ثعلب السياسة الأميركية ما بين الواقعية المفترضة والهذيان
صحيفة الوطن السورية-
محمد نادر العمري:
لم تعرف أي من الشخصيات الأميركية وحتى الرئاسية منها، شهرة ومكانة كما عرفها ووصف بها مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، الذي اعتبر في مرحلة طويلة من حقبة الحرب الباردة، منظراً للسياسة الخارجية الأميركية ومهندس محددات توجهاتها الخارجية وطبيعة علاقاتها وتحالفاتها الإستراتيجية، وقد عرف عن كيسنجر واقعيته وبراغماتيته الديناميكية في نهجه الحكومي وأطروحاته الفكرية والأكاديمية.
شكلت تصريحات كيسنجر الأخيرة في المؤتمر الاقتصادي العالمي «دافوس»، صدمة عرت توجهات الساسة الغربيين في مقدمتها طاقم الإدارة الأميركية الحالية، في صراعهم مع روسيا ضمن الجغرافيا الأوكرانية، مقدماً لهم ثلاثة مرتكزات أو نصائح متكاملة تمس بطبيعة العلاقات الدولية:
أولى هذه النصائح التي قدمها كيسنجر تضمنت عدم انغماس الغرب في الدخول بمواجهة مفتوحة غير محمودة العواقب مع روسيا، داعياً لعدم تجاهل مكانة روسيا ودورها في الحفاظ على التوازن الأوروبي والعلاقة العضوية التي كانت تربط موسكو على مدى أربعة قرون مع الاتحاد الأوروبي.
أما النصيحة الثانية فتمثلت في ممارسة الغرب ضغوطاً على أوكرانيا لعدم إطالة الحرب والمواجهة مع روسيا، ودفعها للجلوس على طاولة المفاوضات بسقف منخفض من الشروط التي تطالب بها أوكرانيا لضمان إنهاء الحرب.
بينما تكمن النصيحة الثالثة في الحيلولة دون حصول تعاون جيو- إستراتيجي بين روسيا والصين، كرد فعل عكسي على استمرار الغرب في عدائهم لروسيا، ما ينعكس سلبا على الوضعية الدولية نتيجة تقارب روسيا الاتحادية مع التنين الصيني.
هذه التصريحات التي أدلى بها ثعلب السياسة الأميركية، لم تكن محط قبول ورضا من قبل الساسة الغربيين، بل هناك من ذهب لوصف تصريحاته بأنها صادرة عن شخص مجنون وخرف بعد بلوغه العقد التاسع من عمره، غير أن الحقيقة تتمثل في أن هذه التصريحات جاءت لتعكس حالة الانقسام بين النخب والمفكرين الأميركيين بشأن الموقف والدور الأميركي في دعم أوكرانيا ضد روسيا، وحالة الانقسام هذه امتدت لتصل للكونغرس الأميركي الذي رفض 57 من أعضائه حزمة المساعدات الضخمة البالغة 40 مليار دولار التي تعتزم إدارة الرئيس جو بايدن تقديمها لأوكرانيا.
إن هذه التصريحات المتضمنة مجموعة من النصائح التي قدمها كيسنجر للغرب عموماً هي ليست بجديدة، إذ سبق لثعلب السياسة الأميركية أن تقدم بسلة من المبادئ السلوكية لفريق باراك أوباما الديمقراطية عام 2014 بعد استعادة روسيا جزيرة القرم، أنصتت لها هذه الإدارة بشكل واضح وأخذت بها، حيث كانت رؤيته منذ عام 2014 تدور بأن روسيا لا يمكن هزيمتها عسكريا دون خسائر كارثية يتكبدها الغرب، وأن القوة ليست بفرض الحروب وإشعالها بل في إدارة الحروب وإنهائها، ومن أبرز المبادئ التي قدمها في تلك الآونة أن سعي الولايات المتحدة الأميركية والغرب لشيطنة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لن تصل لنتيجة بل إن شعبيته ستزداد داخليا وسيصبح محط إعجاب وشخصية جاذبة لأنظمة الدول وشعوبها المناوئين للسياسات الأميركية.
