جردة حساب لانحدار زعامة أوباما.. هل يشهد 2014 سقوطاً إلى الحضيض؟!
إستناداً الى سجل الرئاسة الأميركية منذ بداياتها فإن فترة الولاية الرئاسية الثانية أثبتت أنها الأشدّ تحدياً ومشبعة بالعقبات.
سطع وهج الإرث السياسي للرئيس اوباما العام الماضي مدشنا فترة مشرقة ارفقها بوعود بهية: اذ اعيد انتخابه لولاية رئاسية ثانية؛ وسجل حزبه الديموقراطي بعض التقدم السياسي في انتخابات الكونغرس؛ وشرع في ارساء الاسس لاعادة انتاج الولايات المتحدة بحلة اكثر قابلية عقب ما واجه هيمنتها من معارضة ورفض دوليين؛ بل ذهب بعض انصاره في الكونغرس بعيدا نحو بلورة صياغة مادة لتعديل الدستور تتيح له الترشح للمنصب لفترة رئاسية ثالثة.
باقتراب العام الحالي من نهايته وجد اوباما نفسه في موقع ملاصق لنقطة الحضيض القمري في سياق مستقبل وفعالية حكومته وادارته، لاسيما درة سياساته “برنامج الرعاية الصحية الشامل؛” وهبوط سريع ملحوظ لمدى شعبيته وصلت معدلات ادنى من سلفه جورج بوش، لذات الفترة الزمنية من الولاية الرئاسية. برامجه الوردية التي اعلن عنها عشية بدء ولايته، في رسالته عن حال الأمة، بقيت حبيسة الادراج: سياسة تطوير البرامج التربوية، اصلاح قوانين الهجرة، الحد من استشراء وتقنين السلاح الفردي، سن قوانين للحد من معدلات الاحتباس الحراري، برامج لتشغيل اليد العاملة، تطوير البنى التحتية، اصلاح القوانين الضرائبية، ورفع معدل الحد الادنى من الأجور.
إستناداً الى سجل الرئاسة الاميركية منذ بداياتها فان فترة الولاية الرئاسية الثانية اثبتت انها الاشد تحديا ومشبعة بالعقبات. اذ عادة ما تضيق القاعدة الانتخابية ذرعا بذات الوعود والسياسات للحزب الحاكم، وتطلق على الرئاسة وصف “البطة العرجاء” في زمن مبكر، للدلالة على عدم اكتراثها بانجاز برامجها اذ اصبحت لا تتهيب من محاسبتها في الانتخابات المقبلة، في حين يمضي قادة الحزب الحاكم في البحث عن شخصيات قيادية مؤهلة لتولي المسؤولية في المرحلة المنظورة. في حال الرئيس اوباما، معظم الضرر الذي اصاب سياساته وشخصه كان بفعل ذاتي، وان كان لا اراديا.
من بين العقبات برزت مبالغته في حجم التأييد والتفويض الشعبي الذي حصل عليه للمضي في تطبيق سياساته: نسبة فوزه في الانتخابات الرئاسية تقلصت الى ما دون ما فاز به في فترة ولايته الرئاسية الاولى – الأمر الذي يعد استثنائيا لسجل معظم الرؤساء الفائزين بولاية ثانية. ترجمة النتائج تلك تشير الى اقلاع بعض القوى الاجتماعية الموالية عن تأييده مقارنة بما فعلت في الفترة الاولى، واضحت اقل قابلية للتماهي مع سياساته، كما يشهد اخفاقه بتحقيق وعده باغلاق معتقل غوانتانامو، مثلا.
