حيثيات موقف الفاتيكان الإيجابي تجاه حزب الله
موقع قناة الميادين-
ريما فرح:
يؤكد مصدر كنسي شارك ضمن مجموعة محدّدة في لقاء بين عون والبابا فرنسيس لـ”الميادين”، أنّ الأخير هو الذي افتتح الحديث عن حزب الله.
فوق خلافات المسيحيين في لبنان وانقساماتهم المستمرة، زاد الموقف الفاتيكاني الإيجابي من حزب الله اللبناني خلافاً وانقساماً جديدين؛ ففي مطلع شهر آذار/مارس، نشرت جريدة “الأخبار” اللبنانية في عنوان عريض موقفاً فاتيكانياً يقول إنَّ حزب الله جزء أساسي من لبنان واللبنانيين، ويجب طمأنته، ويطالب الدول بإسقاطه من لائحة الإرهاب.
رفض الفريق المناهض لهذا الحزب الخبر، وتوالت شخصياته على نفيه أو بالأصح رفضه، بأشكال مختلفة، وتعاطت معه بإنكار لا يقبل التشكيك، فالبعض اعتبره خبراً مدسوساً ومسموماً، بعد رفض تصديقه، وذهب بعيداً في تحليلاته لماهية أهدافه، باعتباره يصبّ في مصلحة حلفاء الحزب المسيحيين على أبواب الانتخابات، والبعض الآخر راح بعيداً في التحريض على أكثر من طرف، من بينهم شخصيات كنسيّة اتهمت بلباس لبوس مسيحيي الثامن من آذار (التسمية المتعارفة للشريحة المؤيدة لحزب الله وسوريا)، فيما تبرعت أقلام للكتابة عكس ما نشر.
قلة من الفريق المناهض أخذت القضية (الخبر) على محمل الجد، وراحت تفتش بوجل عن صحته وأصوله ومتفرعاته، لتبني عليه حركتها المعاكسة، ولتتخذ في ضوئه الخطوات لمواجهته أو إجهاض أساساته وتداعياته.
وقد أتت زيارة رئيس الجمهورية ميشال عون إلى الفاتيكان ولقاؤه البابا فرنسيس، وصدور موقف علني وواضح عنه لصحيفة “لا ريبوبليكا” الإيطالية من قلب روما، أكد فيه “أنَّ مقاومة الاحتلال ليست إرهاباً، وليس لحزب الله المكون من لبنانيين، والذي حرر الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، أيّ تأثير في الواقع الأمني الداخلي للبنانيين”، لإشعال جبهة الداخل، واتهام عون بأنه ذاهب إلى الفاتيكان ليدافع عن حزب الله، ويقنعه بأنه حامٍ للمسيحيين في لبنان والشرق، في وقت كان بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للموارنة مار بشارة بطرس الراعي يدور في طرحه “حياد لبنان” أرض الكنانة، ليحشد تأييداً عربياً ودولياً له، بعدما احتشد له في الداخل بعض المسيحيين الحالمين بالفيدرالية وبعض دعاة التقسيم والانعزال عن إخوانهم المسلمين في البلد الصغير أصلاً جغرافياً، بدلاً من المفاخرة بأنَّ لكبار من المسيحيين الفضل في قيام لبنان الكبير الذي احتفل بمئويته الأولى قبل سنتين.
في زيارة عون للفاتيكان، وضع الأخير الواقع المسيحي، الكنسي والسياسي، على مشرحة واقعية، بعدما كانت دوائر أساسية في رأس الكنيسة في العالم قد تلمّست ما يمكن تسميته شططاً في تعاطي الكنيسة في لبنان مع رعاياها خلال الأزمة الخانقة الراهنة عبر مؤسساتها الصحية والاجتماعية والتربوية وسواها، وخصوصاً، بحسب مصادر كنسية، أن الكنيسة المارونية لم تعد اليوم الطفل المدلل لدى الفاتيكان، على غرار ما كانت عليه دوماً، إذ كانت لها خصوصيتها وموقعها الريادي المتقدم في عاصمة الكثلكة.
وليس ثمة أكثر دلالة على ذلك سوى ما أعربت عنه شخصيات فاتيكانية نقلت تقاريرها إلى أعلى سلطة كنسية، وعبرت فيها عن الامتعاض من أداء الكنيسة في لبنان إزاء قضايا هجرة عائلات مسيحية بأكملها وهجرة أعداد كبيرة من خيرة الشباب وتخليهم عن بلدهم، بعدما ضاقت بهم سبل العيش، في مقابل عيش الرفاه والترف لرجال الإكليروس (علماء الدين المسيحيون).
ويُنقل عن البابا في هذا الصدد دعوته الإكليروس في لبنان مع الكنيسة إلى التحلّي بالفقر، ليتمكّنوا من خدمة الشعب. وفي هذا تصويب مباشر على أداء الكنيسة التي تخلَّت في كثير من الأحيان عن دورها. وفي كلمة له أمام وفد “كاريتاس” (مؤسسة اجتماعية خيرية مسيحية تُعنى بمساعدة المحتاجين)، قال البابا: “لا تستطيع الكنيسة أن تكون غنية، وأن يكون شعبها فقيراً”، وكلامه هنا ينطبق على التخمة التي عاشتها الكنيسة على مدى سنوات، بفعل تصرفات الأشخاص المولجين بتطبيق تعاليم المسيح.
