خيارات ماكرون بعد الضربة الأميركية لفرنسا
صحيفة الوطن السورية-
تحسين الحلبي:
في القرنين الماضيين اعتادت كل من بريطانيا وفرنسا بصفتهما أقوى قوتين استعماريتين في أوروبا، اقتسام السيطرة والاحتلال ضد الشعوب وفرض حكومات تابعة لكل منهما فيها، وجرت آخر مشاريع الاقتسام والتقسيم هذه في منطقتنا باتفاقية سايكس – بيكو، فأصبح قسم من العالم العربي تحت سيطرة بريطانيا وآخر تحت سيطرة واحتلال فرنسا، إلى أن دخلت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية 1939-1945 إلى ساحة التنافس على الهيمنة والاستعمار، فجردت كل منهما جزءاً من الغنائم في المنطقة والعالم العربي والعالم بصفتها أقوى قوة امبريالية، وفي منتصف أيلول الجاري دشنت الولايات المتحدة مشروع إعادة اقتسام النفوذ والسيطرة بينها وبين بريطانيا وأستراليا ومن يقبل بالتحالف مع هذه الدول الثلاث في آسيا بالشروط الأميركية أو الثلاثية، فقد أعلن قادة الدول الثلاث التي أصبح تحالفهم يحمل اسم دول «آوكوس»، عن هذا الحلف لمجابهة الصين في آسيا وبحارها، ولهذا الغرض ألغت أستراليا صفقة شراء غواصات فرنسية بقيمة أكثر من خمسين مليار دولار كانت قد وقعتها مع باريس عام 2016 وقررت شراء غواصات أميركية، ويبدو أن هذا الحلف «الأنغلوساكسوني» الذي يجمع أكبر ثلاث دول تتحدث بالإنكليزية، وجه ضربة قاصمة أو قاسية لفرنسا ودورها، لأنها ليست عضواً مؤسساً فيه، وخسرت صفقة العصر مع أستراليا وبقيت بريطانيا وحدها من الدول الأوروبية شريكة للولايات المتحدة في ساحة إعادة اقتسام النفوذ والسيطرة في العالم، فمجابهة الصين الشعبية وحلفائها سيتطلب من هذه الدول الثلاث توظيف واستخدام من يرغبون به من حلفائهم سواء من حلف الأطلسي أم من دول الاتحاد الأوروبي وهذا يعني إعطاء دور غير قيادي لفرنسا فيه إذا ما وافقت على برنامجه وخطته.
السؤال الذي تطرحه عدد من مراكز الأبحاث الأميركية والأوروبية: ماذا ستفعل فرنسا تجاه هذه الصدمة أو الضربة القاسية التي وصف فيها وزير خارجية فرنسا الإدارة الأميركية بالرياء والنفاق والأكاذيب وبالوحشية في تعاملها مع فرنسا بعد إلغاء أستراليا لصفقة الغواصات، ووصفت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية هذه الضربة الأميركية «بتوجيه الصفعة على وجه فرنسا» فهذه الأزمة غير مسبوقة أولاً، كما أن تعامل فرنسا تجاهها لم يكن مسبوقاً لأن باريس استدعت لأول مرة سفير فرنسا من واشنطن وتجاهل جو بايدين الرئيس الأميركي رد الفعل الفرنسي، وقال للصحفيين: إن «العلاقات مع فرنسا عظيمة»! حين سئل عن انتقاد فرنسا لسياسته هذه.
الحقيقة المعلنة على لسان قادة الجيش الأميركي وإدارة بايدين أن هذا الحلف الثلاثي جاء لأن الولايات المتحدة «تعد أهم خطر إستراتيجي على مصيرها ومصير دورها ومصالحها في العالم هو الصين وآن الأوان لمجابهتها» بل إن وزير أسلحة الجو الأميركية فرانك كيندال أعلن في الإثنين الماضي في خطاب أمام مؤتمر «جمعية السايبير والفضاء وسلاح الجو» داخل قاعدة أميركية أن «أولوية الإستراتيجية الأميركية هي الآن الصين والصين والصين» وكرر اسم الصين 27 مرة في خطابه.
وأشارت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن واشنطن لم تعد ترى في الحرب على الإرهاب أولوية إستراتيجية الآن وربما هذا يعني أن انسحابها من أفغانستان ورغبتها بتقوية العلاقة مع طالبان لا علاقة لها بالاستعانة بطالبان فيما يسمى بالحرب الأميركية ضد إرهاب القاعدة وداعش بل إن هدفه توظيف كل المجموعات الإرهابية ضد الصين واستخدام المسلمين داخل الصين ومن حدود أفغانستان مع الصين.
ويبدو أن واشنطن بدأت تشير من أسبوع تقريباً إلى هذه الخطة، فقد لاحظ رئيس أركان الجيوش الأميركية مارك ميلي أن باكستان وطاجيكستان وأوزبكستان أبلغوه رفضهم استخدام أجوائهم لمصلحة سلاح الجو الأميركي بحجة اضطراره إلى ضرب «إرهابيي القاعدة وداعش فوق أفغانستان» ولذلك التقى بقادة حلف الأطلسي وطلب مساعدته في هذا الموضوع.
السؤال المطروح هو: هل سيكون في مقدور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تحدي السياسة الأميركية الجديدة ضد فرنسا وتحجيم دورها وهل لديه أوراق قوة في هذا التحدي؟ حاولت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية استعراض هذه الأوراق فرأت أن دولاً أوروبية كثيرة ستظل خارج توظيف فرنسا لها في أي سياسة مناقضة للسياسة الأميركية وخاصة بولندا وهنغاريا، أما حلف الأطلسي فصاحب القرار فيه هو واشنطن وإذا حاول ماكرون الاعتماد على ألمانيا فهي مقيدة كدولة مهزومة منذ الحرب العالمية الثانية وقد تنتقد السياسة الأميركية لكن ليس إلى الحد الذي يرضي فرنسا وهذا ما قدرته وتوقعته إدارة بايدين بعد توجيهها الضربة لصفقة العصر الفرنسية مع أستراليا ومضاعفات حلف دول آوكوس على فرنسا وفي هذه الحال يعتقد البعض أن فرنسا أحرقت أوراقاً كثيرة مع روسيا حين فرضت عليها بطلب أميركي عقوبات ولن تزيد أزماتها مع واشنطن وبريطانيا بسبب روسيا، ومع ذلك يصعب التسليم بأن زوبعة دول آوكوس ضد الصين ستحقق مصالح الولايات المتحدة في آسيا والعالم لأن الصين وروسيا وحلفاءهما قادرون على تبديد أهداف هذا الحلف في عالم فقدت فيه هذه الدول الثلاث قدرتها على فرض ما تريد.