تقلص قاعدة الدعم الانتخابية بدت مؤشراتها تتبلور قبل احتفالات التنصيب الرئاسية الثانية، فاقمتها مبكرا مجزرة المدرسة الابتدائية، ساندي هوك، بولاية كونيكتكت مع افول عام 2012، كمؤشر على اخفاق سياسته للحد من انتشار السلاح الفردي وتقنينه. اذ سرعان ما اكتشف الرئيس اوباما حقيقة المزاج الشعبي بأن فوزه الانتخابي لم يسهم في تعديل تطلعات الشعب الاميركي حيال مسألة السلاح امام نفوذ القوى والمصالح على الضفة المقابلة. بل حافظ بعض الساسة من الحزب الديموقراطي على نزعة الانتهازية بالقفز من مركب الرئيس واتخاذ مسافة بعيدة عنه مع بداية ولايته الثانية مما اعطى الخصوم في الحزب الجمهوري رصيدا صافيا وتوجيه رسالة الى نظرائهم في الحزب الديموقراطي بأن البقاء في مركب الرئيس اوباما له كلفته السياسية وعليهم التفكير باللحاق مبكرا او مواجهة الخسارة في الانتخابات النصفية المقبلة، لعام 2014.
ما المطلوب؟
أمام هذه المؤشرات المبكرة، ماذا يتعين على الرئيس فعله؟ استقراء توجهات بعض الساسة مثل الرئيس الاسبق بيل كلينتون تشير الى انه كان سيقدم على تعديل مواقفه والتحرك باتجاه اليمين الوسط ، في حين ان الرئيس اوباما استهلك رصيدا ثمينا من ارثه الرئاسي للدفع ببرامجه السياسية داخل اروقة الكونغرس، مع ادراكه التام بأن خصومه الجمهوريين لن يألوا جهدا لافشال توجهاته وتوجس بعض اركان حزبه الديموقراطي من تبديد طاقاتهم السياسية بينما اعينهم مسلطة على الانتخابات المقبلة. فاصلاح قوانين الهجرة، على سبيل المثال، لاقى شعبية واسعة في القاعدة الانتخابية للحزب الديموقراطي، سيما بين الاقليات العرقية، بيد ان النبض الاميركي العام لم يعره اية أهمية وسعى لافشاله قبل انطلاقه.
في الشق المالي وتخصيص بنود الموازنة، اثبت اوباما انه لم يقرأ خارطة التحالفات والمعارضة بشكل دقيق فيما يخص الاستقطاعات التي ستأخذ مفعولها بشكل تلقائي مع بدء العام المالي الجديد. وسعى لتطبيق بعض تجليات تخفيض الميزانية على مرافق البيت الابيض، بتخفيض عدد وحجم دورات الزوار مع تقليص الموارد البشرية المطلوبة لتنفيذ ذلك، والقيام بالمثل في بعض المرافق الحكومية الاخرى (كالمتاحف) معلقا الأمل على ان يؤدي ذلك الاجراء الى تحميل خصومه في الحزب الجمهوري المسؤولية لسيطرتهم على قرار الصرف المالي، في مجلس النواب، واثارة القاعدة الشعبية ضدهم. في النتائج، لم تسعف وجهة الرياح ابحار السفن وسلطت الوسائل الاعلامية الضوء على طلعات الرئيس لممارسة رياضة الغولف واستضافته لفرق موسيقية تحيي احتفالات خاصة بأسرته في البيت الابيض.
الإخفاقات والفضائح
أداء اوباما في السياسة الخارجية لم يختلف نوعيا عما سبق ذكره، وهي الحقل الاوفر حظا بالنسبة له، وادى تعثره في تنفيذ تهديده لشن عدوان عسكري على سورية الى تضعضع مكانته ومصداقية بلاده لدى حلفائه من الدول العربية والاوروبية والبعض في آسيا التي راهنت على ثبات سياسته المعادية لسورية. وجاءت صفقة السلاح الكيميائي لتشكل الصاعق الذي اظهر الكم الهائل للخلافات والتباينات الى السطح، خاصة من دول تابعة وهامشية في سياق الاستراتيجية الاميركية الكبرى.
