سوريا من الممانعة إلى الدولة المقاومة
موقع إنباء الإخباري ـ
عبد الله بن عمارة (كاتب جزائري):
في تصريح للرئيس الأسد لبعض زواره في دمشق نشرته جريدة الأخبار اللبنانية يقول: “قررنا انه يجب التقدم إليه ـ حزب الله ـ ونتحول إلى دولة مقاومة تشبه حزب الله من أجل سوريا والأجيال المقبلة”.
لم يوضع هذا التصريح ذا الأهمية القصوى في سياق تحليل لعمق مضمونه الذي يرتقي به إلى مستوى الانعطافة التاريخية والانتقال الراديكالي بسوريا إلى موقع استراتيجي آخر بكل ما تحمله الكلمة من مراجعة جذرية للأسس الفكرية والسياسية لصانع القرار في الدولة الوطنية السورية.
لقد فرض اقتحام المشروع الصهيوني للمشهد الجيوستراتيجي للمشرق ـ كجزء من الفكر الغربي في شكله الكولونيالي بتأسيسه لكيان وظيفي في القلب من هذا المشرق ـ تحدياً كبيراً طُرحت معه كل الأسئلة المصيرية في عمق النقاش الفكري الدائر حول النهضة والوحدة والقومية …..الخ.
لكن هذا التحدي حمل طابعاً استثنائياً عندما تعلق الأمر بسوريا بحيث لا يمكن معه لأي دارس موضوعي التقليل من تأثيره المباشر في التاريخ السياسي المعاصر لها.
هذه “الاستثنائية” في التحدي تتصل بأسباب موضوعية تتعلق بالدور الجوهري “للنخبة السورية” في تشكيل البنية الفكرية والإطار الابستيمي لما أصبح يعرف بالمشروع النهضوي العربي وفي قلبه فكرة القومية العربية، فكل ما يتصل بالمضمون المعرفي لهذا المشروع أسس له من داخل جغرافيا سوريا الطبيعية أو بلاد الشام، وعرف تأصيلاً بنيوياً ضمن هذه البيئة السورية، بحيث أن أي تفصيل لكل مباحث خطاب النهضة العربية الفكري إلا وكانت سوسيولوجيا هذه البيئة في صلبه. فتراث الحداثة العربي منذ القرن التاسع عشر في شكله اللغوي والأدبي كتعبير عن انبعاث الذات العربية في العصر الحديث والتي تعتبر اللغة أهم مقوماتها، كما في شكله الإبداعي التنويري في كل مجالات الثقافة والفنون وعلى رأسها الصحافة، انبثق من جبل لبنان على يد رواد من قبيل فارس الشدياق، جرجي زيدان، جبران خليل جبران ….الخ. والأسئلة الصادمة المعبرة عن ما يسمى سيكولوجيا بأسئلة “القلق الحضاري” في الفكر النهضوي العربي من مثل العلاقة بين العروبة والإسلام إلى الوحدة والتقارب بين مختلف المدارس الإسلامية لا تخرج عن إطار انتاجات نخبة مفكري وعلماء هذه البيئة السورية من مثل طاهر الجزائري، الكواكبي، عبد الحسين شرف الدين …….الخ، كما أن حقيقة تأسيس هذا الكيان ضمن الجغرافيا السورية ـ أي سوريا الجنوبية (فلسطين) ـ يقع في قلب هذا التحدي الذي فرض على سوريا دوراً رئيسياً في مواجهته وموقعاً متقدماً في إطار ما سمي بالصراع العربي ـ الاسرائيلي.
خاضت سوريا كل الحروب العربية على إسرائيل ضمن إستراتيجية اعتمدتها كل الدول العربية تمثلت في حرب التحرير وفق آليات الاشتباك الكلاسيكية ـ وكان آخرها حرب 1973 ـ التي كانت نقطة تحول مفصلية في تاريخ الصدام العسكري مع إسرائيل بوجهه التقليدي.
التحول لا يتأتى من كون سوريا فشلت في تحرير الأرض العربية المحتلة و نما في قلبها لموازين القوة العربية في مواجهة إسرائيل، نتيجة الاختلاف بين نظرتي الحليفين العربيين الأساسيين في الحرب، بين نظرة الرئيس حافظ الأسد الذي خاض الحرب وفق مشروع تحريري ينطلق من التناقض الوجودي مع إسرائيل، وبين نظرة الرئيس السادات الذي أراد تجيير نتائجها لصالح مشروع التسوية مع إسرائيل الذي توج بمعاهدة “كامب ديفد” التي تجاوزت طبيعتها كونها اتفاقية سلام مع إسرائيل إلى مرحلة نقل مصر بكل ثقلها إلى المحور الأمريكي المعادي ضمن أسس جديدة صيغت على أساس محورية القبول بإسرائيل في المنطقة، وتهيئة الساحة سياسياً وفكرياً وسيكولوجيا للتعاطي مع إسرائيل كواقع مقبول.
