حان الوقت أيضاً للملمة الأوراق العربية المبعثرة
موقع قناة الميادين-
حسن نافعة:
بات ملحاً سعي الأنظمة الحاكمة في العالم العربي بجدية للملمة أوراقها المبعثرة قبل التوجّه إلى مؤتمر القمة المقبل. ولكي تتمكَّن من ذلك، عليها أن تعيد تقييم سياساتها.
يمر العالم العربي حالياً بفترة بالغة الحساسية، ربما تكون أخطر مرحلة في تاريخه المعاصر، فهو لم يتعافَ بعد من النتائج والتداعيات التي خلّفتها سنوات جمر طويلة عاشها إبان “ثورات الربيع العربي” وما أعقبها من سنوات عجاف.
ولأنَّ النظامين الإقليمي والعالمي يمران في الوقت نفسه بمرحلة انتقالية، يتوقّع أن تعقبها تغييرات مهمة في بنية القوى العالمية والإقليمية وموازينها، فلن يكون بمقدور العالم العربي، وخصوصاً إذا استمرت أوضاعه وسياساته على ما هي عليه، أن يتعامل مع تلك المتغيرات بطريقة مثمرة.
وما لم يعثر على صيغة تمكّنه من التعامل بجدية مع مشكلات الداخل من ناحية، ومواجهة تحديات الخارج من ناحية أخرى، فقد لا يستطيع المحافظة لفترة طويلة قادمة على ما تبقى له من إمكانيات وقدرات، وربما يخرج كلياً من التاريخ (إذا جاز استخدام هذا التعبير القاسي الذي شاع ترديده في الآونة الأخيرة).
لذا، بات ملحاً أن تسعى الأنظمة الحاكمة في العالم العربي بجدّية لملمة أوراقها المبعثرة قبل التوجّه إلى مؤتمر القمة المقبل. ولكي تتمكَّن من إنجاز مهمة على هذا القدر من الصعوبة، عليها أن تعيد تقييم سياساتها، وأن تستخلص منها دروساً تعينها، ليس على التخلص من أخطاء الماضي فحسب، إنما على بلورة رؤية عربية جديدة وبرنامج عمل أيضاً، لتفعيل العمل العربي المشترك الذي أصبح في حالة موت سريري.
وإذا نجحت قمة الجزائر في بلورة مثل هذه الرؤية، وخصوصاً إذا كانت مشمولة ببرنامج زمني لوضعها موضع التنفيذ، فستشكّل نقطة انطلاق جديدة للنظام الإقليمي العربي ككل.
الرؤية الجديدة المطلوبة تعكس اقتناع كلّ زعيم عربي بأنه لن يكون بمقدور أي دولة عربية بمفردها، مهما كانت قدراتها وإمكانياتها الذاتية، أن تعتمد في تحقيق أهدافها في أيّ مجال من المجالات على هذه القدرات والإمكانيات وحدها، ومن ثم فهي بحاجة ماسة إلى عمل عربي مشترك يسمح بتحقيق أقصى استفادة ممكنة من المزايا النسبية التي تتمتع بها كل دولة عربية على حدة.
إن الدول العربية التي تمتلك ثروات وموارد طبيعية وفيرة قد لا تتوافر لديها بالضرورة ما تحتاجه من خبرات فنية ومن موارد بشرية لازمة للاستغلال المثالي لهذه الثروات والموارد، والدول التي تمتلك موارد بشرية وخبرات فنية عالية التأهيل، قد لا تتوافر لديها بالضرورة رؤوس أموال وموارد طبيعية تمكّنها من الاستغلال الأمثل لما تتمتع به من مزايا نسبية.
لذا، تحتاج الدول العربية مجتمعة إلى مشروعات مشتركة تقام على أساس تبادل المصالح والمنافع، ما سيمكّن كلّ دولة عربية على حدة، وكذلك النظام الإقليمي العربي ككل، من تحقيق أقصى منفعة ممكنة في مختلف المجالات.
