السفير اللبنانية :
رحل يوم الجمعة الماضي عالم الجيولوجيا المصري رشدي سعيد. «أبو الجيولوجيا المصري» أو «أبو النيل»، لقبان أطلقا على العالم المصري من ضمن ألقاب كثيرة عكست عبقريته النادرة في اختصاصه العلمي.. هي ألقاب شعبية غير رسمية في مجملها، وتعكس، بصفتها هذه، الإهمال الرسمي للأكاديميين، باعتباره سمة دائمة لدى الحكومات المصرية المتعاقبة.
مثل الدكتور رشدي سعيد نموذجاً مختلفاً لعلماء العصر الحديث، فاختلف مع أصحاب مقولة «العلم من أجل العلم»، أو «العلم لخدمة الطبقات الحاكمة»، مقدماً نموذجاً علمياً يريد الحفاظ على ثروات عموم الناس، وحمايتها من استحواذ الأقلية الطبقية عليها.
بدأت إحباطات سعيد، عندما لم يجد ما يرضي شغفه العلمي في جامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً)، حيث تخرج من كلية العلوم وأصبح مدرساً فيها في ما بعد. فبدأ رحلة الاغتراب، حيث حصل على الدكتوراه من جامعة هارفارد الأميركية قبل 63 عاماً.
وتواصلت الإحباطات مع كل مشروع كان يقترحه سعيد لمصر، التي ساهم في قيادتها سياسياً عقب انكسار نكسة 1967 من خلال رئاسته لهيئة التعدين وعضويته في مجلس الأمة، فكان أولها عندما رآه كثر من السياسيين يسلك درباً من الجنون حين أعلن عن مشروعه الأهم، تحويل مجرى نهر النيل باتجاه الصحراء الغربية كخطوة كبيرة في اتجاه تعمير صحراء مصر. وربما تأكد هؤلاء من شعورهم تجاه الجيولوجي المصري المغترب عندما اقترح تعاوناً بين دول البحر الأبيض المتوسط لبناء سد مائي عند مضيق جبل طارق لينقذ هذه الدول من ارتفاع منسوب المياه نتيجة التغير المناخي العالمي.
الرفض الحكومي للمشاريع الكبيرة التي اقترحها رشدي سعيد لم تكن وحدها السبب في خيبة أمله، إذ أضيفت إليها عوامل أخرى مرتبطة بسياسات النظام الحاكم في مصر خلال حكم الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك.
«الحقبة الساداتية مهدت الأرض لدعاة الشرق أوسطية». بهذه العبارة حكم سعيد هذا على «الرئيس المؤمن»، صاحب نظرية الانفتاح، التي غلبت مصالح الدول الكبرى على مصالح الوطن. كلفه موقفه كثيراً عندما أدرجه السادات على قائمة الاعتقال الشهيرة التي أدخلت مئات المثقفين والسياسيين في الاعتقال، قبل أن يقتل بشهر واحد، وهو ما اضطر سعيد للبقاء في الولايات المتحدة. وقد بلغت مأساته ذروتها عندما أجبر على بيع مكتبته الشخصية ليجاري تكاليف الحياة الأميركية.
أما في فترة حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، فقد بلغت خيبة الأمل لرشدي سعيد أوجها، إذ اتكأ الأول على مشاريع وهمية ليعوّض من خلالها شرعيته المفقودة. وهكذا بشّر مبارك بمشروع «توشكي»، الذي قال عنه سعيد إنه «مشروع فاشل، يمنح عشر نصيب مصر من مياه النيل لأربعة مستثمرين.. بينما تعاني غالبية الشعب المصري من قلة المياه».
أما الكارثة الأكبر بحسب سعيد، فكانت تبعية الدولة المصرية لمصالح الدول الكبرى، الأمر الذي أدى في رأيه، للهجوم على المزروعات المصرية لصالح الفلاح الأميركي، لمجرد أن له صوتاً في الانتخابات الأميركية، فضلاً عن ارتهان مصر للبنك الدولي للتفاوض على نصيب البلد من مياه النيل، وهي المؤسسة الدولية التي لا يهمها إلا المصالح الرأسمالية النيوليبرالية. ويضاف إلى ذلك كله بروتوكول نقل الغاز المصري إلى العدو الإسرائيلي بما يفرغ مصر من ثرواتها الطبيعية.
أمور كثيرة شغلت رشدي سعيد، ليس أقلها الإهمال الرسمي والأكاديمي له ولغيره من العلماء المصريين. وكان هذا واضحاً في المرارة التي عبر بها عن إحساسه هذا في كتابه «رحلة عمر».
وبدا واضحاً أن البلد الذي أهمله في حياته، رفض أن يغير نهجه في مماته. مات الدكتور رشدي سعيد، وقلة من أبناء وطنه يعرفونه، ولا أحد من حكومة بعد الثورة يعرفه، أو ربما، لا يريدنا أن نعرفه.