تعدّدت الأسباب والإفلاس الأميركي واحد…
جريدة البناء اللبنانية-
أحمد بهجة:
تعدّدت الآراء والتحليلات بشأن ما حصل ويحصل في المصارف الأميركية التي وصل بعضها إلى درجة إعلان الإفلاس، حيث لكلّ خبير أو محلل وجهة نظر مختلفة عما يراه غيره، سواء كان الاختلاف كلياً أو محصوراً في جوانب معينة، إلا أنّ الجميع متفق على أنّ الأمر ستكون له تداعيات غير قليلة في الآتي من الأيام…
هذه التداعيات لن تقتصر على الوضع الاقتصادي داخل الولايات المتحدة، حيث تزداد بشكل لافت نسبة الشرائح الاجتماعية الأميركية التي تحتاج إلى المساعدة حتى تستطيع توفير أساسيات الحياة، بل ستؤثر أيضاً على السياسات الخارجية التي لطالما استندت إلى عناصر القوة الأميركية المتكاملة بين السياسة والاقتصاد والمال والصناعة والسلاح والتكنولوجيا، ولكن حين يضعف الاقتصاد وتفلس البنوك ويخف الطلب على المنتجات الصناعية الأميركية على اختلافها فإنّ ذلك سينعكس بلا أدنى شكّ على مقوّمات القوّة، ولا بدّ بالتالي من إعادة النظر بالسياسات الخارجية وجعلها أكثر مواءمة مع المستجدات الحاصلة على الصعيد الدولي، حيث تتغيّر موازين القوى لغير مصلحة الولايات المتحدة، والمثال الأبرز على ذلك تجسّد مؤخراً بالاتفاق السعودي ـ الإيراني برعاية الصين.
لنعد إلى أزمة البنوك، وأوّلها «سيلكون فالي بنك» الذي يأتي في المرتبة السابعة عشرة في قائمة المصارف وفقاً للحجم، حيث تبلغ محفظته المالية حوالى 200 مليار دولار، أيّ أنه مصرف كبير نسبياً لكنه ليس من البنوك العملاقة التي يصل حجمها إلى التريليونات من الدولارات مثل بنك «أوف أميركا» أو «جي بي مورغن» أو «مجموعة سيتي بنك»…
يتركز نشاط هذا المصرف بشكل أساسي على تمويل المشاريع التكنولوجية، خاصة تلك التي لها علاقات وثيقة مع المجمع العسكري الصناعي. كما أنّ عدداً كبيراً من الشركات «الإسرائيلية» العاملة في هذا القطاع والمتواجدة في كاليفورنيا حصل على تسهيلات تمويلية من هذا المصرف.
إلى هنا كانت الأمور تسير بشكل جيد، لكن البيئة الاستثمارية في الولايات المتحدة عموماً تأثرت سلباً بعوامل عديدة ومترابطة، وقد بدأ التراجع والتباطؤ الاقتصادي، خاصة مع موجة التضخم الكبيرة التي نتجت عن جائحة كورونا عام 2021، ثم الإجراءات التي اتخذتها السلطات المالية للحدّ من التضخم لا سيما من خلال ضخّ كميات كبيرة من السيولة في الأسواق، والتي ذهب أغلبها في مسارات الاستهلاك وتحديداً المبالغ الضخمة جداً التي تمّ توزيعها للعائلات كمساعدات اجتماعية خلال فترات الحجر والإقفال وإيقاف العجلة الاقتصادية لمواجهة جائحة كورونا.
هذه السياسات انعكست سلباً على كلّ المشاريع الاستثمارية التي تموّلها المصارف، لكن الفرق بين مصرف وآخر هو في الحجم والقدرة على الصمود في مواجهة مثل هذه الحالات، وخاصة في تنويع السلة الاستثمارية، لأنّ المصارف التي تعثرت وخاصة «سيليكون فالي بنك»، كان نشاطها محصوراً إلى حدّ كبير في قطاع اقتصادي محدّد، تأثر بالانكماش والتباطؤ، ولم يعد المستثمرون قادرين على تحمّل الأعباء الكبيرة للاستمرار في تشغيل مثل هذه المشاريع المتعثرة، الأمر الذي انعكس على البنوك وجعلها تتهاوى واحداً تلو الآخر.
وإذا كانت الولايات المتحدة قد استطاعت نوعاً ما تجاوز أزمة العام 2008 المشابهة للأزمة الحالية، فإنها فعلت ذلك بمساعدة الصين والصناديق الخليجية وهو أمر غير متوفر اليوم، وعلى الخزينة الأميركية أن تواجه الأزمة بمفردها، وهذا ما يبقي النظام المصرفي الأميركي في دائرة المخاطر.
هذا الأمر يؤشر إلى أنّ الولايات المتحدة لم تستطع بعد التكيّف مع المستجدات العالمية ومفاعيلها وتحوّلاتها، التي لا تصبّ في صالحها، بل على العكس تأتي هذه التحوّلات لتؤكد أنّ أميركا آخذة في التراجع وصولاً إلى خسارة موقعها كقطب أوحد على الساحة الدولية، فيما تتقدّم دول أخرى إلى ميدان التحدي لتثبت مواقعها في عالم متعدّد الأقطاب…
لقد أكدت الحرب في أوكرانيا هذه الحقائق، حيث أرادت منها الولايات المتحدة كسر هيبة روسيا، ووضع حدّ لتطوّرها وتقدّمها، على كلّ المستويات، لكن هذا لم يحدث، بل على العكس انقلبت الأمور على المحرّضين وعلى رأسهم أميركا، والآن ها هي روسيا تتقدّم أكثر في العمليات على الأرض وكذلك اقتصادياً، فيما أوروبا وأميركا تتراجعان على أكثر من صعيد، وفق ما أكد لنا السفير الروسي في لبنان السيد ألكسندر روداكوف في جلسة مع مجموعة خبراء وباحثين وإعلاميين.
وهناك أيضاً ما ذكرناه آنفاً عن الاتفاق الإيراني ـ السعودي بوساطة الصين، وما يعنيه ذلك من تغيير في موازين القوى عالمياً نتيجة الإنجاز النوعي للدبلوماسية الصينية، خاصة مع دولتين هما من بين أهمّ الدول المنتجة للنفط والغاز في العالم، وهو ما لم تكن واشنطن تتوقعه على الإطلاق، خاصة أنها كانت قد تلقت ضربة موجعة أخرى حين اتخذت «أوبك+» في تشرين الأول الماضي قرارها بخفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يومياً، وهو ما أثار حالة غير مسبوقة من الهلع والغضب لدى أميركا، نظراً لما له من تداعيات سياسية واقتصادية سلبية على الولايات المتحدة، خاصة أنّ ضغوطها الكبيرة على حلفائها في الخليج العربي وعلى رأسهم السعودية، لم تغيّر شيئاً في هذا القرار الذي وجد طريقه إلى التنفيذ ولا يزال أصحابه مصرّين على الاستمرار به دون إقامة أيّ اعتبار لما تريده الولايات المتحدة…