#روسيا.. المهمة التالية
محمد سيف الدين – الميادين نت
ماذا أنتج الدخول الروسي إلى الميدان السوري خلال عام؟ وعلامَ تفتتح السنة الثانية من الوجود الروسي هناك؟
العام الخامس انتهى. الحرب السورية وسخةٌ جداً. معقّدة جداً ومتشابكة. هي بأفضل أحوالها سياق يطول لتبادل المصالح بين الدول وبين الأذرع، وبين الفصائل على الأرض، وبين القادة داخل الفصائل وصولاً إلى المقاتلين الأدنى رتبةً. وهي بحالتها الوسطية سياق لتبادل القتل، بين كل الذين ذكرتهم. أما في حالتها الأسوأ، فهي تشريدٌ وقتل للمدنيين، ودمار للمنازل وللمؤسسات، وأعدادٌ هائلة من المعوقين والمصابين. يتامى وأيامى، موائد طعام غير مكتملة، موائدُ لا طعام. تراكم تنموي لعشرات السنين تم هدمه. تراكم حضاري لآلاف السنين تم محوه. تراكم آمالٍ وفرص لملايين البشر تم وأده. الحرب بشعة، والحرب السورية نسخة أكثر بشاعة.
العام الأول انتهى. دخلت روسيا الحرب بعد أن وضعت أمامها هدفاً لتدخلها في سوريا. الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية ومنعها من الانهيار. وضرب الإرهابيين في منطقة نشاطهم، قبل أن يتمكنوا من توسيع أعمالهم إلى الخارج، وخصوصاً إلى القوقاز والداخل الروسي. أولئك الذين قدّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عددهم بثلاثة آلاف مقاتل من دول الاتحاد السوفياتي السابق. تم القضاء على الأبرز من بينهم.
وعلى الرغم من أن الدخول الروسي تم بناءً على طلبٍ رسمي من الرئيس السوري، أي تحت سقف القانون الدولي. فإن الحملة الإعلامية المناهضة لروسيا في الصحافتين العربية والغربية لا تزال تسير بموازاة الأعمال العسكرية. وفي سياق هذه الحملة كل تفصيلٍ صغيرٍ مهم، عائلة لا تجد مسكناً، أو طفل انتشل من تحت الدمار جراء قصفٍ أو غارة أو غير ذلك.
العام الأول انتهى. روسيا لا تزال في سوريا. النظام في سوريا قائم ومتين. حلفاء سوريا أيضاً لا يزالون متحفّزين ويمتلكون زمام المبادرة. وبالمقابل، لا تزال الولايات المتحدة تراهن على مكاسب لها من الأزمة السورية. المملكة العربية السعودية هي الأخرى لا تزال ترى أملاً في دور ما لها هناك. تركيا أُخرجت من الباب فدخلت من نافذة الكرد، وفي لحظةٍ اقتنصتها بذكاء. إيران برهنت أنها لم تستخدم ثوابتها السورية لحصد الاتفاق النووي مع الغرب. هي أيضاً باقية في سوريا بقوة. تنظيم “داعش” لا يزال طرفاً أساسياً في الصراع على الرغم من خسارته لمناطق مهمة وقادة أساسيين. جبهة النصرة غيرت جلدها، ولبست على الموضة الغربية، لكن بعد فوات الأوان. وبالرغم من إعلانها فك الارتباط بتنظيم القاعدة، إلا أن اسم “جبهة فتح الشام” لم يعطها مقبوليةً دولية. فالروس كانوا قد سرقوا اعترافاً أميركاً بالجبهة كتنظيمٍ إرهابي. جيش الإسلام خسر قائده وأبرز قادته الآخرين. سنة قلب الموازين أرادتها روسيا، وأراد خصومها لها سنةً سورية بنكهةٍ أفغانية. فماذا أنتج الدخول الروسي إلى الميدان السوري خلال عام؟ وعلامَ تفتتح السنة الثانية من الوجود الروسي هناك؟
أربعة توقعات فشلت
بالعودة إلى أجواء لحظة بداية الغارات الجوية الروسية قبل سنة، فإن روسيا تمكنت من تفادي الكثير من التوقعات السيئة التي سيقت تعليقاً على قرارها المفاجئ يومها. أول هذه التوقعات التي فشلت كان مقارنة عمليتها في سوريا، وغرقها في الوحل الأفغاني. فمعظم التحليلات التي كتبت من معارضي هذا الدخول توقعت أن تغرق روسيا في وحول الحرب السورية. لم تفعل موسكو ذلك، بل وضعت سقفاً زمنياً للكتلة الأكبر من غضبها. صبّته فوق التنظيمات المتطرفة في 100 يومٍ. وبعدها أعلنت انسحاب الكتلة الأكبر من قوتها. يومها تحدث كثيرون عن “الانسحاب الروسي من سوريا”، غير أن الميادين نت طرحت التساؤلات نفسها في آذار-مارس من العام الحالي وخرجت بتحليل يقول إن روسيا لا تزال هنا.
