شرق الفرات على نار هادئة
صحيفة الوطن السورية-
عبد المنعم علي عيسى:
في 4 تشرين الثاني الجاري قال عضو الهيئة الرئاسية في حزب «الاتحاد الديمقراطي الكردي PYD» ألدار خليل عبر قناة «روسيا اليوم» إن «الخيرات والثروات الموجودة في شمال شرق سورية هي ثروات وطنية لجميع السوريين»، وقبله بنحو شهر كامل كان جميل باييك، الرجل الثاني في «حزب العمال الكردستاني- pkk» والأول خارج الأسوار، يشيد بعلاقة هذا الأخير مع القيادة السورية، وكلا التصريحين لافتان، وهما يكتسبان أهمية حقيقية قياساً للمعطيات التي تراكمت مؤخراً في السياق المتعلق بحل الأزمة القائمة مع «قوات سورية الديمقراطية- قسد» التي تسيطر بدعم أميركي على مناطق واسعة من شرق الفرات السوري، لكن يبقى السؤال الأساسي هنا هو: هل يمثل هذان التصريحان انعطافة حقيقية في مواقف «قسد» ومن ورائها منظومتها التي تديرها من جبال قنديل؟ أم إن الأمر لا يعدو كونه تكتيكاً سبق أن مارس الاثنان الأخيران الكثير منه تبعاً لتلونات المواقف الخارجية شديدة التأثير في السياسات التي يتبعانها؟.
لربما تدفع مجمل السلوكيات التي تمارسها القيادة السياسية في «الإدارة الذاتية» الكردية منذ نحو عدة أشهر، وتحديداً منذ التلاقي الروسي- الأميركي الحاصل في جنيف منتصف شهر حزيران الماضي، للإجابة بنعم على هذين السؤالين، ولربما كانت تلك الإجابة تحمل قسطاً ليس بسيطاً من الواقعية، لكن المؤكد هو أنها ليست مطلقة إلى الدرجة التي تتيح اعتمادها بشكل حاسم، فالجعبة مازالت تحمل بعض السهام التي يجري استخدامها لكسب الوقت ريثما ينقشع الضباب تماماً، والحفاظ على بعض «المكاسب» التي تحققت منذ الانخراط الأميركي المباشر في الأزمة السورية الحاصل ما بعد 10 حزيران 2014 الذي شهد سقوط مدينة الموصل العراقية بيد تنظيم «داعش»، وفي حينها قررت واشنطن أن «الرايات السود» هي التي باتت تمثل الخطر الأكبر على مصالحها في المنطقة، وقررت أيضاً أن يكون أتباع عبد اللـه أوجلان هم شركاؤها في التصدي لذلك الخطر.
في سياق البحث عن «إجابة شافية»، أو تحمل طابعاً أكثر تحديداً، لا بد من العودة بالزمن إلى نحو عام أو يزيد، وتحديداً إلى شهر تشرين الأول من العام الماضي الذي شهد تصريحاً لمتزعم «قسد» مظلوم عبدي جاء في سياق حديث أجراه معه راديو «إيكوت» السويدي، وفيه أعلن عن رغبته في التخلي عن العمل العسكري، وبعد أيام من ذلك التصريح قالت مصادر مقربة من عبدي إن سبب ذلك الإعلان يعود لخلافات باتت واسعة بين «قسد» و«منظومة جبال قنديل» وهي من النوع الإستراتيجي الذي يطول الرؤيا التي تتبناها الأخيرة في «طرق المواجهة» الواجب اتباعها مع الأتراك على امتداد الحدود السورية- العراقية، في حين أن مصادر أخرى كانت قد أشارت إلى أن عبدي يميل إلى فك ارتباطه مع «حزب العمال الكردستاني» لنزع الذريعة من بين يدي الأتراك، تلك التي يستخدمونها لشن عمليات عسكرية ضد مناطق يقولون بوقوعها تحت سيطرة «تنظيم إرهابي» عليها، وما جرى هو أن عبدي لم يتخل عن العمل العسكري، ولا حصل فكاك ما بين «قسد» و«حزب العمال الكردستاني» بالرغم من أنه فعلاً من نوع هذا الأخير، حتى لو حصل، فلن يكون ذا تأثير يذكر في سياقات الأحداث، لأنه ببساطة سيكون استنساخاً لإعلان أبي محمد الجولاني عن انفكاك تنظيمه المسمى آنذاك «جبهة النصرة» عن تنظيم «القاعدة» الذي لم يغير كثيراً في النظرة، ولا في طريقة التعاطي الدولية معه أقله في المعلن منها.
الفعلان الأخيران لم يحصلا بقرار أميركي أرادت واشنطن من خلاله الإبقاء على الوضع الراهن للاستثمار فيه في التسوية السياسية المفترضة للأزمة السورية، إذ لطالما كان من المؤكد أن أي عملية تهدف إلى إعادة الهيكلة داخل التنظيمات الكردية المنضوية تحت سقف «الإدارة الذاتية» وكذلك في تحالفاتها، ستكون شديدة التأثير في فاعلية تلك التنظيمات، ومدى قدرتها على تحقيق المرامي الأميركية من الصراع الدائر في سورية.
من الجائز الآن النظر إلى أن المواقف المشار إليها أعلاه على أنها تحمل نفحة مختلفة عن سابقاتها قياساً لمعطيين اثنين: أولاهما مضي التلاقيات الروسية- الأميركية في سورية في مسارها التصاعدي الذي يصبح معه الركون للتطمينات الأميركية بعدم وجود نية للانسحاب من شرق الفرات ضرباً من المغامرة التي ستكون ذات أكلاف باهظة سياسياً، وثانيهما تواصل الانتشار الروسي، وازدياد رقعته، في مناطق الجزيرة السورية بما يعزز هذه الفرضية السابقة، بل يحفز على طريقة جديدة في التعاطي تقوم على أن ما يجري هو في سياق ملء الفراغات التي يمكن أن تحدث بفعل انسحاب أميركي يبدو حتمياً، لكن بالرغم من كل ذلك فإن الوقت لا يزال مبكراً لحدوث تحول «قسدي» جذري يشكل مقدمة لقيام حوار مع دمشق يفضي بالضرورة إلى النتائج المرجوة منه، والفعل سيكون مرتبطاً مشيمياً بالإعلان عن عبور آخر جندي أميركي من سورية باتجاه الأراضي العراقية.
كخلاصة نقول إن الرؤيا المتشكلة اليوم لدى «منظومة جبال قنديل» تشي بأن الأخيرة أيقنت تماماً بأن مشروعها في سورية قد أجهض بما لا يدع مجالاً للشك، وأن المرحلة الآن هي لتجميع ما يمكن تجميعه في لحظة تبدو فيها التوازنات شديدة الهشاشة، بل مرشحة لحدوث فصول متزايدة من هذه الأخيرة، الأمر الذي يقتضي منها وفق السياسات «الميكافيلية» المفرطة التي اشتهرت بها مؤخراً للملمة الأوراق لتحديد التالف منها، وذاك الذي يمكن استخدامه في مرحلة قريبة تشي معطياتها بقرب عودة «جزيرة الخير» إلى «إمامة» قاسيون.