سوريا تُفرق الأوروبيين
صحيفة الخليج الإماراتية ـ
فيصل جلول:
من الصعب أن تعثر هذه الأيام على مسؤول أوروبي يتحلى بالشجاعة للرد على سؤال حول موقف الاتحاد الأوروبي من الأزمة السورية، فقد تبعثرت أوروبا وعادت كل دولة إلى مصالحها الوطنية ذات الأولوية في اتباع هذا الموقف أو ذاك . ومع أن هذا التشتت لن يؤثر في أداء الاتحاد في المجالات غير السياسية وغير العسكرية، فإن غيابه عن الأزمة السورية لا يزيده كعباً ولا يعزز مصداقية ادعاءاته (السابقة) حول عزم أعضائه على توظيف جهودهم مجتمعة من أجل صناعة سياسة خارجية ودفاعية موحدة .
يستدعي افتراق الأوروبيين حول سوريا طرح سؤالين كبيرين حول أسباب هذا الافتراق، وحول مستقبل السياسة الخارجية الأوروبية الموحدة؟ في الإجابة عن السؤال الأول نلاحظ تعدد المواقف بتعدد الحسابات والمصالح الخاصة، ما يفضي إلى تجميع ستة اتجاهات أساسية، أولها الموقف الفرنسي الذي عبّر عنه الرئيس فرنسوا هولاند في مقابلة مع صحيفة “لوموند”، إذ قال إن بلاده تؤيد “عملاً عسكرياً متناسباً وحاسماً ضد النظام السوري”، وأوضح أنه لا يحتاج إلى مجلس النواب للمشاركة في عمل عسكري إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، وأن امتناع بريطانيا لا يغير شيئاً في التصميم الفرنسي على الحرب”، وهو تصميم مبني على مصالح فرنسية كبيرة وعلى رغبة في استعادة نفوذ باريس التاريخي في بلاد الشام وعربون إخلاص لواشنطن يعوض الحملات الفرنسية المؤلمة لأمريكا قبل حرب العراق، وأيضاً تصفية حسابات قديمة مع دمشق من بينها اغتيال السفير الأسبق لويس دولامار في العام ،1983 وتفجير مقر الوحدة الفرنسية في بيروت خلال الصراع الفرنسي السوري على النفوذ في لبنان .
وثاني الاتجاهات الأوروبية عبرت عنه بريطانيا التي كانت سباقة إلى التقدم بمشروع قرار إلى مجلس الأمن تحت البند السابع ضد سوريا، غير أنها فشلت وجاء تصويت البرلمان البريطاني ضد المشاركة في حرب على سوريا ليطوي الصفحة البريطانية، علماً أن لديفيد كاميرون الحق الدستوري في الانضمام إلى التحالف الأمريكي باسم حكومته، غير أنه امتنع عن ذلك بسبب رفض الأكثرية الساحقة من البريطانيين هذه الحرب بعد أن تكبدت بلادهم خسائر كبيرة في حربي العراق وأفغانستان .
وثالث الاتجاهات ارتسم في موقف ألمانيا وبولونيا وإيطاليا التي رفضت المشاركة في الحرب على سوريا صراحة، ولكل منها أسبابها، فألمانيا تخوض انتخابات يتحدد من خلالها مصير حكومة أنجيلا ميركل التي تعرف أن الناخب الألماني يتمتع بثقافة مناهضة للحرب، وبالتالي من الصعب أن يقترع لطرف مؤيد للعنف، في حين يرى رئيس الوزراء البولندي أن لا مصلحة لبلاده في هذه الحرب، خصوصاً أنها منشغلة في ورشة إعادة بناء داخلي عملاقة للتكيف مع انتمائها الأوروبي الجديد والتخلص من إرث الفترة السوفييتية . أما إيطاليا فهي تؤيد الحل السياسي للأزمة السورية حصراً ولا تريد الحديث عن تحالف دولي للحرب، علماً أنها منهكة بسبب أزمة الأسواق العالمية ولا تتمتع بهامش مناورة اقتصادي يسمح لها بالمشاركة في الحرب .