أفغانستان الثانية لم تحصل. أما التوقع الثاني الذي فشل أيضاً فكان استنزاف الخرينة الروسية إلى درجة إنهاكها ودفع موسكو إلى الانسحاب من سوريا من دون تحقيق غاياتها هناك. الواقع أن روسيا غير مرتاحةٍ مالياً، ولكنها قادرة على الاستمرار في هذه الحرب حتى أمدٍ معقول، وهي غير معرضةٍ لانهيارٍ مالي في المدى المنظور، خصوصاً مع جهودها المكثفة لإعادة أسعار النفط والغاز إلى معقوليتها.
التوقع الثالث الذي فشل خلال السنة الماضية كان أن يؤدي دخول روسيا المباشر في هذه الحرب إلى عزل موسكو على المستوى الدولي، وتحولها إلى قوة خارجة عن منطق القانون الدولي، وبعلاقات متوترة مع بقية العالم. والواقع أن موسكو تأثرت سلباً بسبب الأزمة الأوكرانية أكثر بما لا يقاس مما تأثرت جراء دخولها إلى سوريا. أي حيث لم تتدخل عسكرياً بصورةٍ رسمية أكثر من حيث تدخلت. لا حصار ديبلوماسي ولا سياسي فرض على موسكو. هي لا تزال قادرة على المناورة على المستويين، بل إنها تبادر إلى مد الجسور وتلقى القبول. حتى أن القوى التي تتعارض معها في المصالح، تعود بسرعة إلى ملاقاتها في أقرب مصلحةٍ ممكنة، كما فعلت تركيا مثلاً.
أما النقطة الرابعة التي فشل توقعها فكانت انعكاس الضربات الروسية على الإرهابيين في سوريا هجمات في الداخل الروسي، أو على المصالح الروسية حول العالم، وهو ما لم يحصل، الأمر الذي يشير إلى متانة الجسم الاستخباري الروسي من جهة، وقوة التنسيق بين موسكو والمتحالفين معها في الميدان السوري من جهةٍ أخرى.
ماذا حققت روسيا من التدخل في سوريا؟
لقد أصابت موسكو مجموعة أهداف بضربةٍ واحدة، وفي المقابل فإن سلبياتٍ أخرى تأتت من جراء هذه الضربة. في الإيجابيات هي تمكنت من استثمار الدخول العسكري لمصلحة التفاوض السياسي واستعادت جزءاً من دورها الدولي. وقد تمظهر ذلك في طبيعة التفاوض الذي حصل بعد ذلك، وسيره بموازاة الميدان. المواجهة الأميركية-الروسية كانت أشبه بلعبة كرة المضرب. ضربة في مقابل ضربة. المواجهة من الند إلى الند. لا تهاون ولا مراعاة لتفوق. بل إن التفوق كان لمصلحة الروس حتى الآن. روسيا لها اليد الطولى في سوريا، والآخرون يحاولون اللحاق بها.
من جهة أخرى تمكن الجيش السوري وحلفائه تحت المظلة الجوية الروسية من استرجاع ما يفوق 216 قرية. وتوسيع رقعة السيطرة النارية والإدارية لدمشق. هذا يعتبر على المستوى العسكري إنجاز مهم يحسب لهذه القوى، وبالطبع لروسيا. إلى جانب ذلك آلاف المسلحين المناوئين للحكومة السورية تم القضاء عليهم، ومن بينهم أسماء خطرة ولها أثر بالغ في تركيبة التنظيمات الإرهابية. في مقابل عدد قليل جداً من القتلى الروس لا يتجاوز أصابع اليدين.