تصرف الرئيس الأسد الذي تخلى عنه الحليف المصري في نصف المعركة بمنطق الرافض لهذا الخيار وواصل الحرب بشراسة، ولم يوقع على اتفاق الهدنة إلا في عام 1974 فيما عرف باتفاقية فض الاشتباك. لم تكن مقاربة الأسد لنتائج الحرب بمنطق المهزوم عسكرياً الذي يبني خياراته على ضوء إخفاقه الميداني ويقبل بشروط المنتصر ويخضع لمتطلباته وإنما صاغ إستراتيجية جديدة زاوجت بين بنية فكرية وعقائدية رافضة للخضوع للاستسلام للإرادة الإسرائيلية وغطائها الأمريكي وبين ما يمليه الواقع الجديد المتمثل في خروج مصر من دائرة الصراع مع إسرائيل وتحدي بقاء سوريا كدولة مواجهة وحيدة، تمثلت في الإبقاء على العلاقة مع القضية الفلسطينية ضمن إطار عقائدي يصر على عدم فصلها عن الصراع الوجودي مع إسرائيل بعدم قبول أي تسويات على أساس إرجاع الأراضي السورية المحتلة مقابل تصفية القضية الفلسطينية، وترسيخ رفض الاحتلال بدعم المقاومة للإبقاء على جذوة الصراع واستمراريته مع اجتناب الاشتباك المباشر مع إسرائيل بما يربك أولوية بناء الدولة الحديثة باقتصاد إنتاجي ومؤسسات قوية وفاعلة وعلى رأسها المؤسسة العسكرية بما يدعم القرار السياسي المستقل الذي تتطلبه ظروف الصراع الجديدة.
رفض الانخراط في مشاريع التسوية والتنازل وتلافي الصدام المباشر مع العدو، مع دعم حروب شعبية غير متماثلة في مواجهة العدو الإسرائيلي في سياق يبقي على جهوزية الجيش الرادعة لأي عدوان، أسس لمفهوم جديد في الصراع العربي ـ الإسرائيلي اصطلح عليه بالممانعة وسماه البعض بنظرية “الحرب خارج الأسوار”. وهنا يجدر بنا الإشارة إلى أن الصدام المباشر مع إسرائيل وحتى مع أمريكا حدث في قلب الفترة الزمنية التي عرفت صياغة هذه النظرية، فقاتل الجيش العربي السوري في لبنان ببسالة في تصديه للغزو الإسرائيلي للبنان في معركة “السلطان يعقوب” وبيروت وفي المعركة الجوية الشهيرة التي خسر فيها الطيران السوري أكثر من 70 طائرة وتصديه للطيران الأمريكي بإسقاط إحدى طائراته.
واصلت سوريا بعد انتقال السلطة للرئيس بشار الأسد هذه الإستراتيجية بوتيرة أكبر، تماهت مع المقاومة اللبنانية والفلسطينية إلى حد الشراكة الكاملة، ووجدت نفسها أمام استحقاق أخطر مما كانت عليه في عهد الرئيس الأسبق حافظ الأسد لجهة دعمها للمقاومة العراقية بالتنسيق مع حليفيها إيران وحزب الله لمقارعة المشروع الأمريكي نفسه من خلال جيشه لا من خلال أداته الإسرائيلية وفي حرب اعتبرها هذا المشروع في عهد المحافظين الجدد بداية لإخضاع المنطقة ككل ضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد، لذا كانت لنتائج هذا الدعم تداعيات تعدت إطارها الإقليمي لتشكل حالة واقعية في الإستراتيجية الدولية مفادها أن دولة إقليمية بإمكانيات متواضعة ساهمت بشكل حاسم في هزيمة المشروع الإمبراطوري الأمريكي في العراق استراتيجيا وأظهرت محدودية تأثير قوته العسكرية في فرض هيمنته على العالم بما هي سوريا لأداء دور مهم في بداية بروز نظام دولي متعدد القطبية.