لاحقت الفضائح السياسية الرئيس اوباما في ولايته الثانية ، وارضيتها نابعة من ممارسته غطرسة القوة والمحافظة على سرية النوايا وكتمان التحركات، والتي لا تشكل شذوذا عن القاعدة العامة لاسلافه من الرؤساء في ولاياتهم الثانية. برزت اولى تجلياتها في استهداف مصلحة الضرائب المركزية للقوى والخصوم السياسيين، خاصة المؤيدة لتيار حزب الشاي، والتي اسهمت بشكل مباشر في انخفاض نسبة فوزه في الانتخابات الرئاسية. وسرعان ما ادت وثائق ادوارد سنودن الى تدحرج كرة الفضائح لتدل بالوثائق على عمق جهود التجسس الاميركية، داخليا والتي كان يتم نفيها على الدوام، وخارجيا ايضا طالت قادة لاهم حلفاء الولايات المتحدة.
الحلقة الاخيرة في مسلسل الفضائح كانت في تعثر اطلاق برنامج الرعاية الصحية الشامل وما رافقه من موجات غضب شعبية غذتها القوى الكبرى المتضررة واخفاق التقنية المعتمدة لاعداد انطلاقة سلسة كما كان يرجى. وهبطت نسبة الدعم الشعبي الى مستويات خطيرة بنحو 38 نقطة جراء ذلك، ليبلغ معدل الرضى الشعبي عن اداء الرئيس اوباما الى 57%؛ اسوة بالنسب المنخفضة التي خبرها المشهد السياسي الاميركي في انتخابات عام 2006 التي اطاحت بسيطرة الحزب الجمهوري عن مجلسي الكونغرس.
إذاً، لا جدال بأن عام 2013 حمل اخبارا وتطورات غير سارة او مريحة للرئيس اوباما وحزبه الديموقراطي. فهل سيتغير المشهد للعام المقبل بنحو دراماتيكي؟ النظرة السريعة لا تبعث على الارتياح، سيما وان التاريخ السياسي للرئاسة الاميركية يدل بشكل جلي على تدهور اكبر في معدلات رضى القاعدة الشعبية في الفترة الرئاسية الثانية.
التطلع إلى عام 2014
لعل التحدي الاكبر الذي يواجه الرئيس اوباما العام المقبل هو الاحساس الشعبي بأنه لا يحسن الاصغاء ويعتبر “اصماً” للمتطلبات السياسية الشعبية. بخلاف الرئيس الاسبق كلينتون الذي تمتع بقدرته على اعادة انتاج مساره وخياراته السياسية، فان الرئيس اوباما يلجأ الى التشبث بمواقف ايديولوجية مسبقة ويجنح نحو الالتزام بها. ويعتقد اصحاب الشأن في السياسة الاميركية ان هذه الخاصية ستعود على الرئيس بالضرر، لا سيما في علاقاته الداخلية مع زعماء حزبه الديموقراطي خاصة اولئك المقبلون على خوض الانتخابات لعام 2014، والأرق الذي يطبع توجهاتهم في المفاضلة بين اثبات الدعم للرئيس او الاقلاع عن برامجه السياسية.
من صلاحيات الرئيس الدستورية حقه في اصدار “اوامر رئاسية” عوضا عن استصدار قرارات معينة من الكونغرس، الامر الذي سيفسح مجال المناورة امام الرئيس اوباما، رغم ما ينطوي عليه من ارتفاع في معدلات الاحباط بين معارضيه تحديدا؛ كما سيوفر ذخيرة هجومية يستغلها خصومه الجمهوريون في الحملة الانتخابية.
مقارنة بهذا المناخ الاجرائي تجدر الاشارة الى ثبات تدهور شعبية الرئيس اوباما في اوساط القاعدة الانتخابية، اذ اشار احد احدث استطلاعات الرأي، معهد كوينبيك، الى تراجع ملحوظ بين الناخبين المستقلين بلغ نحو 62% في اقصاه، و64% بين الذكور، و49% بين الاناث، ونسبة مرتفعة مقلقة بين الناخبين البيض بلغت 65%. بل الاشد قلقا هو تراجع نسب الدعم بين القواعد التقليدية في الجالية اللاتينية (اميركا الجنوبية) الى 43%، والناخبين السود الى 9%.
