«تغريد» روحاني: الخطوط الحمر… والبحصة الإسرائيلية
الحراك الدبلوماسي لحسن روحاني ما كان ممكناً أن يبصر النور من خارج عباءة المرشد «غير المتفائل» أصلاً بحل للملف النووي من خلال مفاوضات «لا يُمانع» حصولها مع الولايات المتحدة. هذه هي المظلة التي سمحت للشيخ الرئيس بالتغريد غرباً خلال الفترة الماضية إلى أن بلغ نيويورك، في الجغرافيا، وباراك أوباما في «سياسة الانفتاح». لكن هذا التغريد من الواضح أن حركته مضبوطة بخطوط حمر، إن لناحية المسار أو هامش المناورة، بل حتى النتائج المتوقعة. موازين القوى الداخلية تؤدي دوراً بارزاً في ضمان «عدم الانحراف»، والتجارب الماضية من بون إلى «5+1» عرّت الأطراف كلها.
أي اختراق لا يمكن أن يحصل إلا بمفاجأة لا بد فرضتها موازين القوى الإقليمية والعالمية، ونتائج جولات الصراع في أكثر من ميدان. كذلك لا بد أن تكون مبنية على تنازل من فريق ما، على غرار ما فعله أوباما بمبادرته إلى ذاك الاتصال غير المسبوق بروحاني. ومع ذلك يبدو المسار طويلاً وبلا أفق. وحتى لو تم تجاوز العثرات كلها، فستبقى هناك بحصة يعجز الطرفان عن بلعها، إسرائيل، من دون أن يضحّيا بتركيبتهما العضوية وأساس كينونتهما. ولعل الحد الأقصى من الأمل لا يتجاوز تفاهمات مؤقتة على ترتيبات من نوع ما في بعض الملفات، تملأ الفراغ الذي خلّفه العجز الغربي عن تطويع إيران ومحور المقاومة بالقوة.
صحيفة الأخبار اللبنانية ـ
إيلي شلهوب:
حجم التفاؤل المنتشر عالمياً بـ«حل سريع» للعداء الإيراني ـــ الأميركي المزمن، يستوجب بعض التأمل. قد يبدو منطقياً لو نُظر إلى الأمر من واشنطن. لكن الرؤية من طهران تنبئ بما هو عكس ذلك. وأي كلام مخالف إنما يعني أمراً واحداً: هناك مشكلة في فهم الفارسية. والمقصود ليس اللغة طبعاً، بل منظومة متكاملة، تبدأ بتشخيص المصلحة القومية وتمر بآليات عمل النظام ولا تنتهي بالعقيدة ومبدئياتها.
البداية بالعرف والتقليد حيث درجت العادة على أن يُمنح الرئيس المنتخب حديثاً فترة سماح، خالية من أي قيود، لأشهر، من أجل تنفيذ خططه وسياساته. فإن أصاب كوفئ وحصد الدعم والثناء، وإن أخطأ يجد أجهزة الحكم المختلفة، من مجلس شورى ومجلس أمن قومي ومجلس تشخيص مصلحة النظام وغيرها، تحدّ من حركته، قبل أن يتدخل المرشد لتصويب المسار، في حال كان الأمر يتعلق بالقضايا الكبرى والملفات المصيرية.
هناك أيضاً الخطوط العامة الذي يرسمها الولي الفقيه لمسار الجمهورية المؤتمن عليها، ووصاياه ونصائحه بالغة التأثير في نفوس الإيرانيين، أفراداً وتيارات سياسية وأجهزة سيادية ومؤسسات حكم. وفي هذا لا بد من الإشارة إلى مفاهيم ثلاثة تحدّث عنها خامنئي خلال الأشهر الماضية:
1 ــ «المرونة الثورية» أو «المرونة البطولية» (راجع «الأخبار» عدد ٢١١٧ ص ٢٤)، التي تُرجِمت في الداخل الإيراني على وجهين بحسب الموقع السياسي للمتلقّي: الرئيس حسن روحاني ومنظومته فهماها بأنها ضوء أخضر للانطلاق والتقدم في مسار تفاوضي مع الولايات المتحدة، كان الرئيس العتيد حريصاً على تأكيد «نديته» وتشبّثه بالحقوق المشروعة لبلاده، لكنه تميز ببعض المغامرة التي جرى التعبير عنها بالاتصال التاريخي بينه وبين أوباما، والذي أثار انتقادات في إيران.
