جدلية «محلي الصنع»
من الغريب في هذه الحرب المجنونة على غزة أن تعود الساحات الإعلامية إلى الجدلية نفسها التي بدأت في حرب 2012، والمتعلقة بأن السلاح الذي تقاتل به المقاومة الفلسطينية هو محلي الصنع أو بتصنيع ومساعدة إيرانية سورية، خاصة أن الأزمة السورية منذ ذلك الوقت حتى اليوم لا تزال مشتعلة، وليست آثارها بعيدة عن الفلسطينيين الذين تشتّتت مكاتبهم وقياداتهم السياسية في عواصم المنطقة بعد انفراط العقد عن دمشق.
رغم ذلك، لم تكن القنوات الإعلامية وساحات التواصل الاجتماعي هي الوحيدة التي تتجادل في قضية «محلي الصنع»؛ فقد أكدت كتائب القسام التابعة لحركة «حماس» التوجه نفسه في غالبية أشرطتها المصورة وبياناتها الرسمية، ولم تغب فصائل أخرى عن استخدام مسميات محلية لصواريخ وصل مداها إلى ما بعد 60 كلم.
نظرة تاريخية سريعة تؤكد أن الفلسطينيين بدأوا السعي نحو استخدام الصواريخ بعد عامين من بداية الانتفاضة الثانية، أي إن الرغبة «محلية الصنع»، وهم عملوا على ذلك سنوات متتالية، لكن أحسن حالات الجهد المحلي لم تساعدهم في الوصول إلى مدى 25 كلم. عام 2008 بدأ الغراد (روسي الصنع) بالدخول على خط المواجهة، كما ظهر في بيانات فصائل المقاومة، ووصل مداه إلى 40 كلم، ليشمل مدينتي أسدود وعسقلان وضواحيهما، ما حسّن قدرات الرد. لكن الفصائل جميعها لم تكن تمتلك مخزوناً جيداً، ولم تكد تطلق عشرة صواريخ يومياً آنذاك.
أربعة أعوام (ضمنها الأزمة السورية) دفعت المقاومة إلى العمل، رغم الحصار الكبير، على إرسال مقاومين من جميع الاختصاصات ليتدربوا في سوريا وإيران، وفق ما نشرت تقارير عبرية وتحدث عنه لاحقاً مسؤولون في المقاومة، وأوضحوا أنهم استفادوا من العام الذي أعطى فيه الرئيس المصري محمد مرسي تسهيلات للسفر عبر معبر رفح، لكنها كانت السنة نفسها التي اشتدت فيها الأزمة السورية وزاد خلالها تجاذب الأطراف (2012-2013).
في تلك الأيام، تسلم المقاومون عدداً من صواريخ فجر 3 و5 الإيرانية ليستخدموها في الحرب الثانية 2012، مفجّرين بذلك مفاجأة كبيرة، كذلك تفيد أوساط من داخل المقاومة أنه جرى تدريب بعض المتخصصين لصناعة نسخ مشابهة «لكن لتناسب طبيعة غزة جغرافياً ومناخها الرطب الذي كان يقصّر العمر الافتراضي للتخزين»، وذلك وصولاً إلى إنتاج صواريخ محلية جرى استخدامها في هذه الحرب أيضاً، ومنها مسميات M75، وJ80، وبراق 70 وبراق 90، وكلها أرقام تشير إلى مديات الصواريخ، كذلك استخدمت أيضاً مسميات محلية لصواريخ مداها من 100 إلى 160 كلم.
ومن المهم الإشارة إلى أن الحصاد اليومي الذي كانت تصدره «كتائب القسام» و«سرايا القدس» لم يخل من ذكر اسم فجر 5 الإيراني. لكن السرايا، مع إطلاقها أسماءً محلية الصنع على صواريخها، لم تثر ضجة إعلامية بالحديث عن «المحلي» مثلما كان الحرص الحمساوي، سياسياً وعسكرياً وإعلامياً، على تكرار هذه اللازمة.
هذا العرض التاريخي السريع يظهر كيف انتقلت المقاومة في غضون أعوام، وصولاً إلى المرحلة الحالية. لكن يجب التنبيه إلى أنه بغض النظر عمّن «صنع الصاروخ» أو درب الآخر على صنعه، وبغض النظر أيضاً عمّن موّل عملية التصنيع وأشرف على رفدها بأسلحة دولية جديدة كالكورنيت والمالوتكا، فإن المهم هو الإشارة إلى أن هذا الانتصار الذي يصنع الآن وتسجله المقاومة هو «محلي الصنع» بامتياز. ففي الجوار دول عربية كبيرة ولديها جيوش وأسلحة أضعاف ما تمتلكه المقاومة، لكن اللحظة الصعبة هي قرار استخدام هذا السلاح، ولا سيما إن كان الحديث أنه سيستخدم ضد إسرائيل. أيضاً في كل الأحوال سقطت هذه الصواريخ المحلية وغيرها على المكان السليم من وجهة نظر المقاومة، أي الأراضي المحتلة. وبشأن الجدل حول هذه القضية، يمكن رصد تصريحات رسمية سياسية وعسكرية إيرانية، طوال الأسبوعين الماضيين، تعطي إشارات واضحة إلى أن المقاومة الفلسطينية لديها قدرة على التصنيع المحلي، لأنه جرى تدريبهم في هذا المجال خشية أن يعيق الحصار وصول السلاح إليها، ما يضمن اعتمادها على نفسها، وهو ما يحدث الآن.
وإن عاد الجدل بصورة واضحة بشأن حديث «حماس» عن أن الطائرات بلا طيار التي كشفتها خلال هذه الحرب «محلية الصنع»، فالبحث في هذه القضية يعيدنا إلى التذكير بطائرة الاستطلاع «أيوب» التي أرسلتها المقاومة في لبنان قبل أعوام وقالت إنها صناعة إيرانية وتجميع لبناني، وهذا هو أحسن تفسير يمكن تلمسه بشأن طائرات «أبابيل» في غزة.
مع ذلك، وإذا ما نظرنا إلى واقع شبه جزيرة سيناء والبحر حالياً وصعوبة عمليات التهريب، فبقدر ما لدى الفصائل من مخزون مصنع داخلياً أو خارجياً، فإنه لا يخفى أن المواد الأساسية للتصنيع، بما فيها المعادن والمركبات الكيميائية، فيها شح كبير جراء تشديد الخناق الدولي والعربي على غزة، كما تقدر مصادر أمنية وإعلامية فلسطينية.
ولا ينسى المقاومون ذلك اليوم الذي اضطر فيه بعضهم إلى قص أعمدة إشارات المرور في الشوارع للاستفادة منها في التصنيع، وإن تغيرت الأمور والوسائل عن ذلك اليوم بكثير، لكن الموارد تنضب، ما يجعل من الضروري للأطراف إعادة بناء محور المقاومة والخروج من اللعبة الإقليمية التي تقع فلسطين ضحية لها، وأيضاً وقف الشرخ بين الحاضنة الشعبية لها في المنطقة.
للأسف، قد يبدو هذا المطلب صعب التحقق ما دامت الأزمة في سوريا والمنطقة تحت العنوان الطائفي، لكن المضحك المبكي أنه لا يختلف اثنان على أن الموت الذي تتلقاه غزة الآن، حتى وإن كان من خلفه السلاح الأميركي والدعم العربي، هو تصنيع إسرائيلي بامتياز!
عبد الرحمن نصار – صحيفة الأخبار اللبنانية