كان صلب سياسة الممانعة أو “الحرب خارج الأسوار” هو رفض التسوية أو الحلول الجزئية مع إسرائيل بما يحافظ على الثوابت الوطنية للدولة السورية ويبقي القضية الفلسطينية في إطارها المترابط والمتكامل ضمن وحدة المسار مع طبيعتها العربية و”السورية الطبيعية” بما يمنع من تصفيتها في صفقات ومعاهدات جزئية على غرار أوسلو، أو من خلال مفاوضات 1996 التي رفضت بموجبها سوريا قبول استرجاع الجولان مقابل إبعادها عن لب الصراع، وهذا ما يفرغ اتهامات أعداء سوريا لها ـ باستعمال المقاومات الفلسطينية واللبنانية كأوراق ضغط توضع على طاولة المساومة من أجل الحفاظ على النظام أو من اجل استرجاع الجولان ـ من أي مضمون موضوعي أو واقعي، فسوريا في قمة إدارتها للصراع ضمن إستراتيجية الممانعة لم تكن تغفل ضرورة الاستعداد التام للمواجهة بالإبقاء على الجهوزية التامة للجيش وإمداده بكل مصادر القوة النوعية الرادعة، بل وفي مواجهة حالات الاختراق داخل أسوار “القلعة الوطنية السورية” نفسها كما حدث في أحداث 1978 ـ 1982 إلا أن قمة اقتحام الأسوار بدأ مع أحداث 2011 بوصفها عدواناً أمريكياً ـ صهيونياً بأدوات رجعية تكفيرية محلية وإقليمية تستهدف تدمير “القلعة” من الداخل، باختراق نسيجها الاجتماعي والثقافي وسحق قدراتها الاقتصادية وتفكيك بنية دولتها الحديثة، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية.
هذا الواقع المستجد هو الذي فرض على سوريا التحول الجذري نحو إستراتيجية جديدة يقع مشروع “الدولة المقاومة” في القلب منه، ضمن تغييرات ثورية تلامس البنية الفكرية للأساس الإيديولوجي للدولة الوطنية السورية وللواقع الاقتصادي ـ الاجتماعي وللرؤية الإستراتيجية لأبعاد الصراع ككل، فرضه موقع سوريا الجديدة كدولة فرضت سياستها واقعاً إقليمياً ودولياً جديداً جعل منها محوراً لصراع على ضوئه تتشكل منظومة دولية جديدة بهيمنة أحادية في طريقها للانكفاء، وببروز لقوى دولية على الساحة الدولية كالصين وروسيا ولأخرى إقليمية كإيران.
إن القومية العربية كمشروع نهضوي يستهدف ترسيخ الوعي بالهوية الجامعة للعرب وتأكيد الطموح نحو التشكل ضمن إطار الدولة ـ الأمة، و نحو النهضة ضمن سياق العدالة الاجتماعية والمواطنة، هي الأساس الإيديولوجي الحاكم في الدولة السورية، استطاع الرئيس حافظ الأسد أن يضيف إليه لمسة نابعة من بيئة سوريا الطبيعية المتكئة على إرث حضاري لشعوب سوريا القديمة من سريانية وأرامية وكنعانية، هذه البنية الإيديولوجية الموحدة للدولة المقاومة السورية والتي تعتبر ضرورة ملحة في مجتمع متعدد مذهبياً ودينياً كسوريا، تتطلب ترسيخا لأطر وآليات تتيح التجديد عبر إثراء النقاش الفكري للإجابة على كل الأسئلة الفكرية المستجدة وتشكل رابطة وطنية تمنع تحول التعدد الثقافي والديني والمذهبي في المجتمع إلى أدوات لتفكيك المجتمع والدولة بتحول هذا التعدد إلى عصبية وفق تعبير ابن خلدون، تقود إلى تشكيل “هويات جزئية” ذات التعبير الديني غالبا بما يتيح انتعاش الخطاب الطائفي الذي يحول المجتمع إلى كتل عصبوية متصارعة.
إن هذه الرابطة الوطنية التي تمثل الجوهر الإيديولوجي الذي تقوم عليه الدولة المقاومة تتناقض وجودياً مع المشروع الطائفي الذي يستعمل الخطاب الديني لمصلحة هوياته الجزئية المتمثلة في عصبيته الطائفية، فتصبح معه العلمانية ـ غير المعادية للأديان التي تعني حرية الاعتقاد وممارسته لكل كتلة دينية بدون أي توظيف سياسي للمصالح العصبية، أو كما يسميه عبد الوهاب المسيري ب “العلمانية الجزئية” ـ خياراً جوهرياً ملحاً، كما انه يتناقض بالدرجة نفسها مع الخطاب الإيديولوجي اللبرالي الذي يسقط بطريقة اتوماتيكية آليات وأدوات الديمقراطية المفرغة من أي مضمون مدني على التركيبة الاجتماعية والثقافية المعقدة للمجتمع التي ما زالت تحركها الآليات التقليدية التي تتمحور حول “القبيلة” أو “الطائفة”، تماماً كتحول مسميات ليبرالية كالاحزاب مثلا لمجرد تعبير “حداثي” عن هوية طائفية أو قبلية مثل ما تعبر بعض الأنظمة الديمقراطية الحداثية في شكلها عن مضمون طائفي كما في الحالة اللبنانية. إن هذه التركيبة المعقدة لمجتمعاتنا لا تحتاج إلى إسقاطات من هذا النوع بقدر ما تحتاج إلى تفاعلات اجتماعية وثقافية تؤدي إلى قطيعة أبيستيمولوجية مع كل آلياتها القديمة بما يقلل من تأثيرها في المجتمع جزئيا أو كلياً.