ولأنَّ وجود نظام عربي قوي يتيح لكل دولة عربية على حدة أن تصبح في موقف أفضل لمواجهة التحديات الخارجية، فيفترض أن تؤدي الجهود الرامية إلى تقوية العمل العربي المشترك إلى خلق عملية تفاعلية دائرية تصبّ في مصلحة الدول والنظام الإقليمي العربي في الوقت نفسه.
والمطلوب أيضاً برنامج عمل تفصيلي لوضع هذه الرؤية العامة موضع التنفيذ، يتضمن مجموعة من المحاور نقترح أن تكون على النحو الآتي:
أولاً: عقد اجتماعي جديد بين الحكام والمحكومين؛ فقد أظهرت “ثورات الربيع العربي” أنّ المشكلة الكبرى التي تعانيها الشعوب العربية من دون استثناء، تتمثّل بخضوعها لأنظمة حكم تتّسم بالفساد والاستبداد، ومن ثم لن تقوم لها قائمة أو يكون بمقدورها التطلع إلى غد أفضل إلا إذا قادتها أنظمة حكم أقل فساداً واستبداداً وأكثر ديمقراطية.
صحيح أنَّ القوى المناهضة للتغيير في الداخل، بالتحالف مع القوى المناهضة للتغيير في الخارج، وخصوصاً في دول الخليج العربية، استطاعت إجهاض هذه الثورات وإعادة إنتاج أنظمة شبيهة بالأنظمة القديمة أو أشدّ منها فساداً واستبداداً، غير أنَّ اندلاع موجة ثانية من الانتفاضات العربية، وخصوصاً في السودان والجزائر ولبنان والعراق، أكّد بما لا يدع مجالاً للشكّ أن أشواق التغيير لم تضعف لدى الشعوب العربية، وأن الانتفاضات الشعبية ستطاول الجميع، عاجلاً أو آجلاً، بما فيها دول الخليج العربية، وخصوصاً إذا استمرت الأوضاع فيها على ما هي عليه، ومن ثم تبدو الحاجة ماسة إلى عقد اجتماعي جديد ينظم العلاقة بين الحكام والمحكومين، ويفتح الطريق أمام تجديد دماء النخب الحاكمة في كل الدول العربية.
ثانياً: إطفاء الحرائق المشتعلة وتسوية الأزمات المحتدمة في العالم العربي؛ فهناك حرب دولية إقليمية تدور رحاها في الأرض السورية، وحرب عربية تدور رحاها في الأرض اليمنية، وحرب أهلية تدور رحاها في الأرض الليبية، وما زالت أزمة الصحراء الغربية تسمّم العلاقة بين المغرب والجزائر، رغم مرور ما يقارب 50 عاماً على اندلاعها، وتهدد بإشعال فتيل الحرب بينهما في أي لحظة.
وعلى جميع الدول العربية أن تدرك أن الحرائق المشتعلة في بعضها، والأزمات المحتدمة في بعضها الآخر، تستنزف الجميع وتضعفهم، وأن طريق التعافي يبدأ بالعمل على إطفاء كل الحرائق وتسوية كل الأزمات.
ولأنه لا توجد مشكلة في العالم غير قابلة للحل، فمن المؤكّد أنه يمكن بلورة حلول فنية لكلّ المشكلات العربية، بما فيها أعقدها وأطولها زمنياً، شرط توفر حسن النية والاقتناع بأن استمرار الأزمات العربية لا يحقق مصلحة لأي دولة عربية، إنما يلحق الضرر بالجميع.
ثالثاً: إعادة الاعتبار إلى القضية الفلسطينية والتعامل معها باعتبارها قضية قومية تشكل مفتاح الأمن والسلام والاستقرار في المنطقة ككلّ؛ فقد ثبت بما لا يدع أي مجال للشك أن السياسات العربية المستخدمة حتى الآن للتوصل إلى تسوية سلمية للصراع مع “إسرائيل” فشلت، وأن المنطقة لن تنعم بأيِّ قدر من الأمن إلا إذا تم حل القضية الفلسطينية.