ينبغي الاخذ بعين الاعتبار مفاصل اللوحة السياسية المذكورة كمقدمة على استشراف نتائج الانتخابات المقبلة، تشرين الثاني 2014، والتي تدل على اضمحلال حظوظ الحزب الديموقراطي في الفوز بأغلبية مقاعد مجلس النواب او الامساك بنسبة الغالبية الحالية في مجلس الشيوخ. النبض الشعبي الراهن يدل على ان نسبة 41% سيجنحون للتصويت الى الحزب الجمهوري مقارنة بنسبة 38 لصالح الحزب الديموقراطي، وهي المرة الاولى التي يغلب فيها دعم الحزب الجمهوري على خصمه الحزب الديموقراطي للعام الجاري. النسبة الكبرى في التحول جاءت من قاعدة الناخبين المستقلين الذين يميلون راهنا لدعم الحزب الجمهوري بأغلبية 41% مقابل 28% لصالح الحزب الديموقراطي؛ بل اعربت اغلبية 47% منهم مقابل 42% عن ارتياحها لرؤية مجلسي الكونغرس تحت سيطرة الحزب الجمهوري.
في اليوم التالي ليوم عيد الميلاد المجيد، نشرت شبكة (سي ان ان) للتلفزة نتائج احدث استطلاعاتها التي افادت باغلبية من الناخبين، 55%، يرجحون الادلاء باصواتهم لصالح مرشحين للكونغرس ممن يناهضون سياسات الرئيس اوباما، مقابل 40% سيؤيدونه. علاوة على ذلك، يضاف عامل غياب الحماس لدى القاعدة الانتخابية، 22% للديموقراطيين مقابل 36% للجمهوريين، مما سيسهم في تضخيم نسبة الناخبين لصالح الحزب الجمهوري.
مصير قاس ينتظر أوباما
ما سبق استعراضه يمثل اطلالة شمولية على واقع المشهد الانتخابي الاميركي مطلع العام الجديد.
إن صدقت التوقعات بفوز الحزب الجمهورية باغلبية مجلسي الكونغرس، فان ما تبقى للرئيس اوباما من سنتين اثنتين في ولايته الرئاسية ستشهدا وضعا بالغ الصعوبة والألم واللوم. يتميز الوضع الراهن بغالبية للحزب الديموقراطي في مجلس الشيوخ والذي استطاع توفير الحماية المطلوبة لبرامج الرئيس في الانعطافات السياسية الحساسة، والحد من غيلاء وتهور الحزب الجمهوري في مجلس النواب. خسارة اغلبية مجلس الشيوخ سيفرض على الرئيس اوباما استخدام حق الفيتو بوجه خصومه في الكونغرس ضد تشريعات لا يحبذها، وقد يكون بعضها له صدىً ورضىً جماهيري، على الاقل ظاهريا. بل الاسوأ سيواجه معارضة حتمية من خصومه لترشيحات قد يقدم عليها لملء مناصب في سلكي القضاء والديبلوماسية.
ما سيتبقى له من خيارات لا تتجاوز الثنائية المفروضة قسرا: اما ان يلجأ الى ادخال تعديلات جوهرية على سياساته ودعم مرشحيي الحزب لما تبقى له من ولاية رئاسية؛ او الابقاء على السير في الاتجاه الراهن وما يحمله من مخاطر تهدد مدى القبول الشعبي لاركان حزبه وتنزل هزيمة بينة بمرشحي الحزب العام المقبل.
اللافت للحظة ان الرئيس اوباما يتجنب التعامل مع نتائج استطلاعات الرأي بصورة مباشرة، وربما له اسبابه المحقة سيما وان الاستطلاعات تشكل نافذة زمنية قابلة للتعديل نظرا لتغير الظروف. وكما اثبت معظم اسلافه من الرؤساء، فقد يلجأ للاستعانة بالسياسة الخارجية وما يعتبره من انجازات في هذا الصعيد يستغلها في المشهد الداخلي لصالحه. وعلى رأس تلك الانجازات، ربما المصيرية بالنسبة لمستقبل الولايات المتحدة، تبرز التسوية النووية مع ايران بصرف النظر عما يعتريها من عقبات لمصادقة الكونغرس عليها في الزمن المرئي.