هذه الرابطة الوطنية تعبر عن الحاجة لتحصين الدولة المقاومة التي في صلبها العدالة الاجتماعية ودولة المؤسسات بتحصين استقلالية مؤسسة القضاء والمؤسسة التشريعية بما يؤسس لمنظومة رقابية تردع الفساد الذي يشكل خطراً على وحدة المجتمع لجهة خلقه لثغرة انعدام الثقة بين الدولة وبين الطبقات الشعبية، كما تقع في صلبها مسؤولية تدعيم المؤسسة العسكرية بما يمنع مشاريع تفكيكها تحت أي مسمى أو ظرف، وكذا الرغبة في بناء الاقتصاد الوطني المستقل الذي يقطع مع النماذج النيوليبيرالية الكمبرادورية والقائم على السيطرة على الموارد الوطنية وبناء القدرات الاقتصادية الإنتاجية في سياق مشروع تنموي شامل يمنع أي نزوع نحو الاستثمارات غير الإنتاجية أو أي انتقال لأصول الدولة لصالح فئات قد تشكل فئة وكلاء لمصالح أجنبية في سياق خلق منظومات صارمة لمواجهة الفساد بما يخلق قاعدة اجتماعية تشكل حاضنة ورافداً للدولة المقاومة ويبني حاجزاً أمام الثغرات التي يسهل اختراقها ليبرالياً أو طائفياً.
هذا الطابع الاقتصادي ـ الاجتماعي للدولة المقاومة هو الحصانة الحقيقية لبيئة مقاومة عصية على الاختراق.
فالحرب المفروضة على سوريا كدولة مقاومة اليوم تتعدى حدودها الطبيعية إلى كل هذا الفضاء الذي نسميه ـ متجاوزين الصفة الكولونيالية التي تطلق عليه “الشرق الأوسط” ذات الحمولة الفكرية المتصلة بفكر المحافظين الجدد ـ بالمشرق والمتنوع إثنياً وثقافياً بشعوبه العربية والكردية والفارسية والممتاز بإرثه الحضاري القديم الأشوري والكلداني والسرياني …. الخ وبإرثه الإنساني الذي يمتد تأثيره إلى كل أنحاء العالم. الحرب في سوريا التي تمثل محور هذا المشرق ضد هذا النهج التكفيري التدميري هي حرب ضد مشروع يستهدف تحويل فسيفساء هذا المشرق المذهبية والدينية إلى عامل تفكيك وصراعات أهلية، كما هي حرب ضد الهيمنة الأمريكية على مقدرات شعوبه ومن أجل تكريس الاستقلال الوطني، وحرب ضد المشروع الاستعماري وكيانه الوظيفي “إسرائيل” بما تمثله من عقيدة عنصرية تتقاطع وتتحالف ضمنياً مع مشاريع التفكيك والتفتيت الليبرالية والطائفية التكفيرية.
دولة المقاومة في سوريا كمركز تتصل بجميع صراعات هذا المشرق تخوض اليوم حرباً من أجل مشرق جديد تعددي مستقل خالٍ من الصهيونية والتكفير.
صمودها وانتصارها في هذه الحرب إضافة إلى إسهامها الحاسم في انكشاف المشروع الإمبراطوري الأمريكي استراتيجيا بما يعجّل من انكفائه تدريجياً فرض عليها تحديا كبيراً في طرح البديل لملء هذا الفراغ الاستراتيجي، بلوره الرئيس بشار الأسد في نظرية “تشبيك البحار الخمسة” التي مثلت أقسى تعبيرات التحدي للمشروع الأمريكي لهذه المنطقة القائم على التفتيت
والتقسيم وفق أسس مذهبية ودينية وإثنية معتمداً على أدواته التكفيرية والليبرالية والصهيونية والذي يستمد رؤيته من رؤية برنارد لويس الذي لا يرى في هذه المنطقة إلا مجموعات طائفية مختلفة قابلة للتصارع والتقاتل، وتعبر هذه النظرية عن الإطار العام للتعاون بين شعوب هذا المشرق لما فيه مصلحتهم ونهضتهم وتشبيك مصائرهم بدل اشتباكها.