توافق أميركي – روسي.. من سوريا وليبيا إلى إيران
موقع قناة الميادين-
هدى رزق:
تريد واشنطن بالاتفاق مع روسيا الوصول إلى حلّ وسط في سوريا ويُعتبر اللقاء المرتقَب بين الرئيسين الروسي والتركي مفصلاً أساسياً في موضوع إدلب والملف السوري برمته.
كثيرة هي التحليلات التي نسبت ما يحدث في المنطقة من متغيرات إلى الانسحاب الأميركي السريع من أفغانستان، والذي اعتبرته زلزالاً أثار مخاوف بعض الدول، التي تعيش في كنف القوات الأميركية، وترى أمانها، اجتماعياً واقتصادياً وعسكرياً، جُزءاً لا يتجزّأ من هذا الوجود.
الانسحاب ونموذج أفغانستان
أتت اجتماعات وزراء خارجية دول الخليج في الأمم المتحدة، في إبّان دورتها الـ76، لتلتمس التوضيحات من وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بشأن الانسحابات من المنطقة، لتخرج قلقة، وتلتقي وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من أجل ضمانات بهدف المحافظة على الاستقرار والحماية، فيُطَمْئنها، لكنها لا تطمئن.
لم يأتِ قرار الانسحاب فجأة، فالرئيس الأميركي كان واضحاً عندما حدَّد سياساته وانسحاب قواته، وأبرم اتفاقية أمنية وتدريبية مع العراق، تضمن وجوده السياسي، وشرع في محادثات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في جنيف، في حزيران/يونيو 2021، بشأن التعاون الروسي- الأميركي في سوريا.
منذ دخوله البيت الأبيض بدا بايدن واضحاً. لقد اتخذ قراره بشأن الانسحاب العسكري من المنطقة. يفضّل محاربة “الإرهاب” عن بُعد، كما تفعل الولايات المتحدة في اليمن وباكستان، وهي ستعتمد هذا النهج في سوريا وأماكن أخرى. هذا الأمر لا يحتاج إلى جنود على الأرض، من أجل قتال “داعش” و”القاعدة”. إنها استراتيجية “فوق الأفق”، وهي أقل تكلفةً للولايات المتحدة، بحيث لا تخسر المال والجنود، وتقاتل أعداءها عندما يشتدّ خطرهم.
تحرّكت روسيا في الأشهر الماضية تجاه الدول العربية، فزار وزير خارجيتها سيرغي لافروف السعودية والإمارات، وشجَّعهما على الاستثمار في إعادة إعمار سوريا. وكانت الإمارات والبحرين أعلنتا افتتاح سفارتيهما في دمشق.
كانت موسكو تريد إقامة توازن في سوريا بين الوجود العربي والوجودين الإيراني والتركي. وهي رسالة إلى الولايات المتحدة، مفادها أنها وسيط في الموضوع السوري تجاه دول المنطقة، وإن كان الأمر ليس كله في يدها. اتخذت إدارة بايدن خطوات ملموسة في مسألة إدخال المساعدات الإنسانية لمناطق سيطرة الدولة في سوريا.
انسحاب من سوريا أَمْ لا انسحاب؟
كانت إدارة جو بايدن سمحت بتخفيف القيود بشأن تطبيق عقوبات “قيصر” الأميركية على الدولة السورية، من خلال مبادرة تزويد لبنان بالغاز المصري عبر خطّ الأردن- سوريا، الأمر الذي اعتُبر ضوءاً أخضرَ للدول العربية لتطبيع علاقاتها بسوريا. وكان الملك الأردني لمس، خلال زيارته الأميركية، أجواء انفتاح تتجاوز المعلَن. فالإدارة هي التي بادرت إلى طرح إعفاءات من عقوبات “قيصر”. وجاءت في الوقت الملائم، بالنسبة إلى الأردن، عمليةُ درعا، وإزالةُ تهديدات المسلّحين عن المعبر السوري ـ الأردني، وتسلُّمُ الدولة السورية الأمنَ في درعا، بجهود الوساطة الروسية.
بهدف إعلان كسر عزلة دمشق، عقد وفد الدولة السورية في نيويورك، اجتماعات مع وفود مصر وتونس وفلسطين وموريتانيا وعُمان والأردن والعراق، وترافق ذلك مع إجراء السعودية وإيران جولاتٍ من المحادثات الثنائية في العاصمة العراقية بغداد، والتصريحات الإيرانية التي وصفت المفاوضات بين البلدين بالبنّاءة، وإعلان أبو ظبي استعدادَها للمساهمة في إعادة إعمار سوريا.
