حزب الله والسياسة الداخلية: نقض فرضية «فائض القوة»
صحيفة الأخبار اللبنانية ـ
حسام مطر:
يواجه حزب الله أسئلة ومعضلات متزايدة بخصوص سياسته ومشروعه الداخلي، وذلك من ضفتي مؤيديه وخصومه. على ضفة المؤيدين تتنوع الاعتراضات من المطالبة بالعنف بوجه «عملاء الداخل»، إلى إصلاح، بل وتغيير النظام السياسي الفاسد. وعلى ضفة الخصوم اتهامات باستثمار قوته في الساحة اللبنانية والهيمنة على مشروع الدولة «المنشود». كِلتا المقاربتين تلتقي على النظر إلى حزب الله من خلال قوّته العسكرية الهائلة، التي تمكنت من قلب موازين القوى في المنطقة من باب الصراع مع إسرائيل. ما يزيد من الالتباس لدى الطرفين هو الانخراط الدائم للحزب على المستويين الخطابي والعملي، في مبارزة قوة وردع مع إسرائيل كجزء من المعركة المفتوحة بين الطرفين، وذلك رغم سعي الحزب إلى إبعاد وصمة «القوة» أو «فائض القوة» في الشأن الداخلي، إما من باب الردّ على اتهامات مؤيديه «بالتقصير»، أو على اتهامات خصومه «بالهيمنة».
الإشكالية الأساسية الواجب معالجتها هي في السؤال التالي: هل تصحّ مقارنة قوة حزب الله كحركة مقاومة بوجه إسرائيل بقوته كحركة سياسية في الداخل اللبناني؟ أي هل يمتلك حزب الله فعلاً «فائض» قوة في الساحة الداخلية، أم أنّه حالما ينتقل إلى الداخل تصبح «قوته» نسبية ومتقلبة ومقيّدة على نحو كبير؟
يحاجج جوزيف ناي (المتخصص في دراسة القوة) بأنّه لا يكفي السؤال هل (أ) هو طرف قوي؟ إذ إنّه لا يمكن القول إنّ (أ) قوي، من دون تحديد «قوي» لفعل ماذا؟ أي يجب أولاً تحديد مجال القوة وحقل القوة، وكلاهما يحدد «محتوى القوة أو مضمونها»، لأنه قد يكون (أ) قوياً بمضمون محدد، لكنه ليس كذلك في مضمون آخر. فرجل الدين مثلاً قوي في مجتمع ديني، لكنه ليس قوياً في مجتمع علماني. فالقول إنّ حزب الله قوي بوجه إسرائيل (مجال القوة) في صراعه العسكري ــــ الأمني معها (حقل القوة) لا يعني بتاتاً أن الحزب يمتلك ذات القوة بوجه خصومه السياسيين في الداخل اللبناني، أو خصومه العرب في المنطقة، لأنّ «المحتوى» الذي تقاس به القوة قد تغيّر بالكامل.
الواقع الداخلي مسكون بمروحة واسعة من القيود على قوة حزب الله، وهي قيود «بنيوية» و«غير مباشرة» أو ما يُعرف أيضاً «بالقوة الاجتماعية»، مثل الانقسامات الاجتماعية ـــ السياسية على الصعيد المذهبي والطائفي، تحالفات النخبة الفاسدة، والتوافقات غير الرسمية بين النخبة، والأعراف والتقاليد ورواسب التاريخ، إضافة إلى قيود رسمية مباشرة لها علاقة بالميثاق والطائف والدستور، ثمّ شبكة المصالح الدولية ـــ الإقليمية في لبنان. مثال ربما يوضح الصورة، الحزب الذي أخرج إسرائيل من لبنان لم يستطع إخراج فؤاد السنيورة من القصر الحكومي، بعض ما احتاج إليه السنيورة هو صلاة جماعة بإمامة المفتي محمد قباني في السرايا.