وفي السنة الماضية تمكن الروس مع حلفائهم أيضاً من تقليص مساحة سيطرة داعش في سوريا. واستطاعوا إضعاف قدرة المتطرفين على مهاجمة القوات السورية. ومنعوا التحالف الأميركي من لعب الدور الأبرز في مواجهة الإرهاب في سوريا. لقد تقدمت موسكو على واشنطن في هذا المسار المهم بالنسبة إليهما.
في موازارة ذلك، أنشأت روسيا مركزاً للمصالحة في قاعدة حميميم قرب جبلة، وحاولت من خلاله إظهار دورها على أنه يزاوج الجهد العسكري مع الجهود الإنسانية والسياسية لإعادة اللحمة إلى النسيج السوري. لقد حاولت روسيا في كل الميادين دعم وجودها في سوريا. فريقها الأولومبي زار قاعدة حميميم. أوركسترا مسرح “مارينسكي” أحيت حفلاً على مسرح تدمر الذي شهد على دموية داعش بعد أيام على استعادته.
وهي أحرجت الأميركيين عندما دفعتهم إلى التوافق على فصل المعارضة السورية المعتدلة عن التنظيمات الإرهابية، ثم انتزعت منهم الاعتراف بأن “جبهة النصرة” إرهابية على الرغم من تغيير اسمها وإعلانها فك الارتباط التنظيمي بتنظيم “القاعدة”.
إلى جانب ذلك كله، خفف الدخول الروسي المباشر إلى الميدان السوري من الأدوار الإقليمية حيث أصبحت المواجهة بين القوى الكبرى مباشرةً، وتراجعت الحرب بالوكالة. على الرغم من بقاء القوى الإقليمية المتناحرة عند حدود متشددة وهي قادرة حتى الآن على إعاقة الحلول المطروحة للأزمة، ولكن قدرتها في الميدان تقلصت، كما تقلصت قدرتها على التأثير على القوى الكبرى.
وعلى المستوى العسكري، استعادت القوات الروسية جهوزيتها العسكرية من خلال مشاركتها في حربٍ ضد خليطٍ من القوى المعادية التي تستخدم أساليب الجيوش النظامية وأساليب حرب العصابات في آن معاً. وفي هذا الإطار أدخلت موسكو سلاح البحرية وسلاح الجو وسلاح القوات الصاروخية الاستراتيجية وبعض القوى البرية ضمن التجربة الحقيقية للحرب. إنه جيل جديد من العسكريين الروس يختبر ميدان القتال في أصعب حربٍ تجري على مستوى العالم اليوم.
كما أن الدخول الروسي بقي تحت سقف القانون الدولي، وهذه نقطة تتقدم روسيا فيها على التحالف الغربي الذي يشن ضرباتٍ في الأراضي السورية من دون موافقة دمشق والحكومة الشرعية القائمة فيها. بل من دون قرارٍ من مجلس الأمن الدولي أيضاً، أي بما يخالف مندرجات القانون الدولي. ولكن مآخذ سلبية تؤخذ أيضاً على روسيا.
انعكاسات سلبية جراء “عاصفة السوخوي”
لقد أودت الحرب السورية بمئات الآلاف من القتلى حتى الآن، ومن بين هؤلاء الكثير من المدنيين. ومنذ اشتراك الطائرات الروسية في الحرب لم يبدُ أن أعداد الضحايا من المدنيين ارتفعت، ولكن حملات متتالية تشن على روسيا، وتعرض صورٌ لمدنيين قتلى تقول بعض وسائل الإعلام إن هؤلاء قتلوا من جراء الغارات الروسية، ويدعم هذه الادعاءات الموقف الأميركي الرسمي في كثيرٍ من الأحيان. وبسبب أنه لا يمكن الجزم ما إذا كان ذلك صحيحاً، فإنه من الواجب القول إن من السلبيات القاسية للدخول العسكري الروسي سقوط أرواحٍ من المدنيين قتلى بسبب الأعمال الحربية.