ليس مطلوباً من الدول العربية، وخصوصاً تلك التي أبرمت معاهدات قديمة أو حديثة لتطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، أن تبدأ دورة جديدة من الصراعات المسلحة والحروب، إنما يمكن الاكتفاء بتجميد التطبيع وربطه بالتقدم المتحقق على طريق تسوية القضية الفلسطينية، إما بعمل جاد لإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية على حدود 67، مع السماح لكلّ فلسطينيي المنفى بالعودة، وإما قبول “إسرائيل” بدولة موحّدة ثنائية القومية تُزال فيها كلّ مظاهر التفرقة العنصرية، ويتمتع فيها الفلسطينيون جميعاً بحقوق متساوية تماماً مع اليهود، مع جعل هذه الدولة الموحّدة مفتوحة لعودة من يشاء من الفلسطينيين.
وإلى أن تتحقّق مثل هذه التسوية، على الدول العربية جميعها من دون استثناء أن تفعل كل ما بوسعها لتحقيق المصالحة بين الفصائل الفلسطينية والاعتراف للشعب الفلسطيني بحقه في مقاومة الاحتلال الصهيوني بكل الوسائل المشروعة، بما فيها الكفاح المسلح.
رابعاً: طرح مشروع عربي للتكامل التدريجي يكون قابلاً للتطور والاستمرار؛ فقد ثبت بالدليل القاطع أنَّ صيغة جامعة الدول العربية لم تعد تلائم العمل العربي المشترك في عالمنا المعاصر، وأن الحاجة باتت ماسة لصيغة مبتكرة وخلاقة.
ليس معنى ذلك أنَّني أطالب بحلّ الجامعة العربية أو هدمها، فوجودها أفضل من عدمه على كلّ حال، ولو اكتفت بدور “خيال المآتة”، ولكنّ المطلوب هو آلية جديدة إلى جانبها تقود التكامل العربي، على نمط “الجماعة الأوروبية للفحم والصلب” التي شكلت قاطرة التكامل الأوروبي.
تخيَّل معي كيف يمكن أن تكون حال العالم العربي لو قرر إقامة “المجموعة العربية للدول المنتجة للنفط والغاز”، على سبيل المثال، وقام بتزويدها بأجهزة وفروع تتمتع بصلاحيات وسلطات عليا، وبآليات لاتخاذ القرارات تعكس أوزان الدول المشاركة فيها، وذلك على نمط السلطات والصلاحيات التي تمتّعت بها “المجموعة الأوروبية للفحم والصلب”. ألا يمكن لهذه المجموعة أن تشكل قاطرة للتكامل العربي، وتصل به إلى شكل “للاتحاد العربي” المأمول، على نمط “الاتحاد الأوروبي” حالياً، ولو بعد نصف قرن من الآن؟
لا أدّعي أن نقل تجربة التكامل الأوروبي إلى الواقع العربي مسألة ممكنة أو حتى مطلوبة، ولكني أعتقد أن المنهج الذي صاغه جون مونيه لإطلاق علمية فعالة لتحقيق التكامل بين دول كانت في حالة حرب مستمرة، وهي الدول الأوروبية، يمكن أن يكون ملهماً ومفيداً لتحقيق التكامل بين دول تدّعي أن شعوبها تنتمي إلى أمة عربية موحدة. المهم أن يطبق هذا المنهج بطريقة تأخذ في اعتبارها خصوصية العالم العربي وتاريخه.
ليس من الواضح بعد ما إذا كانت قمة الجزائر ستُعقد في موعدها المقرر في تشرين الثاني/نوفمبر القادم، وما إذا كان قادة كل الدول العربية سيشاركون فيها، بما فيها سوريا والمغرب، لكن الشعوب العربية ليست بحاجة إلى قمة يشكل مجرد انعقادها نجاحاً لجامعة دول عربية تبدو في حالة موت سريري، ولكنها تتطلع إلى قمة تشكّل انطلاقة جديدة للعمل العربي المشترك، فهل تستطيع الدبلوماسية الجزائرية، بما للجزائر من رصيد نضالي هائل لدى الشعوب العربية، أن تقوم بما هو مطلوب منها في الفترة المتبقية لانعقاد القمة القادمة، لضمان أن تأتي على مستوى طموح شعوب تكاد تختنق من فرط اليأس؟