يرفض ناي تحديد درجة القوة بالاستناد الى الموارد المتوافرة لدى (أ) لأنّ القوة مرتبطة بالقدرة على تحقيق نتائج مفضلة، وإن كانت الموارد شرطاً ضرورياً لتحقيق النتائج المفضلة إلّا أنّها ليست شرطاً كافياً، إذاً لا بد من النظر إلى المحتوى الذي تدور فيه علاقة القوة والاستراتيجية المستخدمة كوسيط بين الموارد والنتائج. لذا يُفضّل ناي مقاربة القوة من جهة تحقيق النتائج المفضلة، ويسميها المقاربة «السلوكية» أو «العلاقتية». هنا ينتقل النقاش حول موارد قوة الحزب في اللعبة السياسية وفعالية الاستراتيجية التي يتبعها لتحويل الموارد إلى قوة.
من المؤكد أنّ لقوة الحزب العسكرية تأثيراً في الواقع الداخلي وإن بصورة غير مباشرة غالباً، مثلاً قوته تلك تجذب المعجبين والأنصار وتعبّئ جمهوره، هنا تصبح القوة الصلبة للحزب أحد مصادر قوته الناعمة، كما من شأن قوته العسكرية أن تضع خطوطاً حمراء بوجه الخصوم المحليين للحزب المنخرطين ـــ في أغلبهم ـــ بالكامل في المشروع الأميركي لضرب المقاومة، أي إنّ هذه القوة هي قيد على خيارات الآخرين المتطرفة سياسياً وحتى ميدانياً بوجه الحزب.
إلّا أنّه في المقابل تظهر القوة العسكرية للحزب كإحدى نقاط ضعفه الداخلية، ولا سيّما أنّ خصومه نجحوا بنقلها إلى السجال الداخلي، وخاصة بعد 7 أيار الشهير. استخدمت قوى 14 آذار قوة الحزب العسكرية، كأداة للتعبئة السياسية والشعبية، مصدراً «لشيطنته» والترهيب منه، وحتى لتحميله مسؤوليات الأعمال الأمنية والإرهابية التي تضرب بين الحين والآخر. كلّ ذلك رغم إدراك خصومه أنّ الحزب غير قادر على صرف قوته العسكرية في الداخل إلا بحدود دنيا، ولتثبيت الستاتيكو لا لتغييره وبتكاليف عالية كما في 7 أيار. ميزة 7 أيار أنّه حدث «فريد» أو «استثنائي»، لأنّه ـــ على عكس ما يعتقد كثيرون ـــ يكون حزب الله أقوى كلما تدنت حاجته إلى استعمال العنف، لأنّ القوة تفقد جزءاً من سلطتها مع تكرار الاستعمال. ميزة السابع من أيار أنّه لا يزال حاضراً في الأذهان والحسابات حتى بعد 5 سنوات من وقوعه، ففي المرة الأخيرة لم يحتج الحزب إلى أكثر من «عرض أزياء» (ما يُعرف بواقعة القمصان السود).
وبما أنّ مقاربة القوة تجري من ناحية تحقيق «النتائج المفضلة» تصبح فعالية ممارسة القوة مرتبطة بالطريقة التي يفكر بها المستهدف. ربما يسعى المستهدف «إلى الاستشهاد» كي يعبّئ الرأي العام بوجه الفاعل، عندها يصبح قتل المستهدف فعلاً لا ينمّ عن القوة، وخاصّة إن كانت النتائج المرجوة هي «إخضاع المستهدف». هل يريد بعض الأطراف الداخليين من حزب الله أن يمارس العنف المسلح بوجههم؟ على الأقلّ بعضهم يريد ذلك من باب استدراج موضوع السلاح إلى عمق الوحول الداخلية، وخلق وعي متزايد ضمن بيئة اجتماعية محددة نحو هوية الحزب بكونه ميليشيا مذهبية.