أما التيارات المتشددة، وبينها الحرس الثوري، فقرأتها إشارة إلى وجوب تنويع الآليات والأساليب وتحسين القدرة على المناورة في إطار الخط الثابت المتواصل منذ عقود في مواجهة «الشيطان الأكبر» وربيبته «الغدة السرطانية».
2 ــ ولعل ما ساهم في تعزيز ثقة التيارات المتشددة بتفسيرها لتلك المقولة أنها تزامنت مع حديث آخر بالغ الأهمية لخامنئي، بالنسبة إلى مقلّديه والموالين له، عن موجبات «التكليف».
كان حريصاً على التأكيد أن المُكلّف يجب ألا يكتفي بالعمل بتكليفه، بمعنى أن يعتبر أنه نفّذ المطلوب منه بمجرد أنه عمل به، بل عليه أن يجهد ويحرص على تحقيق نجاحات، فإن أفلح يكون قد أنجز مهمته على أكمل وجه، وإن أخفق يكون قد نال شرف المحاولة. وهو ما بنى عليه المتشددون للتأكيد أن العمل بـ«المرونة الثورية» مرهون بنتائجه التي يجب أن تتوافق مع الضوابط والثوابت التي قامت عليها الجمهورية الإسلامية.
3 ــ وقد يفسر ذلك ما فُهم خطأ، بغض النظر عن النيّّات، على أنه طلب من المرشد للحرس الثوري بالابتعاد عن السياسة، وفي الوقت نفسه يشرح لوم قادة الحرس أخيراً لروحاني على استجابته للمكالمة الهاتفية من نظيره الأميركي.
والحقيقة أن المرشد قال، في الخطاب نفسه الذي تحدث فيه عن «الليونة البطولية»، إنه «ليس ضرورياً أن يمارس الحرس الثوري نشاطات سياسية»، من دون أن يعني ذلك «ألا تكون له مراقبة واعية للتيارات الانحرافية أو العميلة أو سائر التيارات السياسية»، داعياً «الحرس» إلى عدم النزول إلى مستوى «مواجهات فئوية وفردية بين هذا وذاك»، وضرورة تركيزه علی «التحدي الرئيسي لرسالة الثورة الإسلامية في مواجهة نظام الهيمنة».
ولعل ما عزز موقف «الحرس» حرص خامنئي في مناسبة أخرى (كلمة أمام مجلس الخبراء في 5 أيلول الماضي) على التأكيد أن «الليونة والمرونة والمناورات الماهرة والشجاعة أمر مطلوب ومورد قبول في جميع الميادين السياسية، لكن لا ينبغي لهذه المناورات الماهرة أن تتجاوز الخطوط الحمراء، أو أن تتراجع عن الاستراتيجيات الـسياسية، أو ألا تلاحظ المبادئ».
ضوابط «المرونة»
المغزى من هذا الاستطراد ليس الغوص في دهاليز السياسة الداخلية الإيرانية، بل التأكيد أن «ليونة» روحاني تحدّها مجموعة من الضوابط، تبدأ بالسقف الذي وضعه المرشد للحد الأدنى المقبول من خواتيم (العلاقة بين العمل بالتكليف والحرص على نتائجه: اعتراف بالتخصيب على الأراضي الإيرانية بضمانات إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية) لهذه المفاوضات، ضمن إطار الثوابت التي قامت عليها الجمهورية، والتي يحميها «الحرس الثوري»، وضمن مهلة زمنية تسمح للرئيس الجديد بإثبات صوابية مشروعه السياسي.