هنا تبرز الأهمية الاستثنائية للدعم الشعبي الذي سيحتاجه اوباما في تأييد الاتفاق النووي، وهو المدرك بدقة ان معركته في الملف الايراني نواتها الدعم الشعبي الذي ضاق ذرعا من سياسات شن الحروب في مواجهة ممثلي قوى الضغط المتضررة من الاتفاق ممثلة باعضاء الكونغرس من الحزبين. ان صدقت استطلاعات الرأي في الشأن الايراني، فانها تشير حاليا الى شبه انقسام عامودي على الصعيد الشعبي: 44% مؤيد للاتفاق مقابل 46% معارض له، رافقه صعود في نسبة عدم الرضى العام عن اداء الرئيس اوباما من 40 الى 48%.
ما يفاقم مستقبل الاتفاق النووي ايضا معارضة بعض النواب عن الحزب الديموقراطي له لحسابات سياسية داخلية واقتداء بولائهم المطلوب “لاسرائيل،” وخاصة اولئك المقبلين على خوض الانتخابات لاعادتهم لمواقعهم في الكونغرس؛ اعرب بعضهم دون وجل عن عزمه لاستصدار تشريع جديد يشدد العقوبات الاقتصادية. ايران، بدروها، هددت اعضاء الكونغرس بالانسحاب من مفاوضات الملف النووي كليا في حال المضي بسن تشريع عقوبات جديدة، مما سيضاعف الكلفة السياسية للفريق الاميركي المعارض – في مستوى المكانة الدولية على الاقل. بالمحصلة، قد لا يحالف النجاح جهود الرئيس اوباما لمصادقة الكونغرس على الاتفاق ليصبح فاعلا، في المدى المرئي، بيد ان ذلك لن يعني بالضرورة عدم مضي الطرفين الى نهاية طريق المفاوضات والمراهنة على تعديل موازين القوى الداخلية الاميركية في فترات لاحقة.
التسوية في “الشرق الاوسط”
في ملف السياسة الخارجية للرؤساء الاميركيين، يحضر دوما بند التوصل “لاتفاق سلمي للصراع في الشرق الاوسط،” تم اختزاله تدريجيا الى “صراع فلسطيني – اسرائيلي،” مما افقده العمق والرعاية والدعم العربي الاشمل. وبرح كل رئيس اميركي، منذ عقد الستينيات مرورا بالزمن الراهن، الى استدخال تلك العبارة في الخطاب السياسي للدلالة على انخراط البلاد في “حماية اسرائيل،” وتغاضي تام عن حقيقة الجهود الضرورية لتسوية وضع الضحية من الشعب الفلسطيني باكمله. لا يجوز لأي متابع للسياسة الاميركية استبعاد عنصر الانتخابات الداخلية كمعيار يحتذي به الرؤساء دون استثناء. ومن هذه الزاوية الضيقة يمكننا الاشارة الى دوافع وزير الخارجية الاميركية، جون كيري، لحث الخطى بين طرفي الصراع، بعد نزع وعزل البعد العربي، للتوصل الى صيغة تسووية قبل موسم الانتخابات الاميركية – كي تتمكن الادارة من استثمارها في البازار الانتخابي.
