الهاتف، كنت أمازحه وأشجعه، وأروي له أحداثاً مضحكة… مرة قال لي: “كنتِ دائماً تقولين إنني أحب أن أتزوج من مقعد، وها أنا اليوم هكذا.” وأنا طبعاً قلت له إنه أفضل من قبل، خصوصا انه واسى ابا الفضل العباس في مصابه.
في اليوم الذي من المفترض أن يصل علي فيه إلى لبنان، وفيما كنت أجمع أغراضي استعداداً للانطلاق إلى بيروت لملاقاته، انهمرت دموعي وفقدت القوة التي كنت أمتلكها… ليس لشيء، إنما خفت أن تهرب دمعة من عيني تؤذي قلبه عندما أراه… أردت أن يراني سعيدة، قوية، صابرة… فتحولت السيارة التي تقلنا أنا وأبي وأهل علي إلى محطة للدعاء… عسى أن يثبّتني ربي ولا تنهار دموعي رغماً عني… و لم انفك عن الثناء والحمد شكراً لله طول الوقت، إلى جانب الدعاء…
وبالفعل لحظة اللقاء كانت مليئة بالضحكات المتبادلة. أنا لا أنسى ذلك اليوم، نظراته، ضحكته، كل شيء حفر في قلبي قبل مخيلتي.
إنها الساعة الثانية عشر مجدداً… وكأن لنا موعداً ثابتاً مع هذه الساعة يغيّر مجرى الأحداث… يدخل والدي مع باقة للأزهار… و يقرر أن يكون اليوم التالي موعداً لعقد القران!
لكن كيف؟ هل فعلاً تحدد الموعد؟ أنا وعلي انتظرناه كثيراً، ولكن لدي امتحان في الثامنة صباحا بجانب الصيام، حتى أنه لا ملابس ملائمة عندي، ولم أنم منذ ايام، وعلي لديه عملية في الصباح تستغرق ساعات!
قال والدي لي إن السبب الرئيسي لتعجيل عقد القران هو تحسين نفسية علي، والأهم أن أصبح “حلاله” كي أستطيع مساعدته بكل أموره، ولن يؤجل أكثر. طرنا فرحاً… لم نصدق… تبدلت كل دموعنا فرحاً و كل أحزاننا سعادة لا توصف.
في الصباح بعد الامتحان، أصرّت والدة علي أن أذهب برفقتها أنا وخالته لنجلب المحابس. انتفضت قائلة: “كيف سأتركه وحده هنا في غرفة العمليات وأذهب… أنا لا أريد محبساً… أريده هو فقط!”
بعد نقاش وأخذ ورد ، قبلت بشرط أن نذهب لأقرب محل وأجلب أول محبس أراه مناسباً، وكان لي ذلك، بالوقت الذي جلبت أختي لي الملابس وحضّر أهلي كل الترتيبات البسيطة اللازمة لعقد القران .
في الوقت المحدد غصت “مستشفى الرسول الأعظم” بالمهنئين والمحبين ووسائل الإعلام، فإحدى قريباتي نشرت صورة لنا مع القصة، فانتشرت قصتنا على مواقع التواصل الاجتماعي،و بالتالي إلى وسائل الإعلام…
وحضر من نعرفه ومن لا نعرفه إلى حفل عقد القران المتواضع… كنت فخورة لأنني خطيبة مجاهد، دفع مهري من جهاده وكّد يمينه وعرق جبينه، ليحمينا جميعا، ونعيش مرفوعي الرأس ما حيينا.
منذ قليل عقدنا القران، والآن ذهب الجميع. أشاهد الساعة من جديد، إنها الثانية عشر … ولكن الآن يدي بيد علي… أنا معه، أداوي آلامه و جراحاته… هو بجانبي يؤنسني … هو فعلاً مؤنس روحي.
اليوم، وبعد أشهر، علي أقوى من قبل، وطول هذه المدة لم يقبل مساعدة من أحد، أو أن يحمله أحد… بل حتى في فترة المستشفى كان يقوم بكل شي لوحده ويعتمد على نفسه… دائماً يقول لي إنه سيقوم هو بقيادة السيارة بعد امتثاله للشفاء ويقوم بكامل واجبته وسيكمل دراسته في الإلكترونيك ليخدم بها الطريق الذي سلكه ولن يعدل عنه… لم تمنعه الإصابة من أن يكون إنساناً بكامل قواه… وأنا أقول: سويّا ومثل أي اثنين متزوجين، وبكامل قوانا، سنكمل الطريق. فقد عرف علي النجاح بطريقته الخاصة، وحققه أيضاً بطريقته الخاصة.
أنا أكمل دراستي الجامعية باختصاص إدارة الأعمال الآن، وسأجد عملاً مناسباً بعد التخرج… وننتظر منزلنا في قرية عدشيت الجنوبية ليجهز لننتقل إلى عش الزوجية ونبني عائلةً مجاهدة، ونربي أبناءنا على الجهاد والشهادة والصبر.
وأتمنى من كل عائلة مجاهدة متدينة صابرة… أن لا ترفض مجاهداً أرادته ابنتها نظراً لأوضاعه المادية أو خطورة عمله… أو تمنع ابنها من الانتماء إلى خط المقاومة والجهاد، فنحن عندما نقول يا ليتنا كنا معكم، نقولها فعلاً قبل القول.
توقف قلمي، لكن لم تتوقف القصة، بل بدأت الآن… أروع ما قد يكون في العمر حب صادق، ولكن الأروع أن يزهو بالوفاء… وأجمل ما في القلب نبضاته ولكن الأروع أن ينبض القلب بالدعاء… إننا نبحث عن السعادة غالباً، وهي قريبة منا، هي في داخلنا…
دانا وعلي وجدا السعادة في مواساة أهل البيت، في استكمال قصة عاشوراء، في هذا القلب النابض بالدعاء والوفاء الذي هو بداخلهما.
يقول علي إن قصتهم رسالة للعالم بأننا نحن، مجاهدي حزب الله، نحب الحياة، و نهوى السلاح. نحن في الميادين أشبال علي وفي حياتنا في الحب أعظم من قيس وعنتر. نحن شهداء الحق، وعشاق الإرادة.