من جانبٍ آخر زاد التدخل الروسي من حرارة الاشتباك بينهم وبين الأميركيين حول سوريا. كما أنه لم يساعد في حل الأزمة الأوكرانية. ما يبدو أنه حاصل هو أن مزيداً من الانخراط يعني مزيداً من التعقيد، ويؤدي إلى مزيدٍ من الدماء.
أما من الناحية السياسية والميدانية، فإن روسيا كانت تراهن قبل السنة الماضية على مد جسورٍ مع المقاتلين الكرد في الشمال السوري، وكانت تنافس إلى ذلك الولايات المتحدة، غير أن الأحداث التي شهدها العام الأول لروسيا في سوريا تشير إلى أن موسكو خسرت مرحلياً الكرد كحليفٍ متوقع. لقد اختار الكرد السير إلى جانب الأميركيين، ولذلك فهم أصبحوا أكثر ميلاً للاصطدام بالقوات الحكومية السورية. تحاول روسيا اليوم عدم المخاطرة بخسارة كاملة للكرد.
أما تركيا، فقد خسرتها موسكو إلى أجلٍ عندما أسقطت الأخيرة مقاتلةً روسية قرب حدودها في الخريف الماضي. ثم عاد الطرفان إلى العقل الذي يقول إن المصالح المشتركة لا يمكن أن يتحمل أي منهما تعطيلها لحساباتٍ مارةٍ على الزمن. وفي حساب التحالفات، تقترب تركيا اليوم من روسيا أكثر فأكثر، وآخر المؤشرات التي تشير إلى ذلك تصريح الخارجية الروسية في 29 أيلول 2016 بأن هناك إمكانية لشن هجماتٍ مشتركة بين قوات الدولتين في سوريا.
المهمة التالية: دمشق-حمص-حلب
حسابات الأزمة السورية معقدة جداً، ولكنها بكل الأحوال باتت بين أيدي القوتين الأكبر على مستوى العالم اليوم. لقد صرح الناطق باسم الخارجية الروسي في عام 2013 بأن الصراع في سوريا سوف تكون له تأثيرات أساسية على النظام الدولي. وفي ذلك لب المسألة. لقد حاولت روسيا طوال الأعوام الخمس الفائتة التوصل إلى حلٍ سياسي مع الأميركيين، خصوصاً خلال سنة تواجدهم مباشرة في سوريا. وقد توصلوا في 22 شباط 2016 إلى بداية هذا الحل فعلاً. ولكن الأيام الأخيرة التي شهدت ضربة أميركية قاسية للجيش السوري قالت واشنطن إنها كانت “عن طريق الخطأ”، أدت إلى جانب غيرها من الأسباب إلى عرقلة التفاهم الذي كان يشكل بداية الحل. سقط الاتفاق الروسي الأميركي، ومعه فُتحت صفحة جديدة من المواجهة.
هذه المواجهة ليست شاملة، ففشل واشنطن وموسكو في إتمام التفاهم لا يعني العودة إلى نقطة الصفر. لا أصفار في حسابات الدول الكبرى، ولكنها صفحة جديدة ستتسابق القوتان خلالها في الميدان. أميركا بدأت بقصف الجسور في دير الزور تمهيداً لحشر داعش هناك. وإطلاق المعركة لطرده من العراق إلى سوريا، كما قالت هيلاري كلينتون. صحيفة “إندبندنت” البريطانية قالت البارحة “لا خطة أميركية بديلة في سوريا لوقف العملية العسكرية الروسية”. روسيا في المقابل تغطي حلفائها على الأرض وتسابق واشنطن إلى الإنجاز، وهي تريد حلب قبل وصول الرئيس الأميركي الجديد إلى مكتبه.
روسيا في المرحلة الراهنة، ومعها حلفاؤها الذين أصبحوا أقرب إليها من أي وقتٍ مضى بفعل التعنت الأميركي، يريدون إضافة حلب إلى الثلاثي الماسي: دمشق-حمص-حلب. هذه هي المهمة التالية. بعد ذلك يتفاوض المتفاوضون. وعلى المتضرر اللجوء إلى المطار. وحجز أول طائرة لمقابلة بان كي مون.