من المستبعد ان يتم التوصل الى اتفاق على هوى الرئيس اوباما وجون كيري بحكم الاستقطابات السياسية الداخلية، وقدرة اللوبي اليهودي على حرف المسار وافشاله في الكونغرس بالاتساق مع “السياسة الاسرائيلية” التي لن تستسلم بسهولة لهزيمتها في الملف الايراني. لا يخفي ذاك الفريق نواياه للصدام المباشر مع الادارة الاميركية، ان تتطلب الأمر، بصرف النظر عن بنود تقيد اي اتفاق مقبل؛ اذ لا يقبل اركانه اي مساس باستراتيجية الضم والهيمنة “الاسرائيلية” على ما تبقى من فلسطين ارضا وموارد طبيعية. الطرف الاميركي المقابل يشحذ عناصر قوته وامتداداته بالتحذير من “انفجار انتفاضة فلسطينية ثالثة” موجهة للرأي العام “الاسرائيلي” والاميركي على السواء. للدلالة، نشير الى مقالة مترجمة لوزير التعليم العالي السابق في “السلطة الفلسطينية،” على الجرباوي، نشرتها يومية “نيويورك تايمز،” قبل بضعة ايام، قائلا “لا يستغربن احدكم لو اندلعت انتفاضة جديدة في الاشهر القليلة المقبلة .. نظرا لانسداد الافق السياسي” امام السلطة “المهددة بالانهيار جراء الضغط الاميركي للقبول باتفاقية خيانية” تتنكر للمباديء.
بديهي ان اي اتفاق مرتقب سيأتي ثمرة لجهود تدخل اميركية وينبغي حصوله على موافقة ومصادقة الكونغرس ليصبح نافذ المفعول. عند هذا المفصل بالذات تبرز اهمية ونفوذ اللوبي اليهودي واعضاء الكونغرس المؤيدين “لاسرائيل” لتعطيله، ان رأوا فيه ما يلحق بها الضرر، وابتعاد النواب الديموقراطيين عن الرئيس اوباما وتجديد الولاء “لاسرائيل” كضمانة للفوز في الانتخابات وتدفق الدعم المالي. وعليه، تضخّم حجم ونفوذ “اسرائيل” على الادارة الاميركية وتلعب دورا بارزا في تقرير مصير الطرف الفائز في الانتخابات النصفية المقبلة؛ سيما ان تم الاخذ بعين الاعتبار عامل الدور الاكبر للكونغرس في السياسات الداخلية، يعززه عامل اخفاق الرئيس اوباما في كسب ود الممثلين.
صراع السلطتين التنفيذية والتشريعية
يبرر البعض خطأَ انسداد الافق لتعاون سياسي بين السلطتين التنفيذية والتشريعية بجنوح الرئيس اوباما لتخطي هيكلية الكونغرس. اذ ان بعض السياسات التي يروج لها اوباما لا تحظى باجماع شعبي منذ البداية، كموضوع اصلاح قوانين الهجرة. وينسحب الامر ايضا على الاتفاق النووي مع ايران الذي يلقى معارضة وازنة من اعضاء في الحزبين السياسيين، فضلا عما فعلته وسائل الدعاية والاعلام من تجهيل الانسان العادي فيما يتعلق بهذا الشأن. واضطر البيت الابيض الى استغلال قدر لا بأس به من الرصيد السياسي المدخر في التواصل مع زعامات حزبية في مجلسي الكونغرس وحثها على التريث وعدم استباق التوجهات الرئاسية بشأن ايران وتحذيرها مما ستؤول اليه جهودها من انزال انتكاسة في هيبة الولايات المتحدة وموقع رئيسها.
أوباما لن يشذ عن القاعدة للرؤساء الذين لجأوا لاستخدام صلاحياتهم الدستورية لاصدار قرارات رئاسية نافذة المفعول، والتي عادة ما ينظر اليها بأنها اسلوب ينم عن موقع ضعف، ولا يتساوق مع الشفافية الديموقراطية في استصدار القرارات عبر السلطة التشريعية. من مخاطر تلك الاجراءات، لو اقدم عليها اوباما، انه سيفسح المجال لخصومه السياسيين في الحاق الهزيمة به داخل اروقة الكونغرس دون دفع ثمن ذلك سياسيا في الانتخابات نظرا لضعف موقعه. كما ان القرارات الرئاسية مهددة باعلانها مخلة بالدستور من قبل السلطة القضائية، او الغائها كليا من قبل الرئيس المقبل، وهي من ضمن الصلاحيات المتاحة.