ورابع الاتجاهات المذكورة يقتصر على إسبانيا التي ربطت موقفها من الأزمة السورية بالموقف الأوروبي الموحد، مع علمها التام أن أوروبا ليست قادرة على انتهاج سياسة موحدة تجاه الأزمة السورية، والظن الغالب أن مدريد تخشى من أن تتعرض لأعمال إرهابية إن هي شاركت في الحرب على غرار متفجرات العاصمة الإسبانية عام 2004 التي أدت إلى سقوط 191 قتيلاً بسبب مشاركة الجيش الإسباني في الحرب على العراق .
والاتجاه الخامس عبّرت عنه بلجيكا وسلوفينيا، حيث امتنعتا عن اتخاذ موقف من الأزمة بانتظار نتائج التحقيق الذي يجريه فريق من المحقيقين الدوليين، ويبدو أن دولاً أوروبية أخرى تتبع هذا المسار .
والاتجاه السادس عبرت عنه ايرلندا التي رفضت المشاركة بعمل عسكري في سوريا، خوفاً من أن تتعرض وحداتها العسكرية العاملة على خط وقف النار في الجولان المحتل للخطر .
والواضح أن انكفاء معظم الدول الأوروبية عن المشاركة في الحرب قد ترك تاثيراً بارزاً في الحلف الأطلسي الذي أعلن بدوره أنه سيمتنع عن المشاركة في الحرب .
يفضي ما سبق إلى حصيلة مؤلمة للرئيس الفرنسي الذي يبدو يوماً بعد يوم معزولاً في أوروبا وشبه معزول في بلاده وحليف الضرورة للرئيس الأمريكي الذي لم يتجشم عناء إبلاغه بما سيفعله بعد تصويت البرلمان البريطاني، فكان أن بادر الإليزيه إلى الاتصال مباشرة بالبيت الأبيض “لمعرفة ماذا بعد”؟
خلاصة القول إن أوروبا الموحدة التي أريد لها أن تكون نموذجاً للاتحادات الإقليمية تبدو مرة أخرى عبارة عن شراذم سياسية أنانية غير جديرة بالتصدي لأزمة عالمية بصورة موحدة، وغير قادرة على المشاركة في إدارة الأزمات الدولية، إلا إذا أبدت استعدادها لدفع الأموال، أي التحول إلى صندوق لهذه الأزمات من دون أن يكون لديها حق الرد أو الاعتراض، أو النقاش في بعض الأحيان .
ليس لأوروبا أن تلقي بالمسؤولية عن تهميشها على مساوئ الآخرين، وليس لها أن تلوم دولها الكبرى على عرقلة الوحدة والسياسة الموحدة، فالمسؤولية مشتركة بين معظم البلدان التي تريد سياسة موحدة، وتغتبط عندما يتم التصويت عليها، لكنها بالمقابل لا تريد التخلي عن جزء من سيادتها كي يوظف في سياسة خارجية أوروبية جديرة بهذا الاسم، وقادرة على نقل البلاد من حال الضعف الشديد في الدفاع والسياسة الخارجية .
مرة أخرى يبرز الاتحاد الأوروبي بغيابه وتشرذمه، ولعل ما يغفر له هو عناد المشرفين عليه كي يبقى حلبة يلتقي على سطحها الأوروبيون وعملاقاً في الاقتصاد والعمل الإنساني المشترك، ولعل هذه البراغماتية الناجحة تغفر للأوروبيين تفتتهم الذي تقدم على تفتت العرب وتخبطهم بعشرات السنين الضوئية، وذلك كله لا يتفق مع استنتاجات كارل ماركس الذي يعتبر بإصرار السوق توحد بالضرورة العاملين فيها توحيداً سياسياً .