حرب المفاهيم وحتمية المواجهة
موقع العهد الإخباري-
إيهاب شوقي:
لم تعد الأحداث غير المسبوقة تشكل صدمات جماهيرية، فحدث كالذي شهده كنيس “تلمود التوراة” في العاصمة المغربية الرباط، والمتمثل في تنظيم صلاة يهودية بحضور وزير الحرب الإسرائيلي بيني غانتس وجنود إسرائيليين للدعاء من أجل الجيش الإسرائيلي، كان خطوة وصفتها صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” بأنها “حدث نادر”، وهو أن تسمع صلاة من أجل رفاهية جنود الجيش الإسرائيلي في بلد عربي، بينما كان وقع الخبر ضعيفا وربما لم تعلم به قطاعات عربية!
بالطبع لا تخلو عاصمة عربية من الشرفاء كالذين تظاهروا في الاردن ضد التطبيع أو الذين تم قمعهم في المغرب لرفضهم الزيارة المشينة، ولكن هذه الأمور تشي بحالة عامة مقلقة، نراها نتاجًا لسياسات مرحلة كاملة من المتغيرات الإقليمية والدولية وانعكاساتها على أمتنا، والتي نرى أنها تتطلب تدخلًا عاجلًا، لأن المسار الراهن قد يقود للانسحاق وفقدان القضايا المركزية لزخمها وضياع الحقوق والانجرار لمزيد من التفكك والتدهور.
ولعل أهم ما يمكن رصده هو تغير المفاهيم، والتي بدورها أدت إلى حالة من التمييع للقضايا والاستسلام لمخططات العدو وأجندته. ويمكن في هذا السياق رصد ما يلي:
1- مع تنامي الثقافة الاستهلاكية بفعل فاعل رأسمالي، تحول الكثير من المفاهيم الإنسانية والقيم إلى سلع استهلاكية هي الأخرى، وهو ما ولد حالة من حالات الفتور الشعبي تجاه قضايا الكرامة والمقاومة، حيث تم ضخ مفاهيم بديلة عنوانها الرفاهية والدعة والمكسب السريع، ناهيك عن حصار المتمسكين بالمقاومة ومعسكرها، مما خلق نموذجا فقيرا متقشفا في مواجهة معسكر غني ممول، وهو ما شكل اغراء لأجيال جديدة نمت في ظل هذا المناخ التصقت لديها المقاومة بالفقر والمهادنة والعمالة بالرفاه.
2- تم اللعب بورقة الدين بشكل مناقض لقدسيته وجوهره، وتم استغلال الوجدان الفطري الديني للشعوب أسوأ استغلال، مما ولد ردة فعل شعبية تميل لأطروحات إلحادية وتلصق الدين بالتخلف وتلصق الإلحاد بالتحرر والتطور، وقد استخدمت الديانات جميعها ذات التجارة، وهو ما خلق فجوة بين تيارات دينية حقيقية تمارس جوهر الدين المقاوم والتقدمي وبين قطاعات من الشعوب خلطت بين تجار الدين وبين العاملين حقًا بجوهره.
3- مع صعود ثقافة العولمة، تراجعت الأيديولوجيات، وهو ما أدى بدوره إلى تراجع الفكر والثقافة لصالح الدعاية، وأصبح من السهل التجرؤ على التزييف للوقائع وللتاريخ، بل وتزييف الواقع عبر انفلات اعلامي واخلاقي غير مسبوق، وهو ما أدى إلى حالة من انفصال الوعي الجمعي عن الأمن القومي، وحالة من حالات تشوه الهوية والوجدان.
هذه التغيرات أدت إلى مظاهر جديدة، بدت كمفاجآت صادمة، رغم أنها نتاج طبيعي لهذه التغيرات، ويمكن أن نرصد منها على سبيل المثال ما يلي:
أولا: أصبح التطبيع أكثر فجاجة ووقاحة ولم يعد يتذرع بالذرائع التقليدية الواهية التي تدعي أنه في صالح الشعب الفلسطيني، أو حتى ذرائع السلام المزعوم، بل أصبح خيارا ذاتيا منفصلا عن التنسيق أو المصالح الجمعية، وأصبح معلنا أنه لصالح الدولة التي تقوم به ومن قبيل الشؤون الداخلية التي لا يحق لأحد التدخل بها.
وهذا من تداعيات انهيار العمل الوحدوي وغياب القيادة العربية الشريفة والتحررية من جهة، وغياب الجماهير ورأيها العام الوازن في معادلات اتخاذ القرار.
ثانيا: أصبح من المعتاد التنقل بين المحاور والمعسكرات، دون خجل أو حاجة لمبررات، فدولة كالإمارات نجدها تارة في معسكر سعودي مضاد لقطر وتركيا، ثم تتنقل للاقتراب والتنسيق مع تركيا ونراها تحاول التقارب مع سوريا وايران، في ذات التوقيت الذي تعمق فيه من خطواتها التطبيعية مع العدو.
وهذا نتاج لانتشار الصراعات غير المبدئية، ولا تخلو من استخفاف بالجماهير والشعوب.
ثالثا: انتشرت ظاهرة التحول لشخصيات طالما كانت متمسكة بالثوابت والقيم، ثم فاجأت محبيها ومتابعيها بانقلابات وتحولات، وهو ما يشي بأن معظم هؤلاء انحازوا للقيم بل وسبحوا ضد التيار ربما لأغراض خاصة أو رياء للناس أو للشهرة، ومع افتقاد الزخم الجماهيري للقضايا بدأوا في الانصراف وربما للجهة المضادة للفت الأنظار، وربما ومع طول الطريق والركون للدعة والرفاهية والابتعاد شيئا فشيئا عن المستضعفين وهمومهم وعن الثوابت واعبائها تحولوا تدريجيا دون أن يشعروا للتوحد مع الظالم والفاسد.
واليوم ونحن على أعتاب تحولات كبرى بسبب التغير الهائل في موازين القوى بفضل إرادة وصمود محور المقاومة ودول أخرى رفضت الانصياع للهيمنة والتسليم بالقطبية الواحدة، نرى أننا بحاجة ماسة وعاجلة لضبط المفاهيم.
وأول المفاهيم المطلوب التظضافر في ضبطها، هي مفاهيم وحدة المصير والثقة بالذات المنتجة للفكر والثقافة والمبادرة لخلق واقع مستقل دون النزوع نحو التلقي واستهلاك كل ما يملى علينا.
ولا بد من إعادة الانضباط والتصحيح للمغالطات التاريخية وكشف مواطن التلاعب بالدين وتفنيدها، وإعادة الاعتبار لمفهوم الهوية والانتماء.
في التاريخ مئات الملايين من الشعارات والتصريحات والتهديدات الإمبراطورية مفادها (لن نسمح) و(لن نمرر) ومليارات من الخطوط الحمر التي حاولت الامبراطوريات ارهاب خصومها بها.
إلا أن الإرادة وحدها هي التي صنعت الأحداث، وشكلت التاريخ عبر الاستجابة للتحديات وليس عبر التهديدات، فعندما كانت الاستجابة هي الاستسلام، صعدت الامبراطوريات وانتشرت الهيمنة، وعندما كانت المقاومة هي الاستجابة، سقطت أعتى الإمبراطوريات وتم دفنها هي وشعاراتها وخطوطها الحمر.