وعد الرئيس، بصرف النظر عن انتمائه الحزبي، بتخصيص بعض جهوده لحملة دعائية لمرشح معين هي اسمى ما يطمح اليه المرشح، وتؤتي أكلها في الدوائر الانتخابية المؤيدة للرئيس في تلك الفترة الزمنية. في الازمنة التي يعاني منها الرئيس من هبوط في شعبيته، يصبح حضوره الى جانب اي من المرشحين عبئا سياسيا يصعب تجاوزه، بل يتفاداه المرشحون بأي ثمن، كم حصل في عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن. اوباما في الفترة الراهنة امام اختبار اعادة تجربة سلفه بوش كعبءٍ سياسي بدل ان يكون رصيدا يمكن التعويل عليه، خاصة بين المستقلين من الناخبين الذين هبط مدى شعبيته عندهم الى نسبة مقلقة، 30%. وجسد استطلاع شبكة (سي ان ان) تلك المخاوف اذ اشار الى ان نسبة الاغلبية من الناخبين، 55%، يتطلعون للادلاء باصواتهم لصالح مرشح يناصب الرئيس اوباما العداء.
في شق تمويل الحملات الانتخابية، لا زال امام الرئيس اوباما فرصة لدعم مؤيديه في حملاتهم الانتخابية، نظرا لمحافظته على استمرار علاقاته مع كبار الممولين؛ بيد ان الوضع الراهن يشير الى عكس ذلك المنطق. اذ بدى على اوباما علامات التخبط واخفاق جهوده لرفد خزائن الحزب الديموقراطي بارصدة مالية عالية، وعدم تحقيق مستويات النجاح المطلوبة لحشد الصالات بالقوى المرشحة للتبرع المالي.
السائد أيضا ان يقدم الرئيس اوباما، اسوة باسلافه، على عرض عمل لعضو كونغرس مؤيد له تلقى هزيمة انتخابية. ما تبقى من زمن قصير للولاية الرئاسية الراهنة يشير الى تراجع فعالية الوعد الرئاسي (كما تجلى في تعيين كريمة الرئيس كنيدي في منصب السفير الاميركي في طوكيو)، خاصة لاشتراط مثول المرشح لمنصب حكومي رفيع امام لجنة مختصة في مجلس الشيوخ، المهدد بخسارته الاغلبية الديموقراطية. وعليه، تضمحل العوامل المغرية لتعاون مرشحين مهددين بخسارة مناصبهم مع الرئيس اوباما.
المحصلة العامة لذاك السيناريو الواقعي تدل على صعوبة مسعى الرئيس اوباما في الدفع قدما باجندته السياسية لاقرارها من الكونغرس. مع افول العام الحالي، بكل ما فيه وعليه من تحديات، تبدو المتاعب والعقبات التي تنتظر الرئيس اوباما مع انبلاج عام جديد شاحبة مقارنة بما سبق.
العقبات التي واجهها اوباما في العام الجاري الذي شارف على نهايته لم تسفر عن تداعيات قاسية، اذ خلا عام 2013 من حملات انتخابية، باستثناء قلة من مناصب حكام الولايات لاسباب تخصها وحدها، وحافظ وحزبه الديموقراطي السيطرة على البيت الابيض ومجلس الشيوخ. الضرر الاكبر لحق سمعته وهيبته وشعبيته لدى السواد الاعظم من الشعب الاميركي.
خيارات أوباما محدودة
أمام هذا الواقع، فان خيارات اوباما لرأب الصدع في المشهد الداخلي تبقى محدودة، بل محدودة جدا. كما سبق واسلفنا، فان الجمهور عادة ما يصل مبكرا الى نهاية شوط تأييده للرئيس مع نهاية السنة السادسة من مجموع ولايتيه الرئاسيتين. قد يفلح اوباما في تعديل بعض نسب الدعم لبضعة اشهر قادمة يستغلها في تعزيز مواقع الحزب الديموقراطي، ان لم يتجاوزها، بيد ان المؤشرات الراهنة تدل على عدم القدرة على تخطي النسب المطلوبة لذلك.
