عجز العقل الأمريكي أمام بديهيات حزب الله
صحيفة الوفاق الإيرانية-
ايهاب زكي:
لا يحتاج المراقب المنصف كثير جهد، ليرى أنّ خللاً مزمناً أصاب العقل الاستراتيجي للإمبراطورية الأمريكية، ولم يكن آخر هذه الشواهد ما حدث في مطار كابل، بل كان الشاهد الأكثر وضوحاً، استبعاد العقل الأمريكي لجدية حزب الله في كسر الحصار واستيراد النفط من إيران.
وهو ما عبّر عنه ديفيد شينكر حين قال إنّ “جلب حزب الله للنفط من إيران لا يصدقه عاقل”، وهو تعبير فاضح عن الخلل البنيوي الذي أصاب عقل الإمبراطورية، حيث إنّها اختبرت جدية حزب الله في أكثر من مناسبة، فكان من البديهي أن تضع ولو احتمال جديته في كسر الحصار على جدول أعمالها. وحين كنا وغيرنا وجموع جماهير الحزب نجزم بجدية الحزب، فهذا ليس لأنّ لنا عقولاً توازي ما يفترض أنّه عقل الإمبراطورية، بل لأنّ الأمر شديد البداهة، ولكن حين يعجز العقل الإمبراطوري عن استكشاف البديهيات، فهذا يعني أنّ العقل الذي أقام أعظم إمبراطورية في التاريخ البشري دخل مرحلة الخرف، وحين كنا نستغرب الإصرار الأمريكي على تضييق الخناق، لأنّ نتيجته الوحيدة هو خسارتها للبنان، لم نكن نعرف أنّ عقلها المصاب بالخلل يصوّر لها استسلام حزب الله، وهذا التصور بحدّ ذاته دليل عطبٍ شديد.
لم تتوقف مظاهر العطب عند هذا الحد، بل وصل إلى العجز عن إمساك زمام الفعل، ووصل حد التخبط في ردّ الفعل أيضاً، حيث أنّ ردّ فعلها المتخبط، استبطن انتصاراً ثلاثياً، انتصار حزب الله وانتصار سوريا وانتصار إيران، فالعقل الأمريكي لم يجد مخارج لسوء تقديره جدية الحزب، سوى الاستسلام المطلق لإرادة حزب الله أولاً، ثم الاستسلام أمام الشرعية السورية، ثم تحطيم جدار قيصر الذي شيدّه بنفسه، كبديلٍ عن هزيمة مشروعه العسكري في سوريا، فزيارة الوفد اللبناني للجمهورية العربية السورية بشكلٍ رسمي وعلني، لو كانت بقرارٍ سيادي لبناني، لأضيف انتصارٌ حكومي لبناني لانتصار حزب الله، ولكن لأنّ القرار جاء بعد رفع الفيتو الأمريكي وبإيعاز من السفيرة الأمريكية، أضحى انتصاراً سورياً خالصاً، حيث إنّ هذه الزيارة تُعتبر رضوخاً أمريكياً أمام شرعية الدولة وشرعية القيادة في سوريا. كما أنّ المشروع الذي اقترحته السفيرة الأمريكية، لا يشكل فقط خرقاً لقانون قيصر، بل يشكل هدماً جزئياً حالياً وكلياً في المستقبل، كما يعتبر هدماً كلياً من ناحية الشكل لقانون قيصر، وهدماً بقدرٍ هائل في المضمون، فقانون قيصر يستهدف من ضمن أهم ما يستهدفه، قطاع البناء وقطاع النفط والبنك المركزي السوري، والمشروع الأمريكي باستجرار الغاز والكهرباء من مصر والأردن عبر سوريا، يعني تجاوز كل تلك العقوبات عن كل تلك القطاعات.
وهذا الفشل الأمريكي في الفعل وردّ الفعل، وكذلك العجز عن توقع البديهيات، كان تعبيراً صارخاً عن وهن أمريكي في نخاع العظمة الأمريكية، ألّا وهو القوة العسكرية، حيث لم يكتف السيد نصر الله بالإعلان عن استقدام السفينة الإيرانية ابتداءً ثم قافلة السفن لاحقاً، بل أعلن أنّ السفينة أرضٌ لبنانية، وهدد كلاً من أمريكا و”إسرائيل” في حال التعرض لها، وسارت السفينة في الخليج (الفارسي) ثم بحر العرب ثم البحر الأحمر فالمتوسط، وكلها مناطق نفوذ أمريكي، وكلها مناطق انتشار الأساطيل الأمريكية، وكان كفّ اليد الأمريكية عن التعرض للسفينة الإيرانية، رضوخاً أمريكياً لا جدال فيه. التاريخ سيسجل أنّ الإمبراطورية الأعظم في التاريخ البشري، رضخت أمام سبابة رجلٍ عربي، يرتدي هنداماً دينياً، واستعانت بكل ما أوتيت من فنّ الصمت وذلّ غلّ اليد حتى لا تُغضبه. وعلى الإثر أعلنت “إسرائيل” عبر مصادرها، أنّها لن تتعرض للسفينة الإيرانية المتجهة إلى لبنان، وهذا عجزٌ لا يعدم المراقب رؤية الحنق من خلاله على الأدوات المحلية.
قد لا نكون قادرين من الآن فصاعداً على استنتاج خطوة الولايات المتحدة المقبلة بسهولة، لأنّ المقاييس العلمية قد تعطلت، فلا نعرف هل نقيس على قدرات الإمبراطورية، أم على قدرات العقل الاستراتيجي المختلة، لذلك ليس من السهل الوصول لاستنتاجات وجاهية حول مدى استمرارية أو جدية الولايات المتحدة في الذهاب في مشروع دورثي شيا للنهاية، ولكن الثابت أنّ الثمار السياسية للمشروع قد قطفها محور المقاومة، منذ وطئت أقدام الوفد الحكومي اللبناني الأراضي السورية، ولكن الثابت والذي يمكن استنتاجه بمنهجية علمية صارمة، أنّ مشروع السفارة الأمريكية، لن يكون بديلاً عن مشروع كسر الحصار، الذي أطلق السيد نصر الله شرارته، وأنّ هذا المشروع هو عبارة عن طريقٍ واحد لا رجوع فيه، وقافلة السفن هي البداية وليست النهاية، وأنّ سوريا ستظل هي العقدة وهي الحل، وأنّ عقل محور المقاومة بعكس العقل الإمبراطوري المختل، يعمل بدقةٍ متناهيةٍ وثبات، حيث إنّ الولايات المتحدة قدمت استسلاماً إجبارياً هذه المرة، لكنه استسلام فيه إرادة الاختيار، حيث إنّها اختارت أن تستسلم، لكنها في قادم المرات، وحسب العقلية التي تعمل بها، ستضطر للاستسلامٍ منزوع إرادة الاختيار في سوريا والعراق، أمّا في لبنان فقد انقلبت الآية، فبعد أن كان حزب الله في حالة دفاعٍ عن النفس أمام الاستهدافات الأمريكية، فقد أصبحت الولايات المتحدة في حالة عدْوٍ للحاق بالحزب، بعد أن امتلك زمام المبادرة، وأصبحت في حالة سباقٍ دائم لمعرفة خطوته التالية.