ويُسجل على عددٍ لا يُستهان به من علماء الدين انغماسهم في السياسة وإهمالهم الجانب الأساسي لرسالتهم. وقد وصلت إلى البابا فرنسيس تقارير عدة من السفارة البابوية في لبنان بهذا الشأن، تصف المسيحيين بأنهم يعيشون مهمشين.
في هذه الأجواء، أتت زيارة أمين سرّ الفاتيكان للعلاقات مع الدول، بولا غالاغر، الّذي كانت له لقاءات كنسية وسياسية تتصل بالتغيير الآتي إلى لبنان، كما قال، وهو ما يقلق الفاتيكان الَّذي يخشى تكرار السيناريو العراقي في لبنان والتضحية بالطرف المسيحي الَّذي بات هامشياً في اللعبة الأممية، والذي يأمل من الكنيسة أن تكون على قدر المسؤولية في المرحلة المقبلة، لتجنّب مسيحيي لبنان الدماء التي أُريقت في سوريا والعراق.
ثمة مشهد أكثر من قاتم للمتشائمين حول مصير المسيحيين في لبنان، والمسيحيون منقسمون أكثر من أيّ يوم مضى، ففي حين يطمئن رئيس الجمهورية الذي يسعى لانفتاح المسيحيين على محيطهم، ويعتبر أنهم ليسوا بخطر في سلوكهم هذا الخيار، يتصلَّب البطريرك في موقفه الداعي إلى الحياد، وللطرفين مؤيدوهما، ليأتي موقف الفاتيكان بعد جولة غالاغر، وبعد زيارة عون، ليرجّح دفة طرف على آخر، ويذهب بعيداً في الدخول في صلب الجدلية القائمة حول دور حزب الله في ما يجري، ليؤكد أنَّ مساراً جديداً يفتح على الموضوع اللبناني، وخصوصاً في إشارته إلى دور الحزب في إعادة إعمار لبنان، وهو ما يسقط نظرية خصومه التي تلبسه كلّ لبوس التدمير والمآسي، وهذا ما يعطي جرعة دعم وحجة للمسيحيين، حلفاء المقاومة، بأن موقفهم هو الموقف الصائب، ليصبّ موقف الفاتيكان فوقه شرعية كنسية عالمية، لا تريح مسيحيي لبنان فحسب، إنما مسيحيي الشرق كلهم أيضاً.
وفيما يُتَهم الرئيس عون والمحيطون به بأداء دور في تأليب موقف الفاتيكان الإيجابي تجاه حزب الله، يؤكد مصدر كنسي شارك ضمن مجموعة محددة في لقاء بين عون والبابا فرنسيس لـ”الميادين”، أنَّ الأخير هو من افتتح الحديث عن حزب الله، معتبراً أنه مكوّن لبناني، ويمثل شريحة واسعة من اللبنانيين ويجب الحوار معه، وليس الصدام، ليرد الرئيس عون مؤكداً موقفه الذي لا يحمل أيَّ جديد بأن حزب الله فريق لبناني لديه شعبية واسعة، وأنه أدى دوراً مهماً في مقاومة “إسرائيل” وتحرير أراضٍ لبنانية، وأن التفاهم معه عزز السلم الأهلي وساهم في حماية لبنان من الإرهاب، وأيضاً المسيحيين.
وثمة معلومات تتحدّث عن تواصل بدأ بين حزب الله والسفارة البابوية في لبنان، وأن لقاءين حصلا بالفعل، إلا أنَّ الطرفين لم يؤكّدا هذه المعلومات، ولم ينفياها.
وأمام مسيحيّ ينشد الحياد إلى حدود الانعزال عن مجريات ما يحدث من تطورات في المنطقة، ويعتبره خلاصاً وحماية صلبة للمسيحيين، وآخر يدعو إلى الانفتاح وعدم الغياب عما يُطبخ من خرائط وتسويات، كأساس لديمومة وجوده ودوره في هذا الشرق، كي لا تأتي التسويات على حسابه، تأخذني الذاكرة إلى جلسة مع إحدى الشخصيات المسيحية التي كانت السباقة في محاولة كسر حلقة الانعزال عند المسيحيين على مدى 15 عاماً من الحرب، بمقاربته تاريخ الموارنة في لبنان، بالقول: “غريب أنّ بعضهم ما زال يتباهى بتحصن أجدادهم في المغاور وبأبواب أديرتهم ذات السقوف المنخفضة في الجبال والوديان، خلال تصديهم لغزاتهم، وهم بدورهم مستعدون لتكرار أي تجارب مماثلة، في حين أن آخرين يرون أن الحماية والحفاظ على الوجود لا يكون إلا بالأبواب العالية والانفتاح والحوار والانخراط في الأنشطة الأوسع والأكثر مدى وحيوية…”.
لنخلص إلى الأمل بأن لا تضيق في أذهان البعض أبواب المغاور والأديرة، وأن لا تنخفض سقوفها، وأن يخرجوا إلى الرحاب الأوسع، حيث تحيا رئة المسيحيين وتتجدّد حيويتها بنقاء وسلام دائمين بعيدين عن أيّ علة.