في مجال السياسة الخارجية، التي عادة ما تشكل حصان الرهان الاساسي لتعزيز الموقع الرئاسي، اضطر اوباما لاستهلاك قدر لا بأس به من رصيده لانقاذ صفقة الاتفاق النووي مع ايران امام سد من معارضة تتبلور من اعضاء الحزبين.
التحدي الآخر الذي يواجهه اوباما هو انسداد الافق امامه لاحداث نقلة نوعية في منحى السياسات الداخلية والتي باستطاعتها رفده بالدعم المطلوب لتجاوز عقبة تضاؤل الدعم الشعبي، نظرا لضرورة تنسيق جهوده مع الكونغرس ان اراد تجسيد سياساته، في حين تشير الدلائل الحسية الى ازمة حقيقية بينه وبين زعامات الحزب الجمهوري للتوصل الى صيغ عمل توافقية.
في العام الجديد ليس مستبعدا ان يبدد الحزبين السياسيين جهودا ثمينة لتحديد معالم وبرامج وتحالفات الطرف الآخر في مسعى لشحن قاعدتهما الانتخابية، والابتعاد مجددا عن آفاق العمل سوية لاجترار حلول بقيت مستعصية. كما ان لجوء الرئيس اوباما لاتخاذ قرارات رئاسية، رغم ما سيرافقها من تبريرات، لها تداعياتها لا تستثني المفعول العكسي، كما ورد سابقا.
احتدام الصراع السياسي بين الحزبين سيفرز شخصيات بعضها حديث الخبرة والتجربة، وتقوقع الرئيس اوباما “كبطة عرجاء او كسيحة” لا يقوى على اتخاذ قرارات مصيرية، وغير قادر على تقديم العون السياسي المطلوب لمرشحي الحزب الديموقراطي. على خلفية هذا المشهد القاتم، يتطلع قادة الحزب الديموقراطي الى شخص الزعيم الجامع في مكان آخر، وهنا تبرز وزيرة الخارجية السابق هيلاري كلينتون كأحد اقوى المرشحين لتبوأ ذاك الدور، واصطفاف بعض الطامعين الاخرين للعب الدور عينه.
الحزب الجمهوري، في المقابل، يواجه تصدعات وصراعات داخلية برز معظمها للعلن، لكنه يزهو بامكانية فوزه بالسيطرة على مجلسي الكونغرس لضخ بعض اللحمة والحماس بين صفوفه. اعرب بعض قادته مبكرا عن نيته استشراف امكانية خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، 2016، من بينهم مرشح تيار حزب الشاي، تيد كروز، وراند بول وبعض حكام الولايات الحاليين كحاكم ولاية نيوجيرسي كريس كريستي، المتهم بالتوجهات الليبرالية من اقطاب حزبه. وعلى المراقب ترصد حركة الساسة الطامعين في المنصب الذين سيهبون لبدء جولاتهم الاستكشافية في ولايتي ايوا ونيوهامبشير، كما تقتضي لوائح الحزب الجمهوري.
ينذر عام 2015 بمتاعب اضافية للحزب الديموقراطي، واضطرار مرشحي الرئاسة خوض الحملة الانتخابية بالابتعاد عن الارث السياسي للرئيس اوباما، كما شهدنا سابقا في حال الرئيس جورج بوش الابن. مع كل يوم يمضي، يخسر الرئيس أوباما قبول مرشحين عرضه لمناصب حكومية شاغرة في مختلف الاجهزة والدوائر، ونزوع العدد الاكبر للابتعاد عن التماهي مع سياساته وموقعه.
منصب رئيس الولايات المتحدة هو الأهم والأقوى سلطة في العالم أجمع، كما خبره الرئيس اوباما وكل اسلافه من قبله. ويتعين عليه التأقلم مع الشق الآخر من مهنة الرئاسة وما يرافقها من احباطات وتعثر وكوابح قد لا ترد في الحسبان.
الميادين – مكتب واشنطن بالتعاون مع مركز الدراسات الأميركية والعربية