واللافت أن المغامرة التفاوضية الجديدة تحصل في ظل لاتفاؤل أعلن عنه خامنئي في الأشهر الأولى من هذا العام. قال إن «الأميركيين يبعثون لنا برسائل بطرق مختلفة ومتنوعة يقولون فيها تعالوا نتحاور بشأن الملف النووي… تعالوا لنقيم الى جانب المفاوضات 5+1 مفاوضات ثنائية حول الملف النووي الإيراني. لست متفائلاً بمثل هذه المفاوضات… لكنني لا أعارض في الوقت نفسه».
معادلة إذا ما أسقطت على واقع اليوم تعطي نتيجة واحدة: حراك روحاني يحصل تحت عباءة خامنئي وفي ظل عدم ممانعته.
تكتيكات التفاوض
هذا على مستوى آليات صناعة القرار في الداخل وتحديد السياسات وحدودها وضوابطها والهامش المُتاح لكل فريق في خلالها. أما تكتيك التفاوض ومساحته فقصة أخرى.
ليست هذه المرة الأولى التي تخوض فيها إيران مفاوضات معلنة مع الولايات المتحدة، وإن كانت الأولى التي يجري فيها اتصال على هذا المستوى بين الجانبين. لعل المحاولة الجديّة الأولى كانت تلك التي حصلت في عهد محمد خاتمي. وقتها كتب وزير الخارجية آنذاك، كمال خرازي، مقالاً في صحيفة «واشنطن بوست»، عشية حرب أفغانستان، حدّد فيه الأزمة الأفغانية نقطة وحيدة للحوار، على قاعدة أنها ستكون اختباراً لواشنطن التي إن نجحت فيه، جرى الانتقال إلى ملفات أخرى. وبناءً عليه، شاركت طهران في مؤتمر بون الشهير حول أفغانستان في تشرين الثاني 2001 على مستوى معاون وزير الخارجية.
المرحلة الثانية من الاتصالات المباشرة بين الجانبين كانت في خلال المفاوضات التاريخية بين السفيرين الأميركي ريان كروكر، والإيراني حسن كاظمي قمي، في بغداد في ٢٠٠٧ حول الملف العراقي. وقتها أيضاً خاضت طهران تلك المفاوضات تحت عنوان اختبار النيات الأميركية، فإن أثمرت جرى الانتقال إلى ملفات أخرى.
المرحلة الثالثة جرت في إطار ما بات يُعرف بمجموعة «5+1» التي تألفت في عام ٢٠٠٦. في إطار هذه المجموعة، جرت مفاوضات ثنائية بين إيران وأميركا، خاضتها الأولى على قاعدة ربط النزاعات ومفهوم رزمة المقترحات، فيما أصرّت واشنطن، بقيادة الرئيس جورج بوش، على فصل المسارات.
الأولى كانت ترى أن إطار البحث في الملف النووي ينحصر في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فيما إطار «5+1» هو لبحث الملفات الخلافية الأخرى، بينما تمسكت الولايات المتحدة بحصرية النقاش حول النووي. ولعل في إعلان وزير الخارجية الجديد محمد جواد ظريف أنه سيقدم لتلك المجموعة في ١٥ من الشهر الجاري رزمة مقترحات دليلاً على نجاح إيران في فرض مقاربتها لطبيعة إطار هذه المجموعة.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المعضلة الأساس التي واجهها الغرب في المرحلة الأخيرة من مفاوضاته مع الجمهورية الإسلامية كانت استعداده للقبول بإيران نووية، لكنه كان، ولا يزال، عاجزاً عن التعبير عن ذلك، لسبب بسيط أنه بمجرد اعترافه بحقها في التخصيب على أراضيها، بغض النظر عن الضمانات الأخرى، سيكون مضطراً إلى رفع العقوبات عنها وبالتالي خسارة الرافعة الوحيدة التي يمكنه من خلالها ممارسة الضغط على طهران. والحديث هنا يتعلق بالمرحلة التي تلت التقدير الاستخباري الأميركي لعام ٢٠٠٨، والتي غيرّت فيها واشنطن نظرتها إلى إيران من بلد «تحكمه مجموعة من الملالي المجانين» إلى بلد حكامه «عقلانيون يديرون شؤونهم بمنطق الربح والخسارة».
