“سيف القدس” وعملية بتر أطراف العدوان..
تقييم نتائج ما حصل في فلسطين المحتلة بين قطاع غزة والاحتلال الصهيوني، يتخطى للمرة الأولى المعنى العسكري وحسابات الربح والخسارة، لأن مرحلة جديدة قد بدأت، قوامها “الداخل الإسرائيلي مقابل الداخل الفلسطيني”، والتأسيس لهذه المرحلة استلزم سنوات من التجارب والنضالات، ومن ضمنها معادلة قصم ظهر العدوان من طرف المقاومة في لبنان منذ الإجتياح عام 1982 مروراً بملاحم التحرير عام 2000، ووصولاً الى نصر تموز عام 2006، وانتهاءً بمعادلة الردع القائمة حالياً، والداخل الإسرائيلي نعني به الجسم الديموغرافي والمساحة الجغرافية.
بتر أطراف العدوان عبر ضرب الجسم الديموغرافي، سواء عبر إيقاع الخسائر البشرية بالجيش أو إنزال المدنيين الى الملاجىء، نذكر مثالاً عليه في جُبن المواجهة لدى الإسرائيليين، أنهم خلال دخولهم جنوب لبنان عام 82، كانوا يتقدمون على طريق إسفلتية والجرافات تُزيل أشجار البساتين عن الجانبين، وعندما تصدى لهم فلاح جنوبي معترضاً على تجريف بستانه، قال له ضابط صهيوني: نخشى أن يكون خلف الأشجار مسلحون ونحرص على سلامة جنودنا.
لم تكُن يومذاك ثقافة الداخل مقابل الداخل معروفة، لأن السائد كان في الصراع العربي الإسرائيلي، أن إسرائيل تُحارب خارج الأرض المحتلة وشعبها يعيش حياته اليومية كالمعتاد وينتجع على الشواطىء والمنتزهات فيما الشعب العربي المُستهدف يواجه القتل والتدمير والتهجير، والصمت العربي الرسمي هو هو، والمنظمات الأممية تقف وقفة شهادة الزُور، وبين القِمَم الكلامية العربية والقرارات الورقية الدولية هُضِمت حقوق الفلسطينيين والعرب حتى العام 2000، عندما قُطِعت خيوط “بيت العنكبوت”، وبدأت مرحلة تقطيع أطراف أكثر نظام عنصري عدواني في التاريخ المعاصر.
ولعل أعظم درس أتقنه الفلسطينيون خلال عملية “سيف القُدس”، أن القُدس نفسها كانت المُستهدفة، سواء في حرم المسجد الأقصى أو حي الشيخ جراح، فانتفض قطاع غزة عسكرياً للدفاع عن المقدسات والحقوق، وانتفضت معه شعبياً الضفة الغربية والمناطق التي تُعرف بتسمية عرب 48، ولم تعُد هناك منطقة فلسطينية مُستهدفة دون سواها، ومنطقة معزولة عن سواها، وكان لحراك الفلسطينيين بمواجهة المستوطنين تاُثيره المادي والمعنوي على الكيان الإسرائيلي، الذي استعاد ذكرى حرب السكاكين التي أسكنت الإسرائيليين بيوتهم منذ سنوات قليلة ومنعتهم من الذهاب الى أعمالهم وحتى الى المتاجر.
الدول الكبرى لم تستطع وقف معركة “سيف القدس” لغير صالح الفلسطينيين، والدول العربية لم يكُن لها كالعادة دورٌ في الدعم، والدولة التي طبَّعت مع الكيان المحتل هي أصلاً ما شهرت يوماً سيفها لمواجهة العدوان، والدول والمنظمات والأحزاب الداعمة للحق الفلسطيني قامت بواجبها، ومع إعلان وقف النار وبدء التحركات الديبلوماسية، من حق الفلسطينيين أخذ قسطٍ من الراحة لقراءة العِبَر، لأنه مع رفع أنقاض العدوان على غزة ترفع إسرائيل أنقاض الردّ الفلسطيني الذي كان على مستوى المواجهة التي أسست لمعادلة ردع جديدة، والتي تقوم على عدم السماح باستفراد منطقة وعزلها عن أخرى، وقد يكون سقوط منطق “أوسلو” هو بداية الإنتصارات ولكن بشرط، أن تنتفض كل فلسطين بكافة أطرافها عند أي عدوان أو تشديد حصار، والشعب الفلسطيني عبر تطوُّر عديد وعتاد مقاومته، خاصة الصاروخية منها، أثبت قدرته على بتر أطراف العدوان ما دام يضع معادلة الداخل مقابل الداخل على بوصلة المواجهة..