كان ملك الأردن لمس في زيارته واشنطن ليونة أميركية. لا توقيت للانسحاب، لكن تمَّ تمهيد الأجواء من أجل الخطوة النهائية، والتي ستُعيد النظر في طبيعة وجود القوات في السعودية والعراق وسوريا. إدارة بايدن، على غرار إدارة أوباما، ربطت وجودها في سوريا بقتال “داعش”، وعقدت شراكتها مع “قسد”. وبناءً على هذه الخطة، ساعدت حزب الاتحاد الديمقراطي والمجموعات الكردية في كوباني وتل أبيض ضد “داعش”، ولم تعلن مرة أنها تدعم أيّ مشروع انفصالي كردي في سوريا. لذلك، فإنّ موضوع “قسد” منوط بروسيا وبالدولة السورية. لا تقرن إدارة بايدن وجود قواتها في سوريا بالقضية السورية نفسها، بل تقول إن وجودها هو لتحقيق هدف يتعلّق بـ”الأمن القومي الأميركي”. أمّا انسحابها فهو مسألة وقت. لقد أزالت واشنطن المظلة الأمنية عن الكُرد. لذلك، ترى موسكو أن عليهم البدء بالابتعاد عن الولايات المتحدة، قبل أن تتّخذ واشنطن قراراً نهائيّاً بشأن الانسحاب، وهي ترى أن إدارة شماليّ شرقيّ سوريا لن تتسرّع في اتّباع خريطة الطريق المقترحة من جانب روسيا، التي تحاول دفع الكُرد إلى حوار مع دمشق ما دام هناك وجود أميركي.
يُعتبر اللقاء المرتقَب بين الرئيسين الروسي والتركي في 29 أيلول/سبتمبر مفصلاً أساسياً في موضوع إدلب والملف السوري برمته، بعد لقاء بوتين والرئيس السوري بشار الأسد، والتفاهم على خريطة الطريق المُعَدّة، بحيث ينتقل الدعم الروسي لدمشق إلى مستوى أعلى من التنسيق، مع استئناف المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسن، تحرُّكَه من أجل إحياء العملية السياسية المتوقّفة منذ مطلع العام الحالي، ولقاء جنيف الذي جمع نائب وزير الخارجية الروسية، الممثّل الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا، ألكسندر لافرنتيف، ومنسقَ سياسة الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، بريت ماكغورك.
ما بين الولايات المتحدة وروسيا
أفغانستان وإيران كانتا الهمَّ الشاغل للإدارة الأميركية. طلبت مساعدة روسيا في هذا الموضوع، إلاّ أن الانسحاب السريع، ووضع “طالبان” يدها على السلطة، أدّيا إلى عدم انتظام الأجندة الأميركية، بيد أنّ من مصلحة موسكو استمرار الدعم الأميركي لأفغانستان، فلا يمكن ترك الاقتصاد الأفغاني يغرق. لذلك، تستمرّ موسكو في المساعدة، ليس من أجل واشنطن، وإنما بسبب اعتبارات أمنية وسياسية خاصة بها في أفغانستان، في مقابل تسهيل واشنطن المصالحَ الروسية في سوريا وليبيا، التي تحتلّ مكانة كبيرة في موسكو. أمّا التعاون الأميركي الروسي في ليبيا، فيحافظ على مصالح البلدين، ويساعد على حماية السلام والأمن في جنوبيّ البحر الأبيض المتوسط.
تجسّد إيران المصالح المشتركة بين واشنطن وموسكو، بحيث يتّفق الطرفان على ضرورات ابتعاد طهران عن امتلاك السلاح النووي. لا تقترب روسيا من دور إيران الإقليمي، فإبعاد مشاريع طهران وتطلُّعاتها عن أمن “إسرائيل”، شكّل أهم العوامل التي دفعت إلى تعاون واشنطن مع موسكو في سوريا، وهو محلّ اهتمامهما المشترك. ما تريده واشنطن بالاتفاق مع روسيا هو الوصول إلى حلّ وسط في سوريا. وكانت وزارة الخزانة الأميركية أظهرت حُسن النية تجاه سوريا، حتى تتمكّن الدولة من مواجهة وباء COVID-19، ورفعت العقوبات عن شركتين تابعتين لرجل أعمال سوري مقرَّب إلى الرئيس الأسد.
يتساءل المحلِّلون الأميركيون: هل يمكن لموسكو أن تملأ الفراغ إذا انسحبت واشنطن عسكريّاً من المنطقة؟ لكن السؤال المنطقي، هو: هل هي راغبة؟ أو: هل تستطيع؟
يرى المحلّلون أن موسكو لم تتحدَّ النظام الأمني الذي تقوده الولايات المتحدة في المنطقة، على نحو مباشِر، بل استفادت منه، وانخرطًت في سياسة المنطقة من دون تحمُّل تكاليف حماية مصالحها. إنّ الغياب الأميركي عن الشرق الأوسط لن يشكّل فرصة لها، لأنها بنت سياستها على أنقاض سياسة أميركا. كما أن التوتّرات الإقليمية المتزايدة، في أعقاب الانتفاضات العربية عام 2011، ساعدتها على ذلك.
يقودنا هذا التحليل إلى القول إنه كان يمكن بدء نقد الاستراتيجية الأميركية التي سمحت بالوصول إلى هذه النتائج، الأمر الذي يفتح الباب أمام تحليلات ودراسات بشأن الحروب الأميركية العبثية.