من ناحية أخرى، ذكرنا أنّ تحويل الموارد إلى قوة يستند أيضاً إلى فعالية الاستراتيجية المعتمدة لهذا التحويل، وهذه الفعالية مرتبطة ارتباطاً رئيسياً بهوية الفاعل وذكائه وخبرته السياسية. في الداخل يصبح الحزب محدود القوة بفعل عامل الهوية لكونه يُخضع أجندته السياسية الداخلية لأولوية المقاومة (هويته الأم ـــ الهوية المهيمنة)، لذا يميل إلى التسويات الداخلية وتكريس «الستاتيكو» إلا متى تعرضت «مقاومته» لخطر جوهري مباشر. فالحزب ليس مستعداً لتحصيل مكاسب سياسية داخلية متى استلزم ذلك أعباء على حساب «مقاومته»، بل العكس تماماً. وبما أنّ الحزب يرى أنّ النظام اللبناني بتركيبته الطائفية والتاريخية غير قابل للتغيير بفعل نظام تشابك المصالح المتعدّد الطبقات الذي يحميه، أو بالحدّ الأدنى أنّ كلفة تغييره عالية جداً تتجاوز قدرة الحزب على تحملها، فإنّه إما ينكفئ داخلياً أو ينخرط في خطوات إصلاحية محدودة بقدر ما يتحصل إجماع وطني عليها، إضافة إلى أنّ الدور السياسي للحزب في الداخل مقيّد بهويته كحزب شيعي على عكس الحال عندما يبرز كحركة مقاومة.
أما من ناحية ذكاء الفاعل وخبرته في بناء الاستراتيجية، فمن الواضح أنّ الحزب ـــ المقاومة متمرس ببناء الاستراتيجيات العسكرية إلى مستوى تحوله إلى مدرسة، فيما يعاني كحزب سياسي قصوراً في بناء استراتيجية داخلية، بل قد يذهب البعض إلى نفي وجود استراتيجية مماثلة أساساً. لم يسعَ الحزب تاريخياً إلى استراتيجية كهذه إلّا منذ عام 2005 (بحكم الضرورة بعد الانسحاب السوري)، وبخطوات تدريجية متصاعدة نتيجة الضغوط السياسية على الحزب، التي بلغت ذروتها مع حكومة نجيب ميقاتي، التي دفعت الحزب إلى واجهة السلطة التنفيذية، حتى لو لم يرد ذلك. يحتاج الحزب ـــ كأيّ فاعل سياسي ـــ إلى تعميق خبرته في العمل السياسي، وإلى تطوير آليات التنسيق وصناعة القرار في السياسة الداخلية، وإلى تحديث مؤسساته المعنية بهذا الشأن، وإلى التعلم من الأخطاء كما في خسارة الانتخابات النيابية الأخيرة، أو نقص التنسيق بين الحلفاء في الحكومة. يبدو الحزب مدركاً هذه النقائص، ويخوض محاولات دائمة لتجاوزها، إضافة إلى اقتناعه أساساً بحدود قوته الداخلية، لكن ذلك لا يحجب حق قاعدته الشعبية في المساءلة والنقاش، وفي مطالبته بتوسيع هامش حركته الداخلية وجعلها أكثر مرونة.
في الخلاصة، فكرتان مفيدتان ربما لسياسة الحزب الداخلية، الأولى لسمير أمين، حيث يدعو في كتابه «الفيروس الليبرالي: الحرب الدائمة وأمركة العالم» قوى المقاومة إلى بناء سياسة للمواطنين (سياسة اجتماعية في المقام الأول) من خلال التخلص من آثار «الفيروس الليبرالي» أي آثار الرأسمالية المعولمة بقيادة الولايات المتحدة، التي تضرب أسس المجتمعات وتستتبعها لمبدأ التراكم الرأسمالي، الذي جوهره الإفقار. الفكرة الثانية هي مقولة نيتشيه: «على من يحارب الوحوش أن يحاذر كي لا يصبح مثلها»، ولا سيّما متى كان الوحش على شاكلة النظام السياسي اللبناني.
* كاتب لبناني