القارئ ما بين سطور ومفردات كيسنجر، يصل لمروحة من النتائج والنقاط التي تشكل اليوم أبرز معالم الصراع:
أولاً- صحيح أن كيسنجر بلغ من العمر 92 عاماً، ولكن لا يمكن وصفه بالشخص الخرف، لأن مهلة الشهرين التي طالب أن تكون فترة انتهاء الحرب، تشكل فترة ينتهي بها مخزون معظم الدول الأوروبية والكثير من الدول العالمية من موارد الطاقة والغذاء، وهذا الأمر هو باعتراف حكومات الدول والتقارير الأممية، بما في ذلك أميركا التي فتحت مخزونها الاحتياط من النفط منذ بدء الصراع، وهي تضغط اليوم للحصول على 20 مليون طن من القمح الأوكراني يقابل إرسال مساعدات عسكرية.
ثانياً- الدول الأوروبية لم تتعلم من دروس التاريخ، ومهما رفعت شعارات الديمقراطية والرفاهية والسلام، تبقى متعطشة للدماء وذات سيادة غير مكتملة نتيجة لانصياعها للتوجهات الأميركية، التي نجحت في تحقيق فائدة واحدة من هذه الحرب تتمثل في تعميق الخلاف بين أوروبا وروسيا.
ثالثاً- ربما يكون كيسنجر الذي شكل بداية طلاق المسار ما بين جناحي الاشتراكية في السبعينيات، قد اخطأ في توصيفه أو تقديره حول العلاقة الروسية الصينية اليوم، لأن كل المؤشرات لا تدل بأن موسكو والصين لم يصلا بعد لتحالف إستراتيجي، بل إن معطيات وتطورات الصراع الدولي قبل وأثناء أوكرانيا، وحاجة الطرفين للتأمل، دفعتهما نحو تحالف مصيري وجودي، لأن الصين باتت على قناعة أنها الهدف الثاني للناتو بعد روسيا إن نجح الأول في هزيمة الثانية، وروسيا على يقين أن وضعها الاقتصادي سيصل بها لحافة الهاوية التي وصلها الاتحاد السوفييتي سابقاً دون الشراكة مع الصين وتمتين العلاقة مع دول آسيا بمجملها، ولاسيما بعد سلوك دول أوروبا العدائي تجاه روسيا وتفضيل الأولى للمصلحة الأميركية على مصلحة شعوبها الأوروبية.
رابعاً- الرئيس الروسي باتت شعبيته أكثر مما كانت عليه قبل العمليات العسكرية في أوكرانيا، وروسيا الاتحادية لم تعد دولة يمكن تجاوزها دون مراعاة مصالحها، والصراع الذي تخوضه اليوم هو صراع جيو إستراتيجي، لذلك إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن والدول الغربية، لن تعترف بسهولة بالتفوق الروسي ولن تتقبل نصائح كيسنجر وستستمر في اتهامه بالهذيان لعدة أسباب:
1- الإنصات لمنطق العقل الذي دعا إليه كيسنجر هو إقرار بمكانة روسيا دولياً والاعتراف بمطالبها التي دعت لها قبل بدء العمليات العسكرية بما في ذلك تحييد أوكرانيا، وهذا سيحد من توسع الناتو.
2- رغبة أميركا في توسيع دائرة الصراع وتعميقها بين أوروبا وروسيا.
3- الأخذ بنصائح كيسنجر يعني منح فرصة للصين لاستعادة تايوان، ومنح الدول المناوئة للسياسة الأميركية والغربية المزيد من جرعات الثقة في رفض التبعية لها.
4- الإقرار بتغيير طبيعة النظام الدولي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.