عند هذه النقطة أصبح النووي ملفاً ثانوياً بعدما اتّضح للطرفين شروط حله ووافق الغرب ضمناً عليها. الإيرانيون يستعجلون حلّه لكي يتوقف الغرب عن استخدامه ضدهم، ويستمهل الأميركيون الاتفاق حوله بانتظار مكاسب في ملفات أخرى.
بل أكثر من ذلك. توصل الجانبان غير مرة لاتفاق كامل حول النووي ووافقت عليه الوكالة الدولية للطاقة الذرية قبل أن تتراجع واشنطن مقدمة طلبات أخرى.
بلغ الأمر حدّ خروج خامنئي بنفسه ليعلن في 26 حزيران من العام الجاري أن «مشكلة هؤلاء (الأميركيون) أنهم لا يريدون حل مسألة الملف النووي الإيراني. ولولا عنادهم لحُلّ هذا الملف بكل سهولة. فقد توصلنا إلى اتفاق غير مرة، ووقّعوا عليه، ووقّعت عليه الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ووافقت على أن الاشكالات والمخالفات قد رُفعت، لدينا وثائق بهذا الشأن، ولا يمكن إنكارها… لكنّ الاميركيين كانوا يطرحون إشكالية أخرى مباشرة. هم لا يريدون إنهاء الملف».
بات ربط المسارات مطلباً أميركياً إذن، لكن الخلاف كان ولا يزال على نطاق هذا الربط. واشنطن تريد استثناء ملفات، في مقدمها الملف الفلسطيني وذيوله الإسرائيلية، في مقابل إصرار طهران عليها، وهي تريد تحييد أخرى للاستفراد بها، مثل الملف السوري حالياً، وقبله الملف البحريني.
وربما ما حصل في نيويورك خلال الأيام الماضية يُعتَبر مؤشراً. فخلال وجود روحاني في تلك المدينة، سعى الأميركيون خمس مرات لانتزاع موافقة الرئيس الإيراني على مصافحة وصورة تذكارية، من دون جدوى. وعندما أزف وقت الرحيل، وشعر أوباما بالحرج وسط إدارته، بادر إلى الاتصال بروحاني ليقول له: «دعنا نتحدث عن إيران والنووي، لعل ذلك يكون مقدمة للحديث عن سوريا»، فما كان من روحاني إلا أن تلقّف الرسالة، معلناً أن إيران ستشارك في مؤتمر جنيف 2.
ابحث عن إسرائيل
ولعل النقطة المتفجرة الأبرز والأهم في دائرة الربط تلك تنحصر في الملف الفلسطيني. وهي في المناسبة على خطين: الأول، خط واشنطن ـــ تل أبيب، حيث أظهر الملف النووي عدم تطابق المصالح بين الجانبين، لكون الأولى ترى فيه تهديداً استراتيجياً ولكن يمكن التعايش معه، فيما تعتبره الثانية خطراً وجودياً لا يمكن السماح ببقائه بأي ثمن.
وحدها القدرات الردعية المتنامية لمحور المقاومة، والتي تمظهرت في حرب تموز، حالت دون إطلاق الكيان العبري لحرب شعواء حفاظاً على كينونته. والثاني خط واشنطن ـــ طهران، حيث لا يمكن الأولى أن تنجز صفقة شاملة مع إيران لا تتضمن ضمانات تحفظ أمن إسرائيل، يدرك الجميع أن الجمهورية الإسلامية يستحيل أن تفكر أصلاً في خوض نقاش حولها من دون أن تخسر هويتها والمبنى العقائدي الذي قامت عليه، والذي جعل منها قوة عظمى في المنطقة.
وبغض النظر عمّا يعتقده البعض، فإن موضوع فلسطين ليس تفصيلاً في وجدان إيران، شعباً و«حرساً» وحكومة… وولاية. ومن له كلمة وازنة في هذا البلد يتحدث علناً عن أن الهدف من وراء كل حراك إيراني، ولو كانت مفاوضات روحاني مع أوباما، «ليس سوى دخول فلسطين، سلماً أو حرباً». الكرة في الملعب الآخر.