تركيا ووجبة المقبلات على طاولة الإمبرياليين!
صحيفة الوطن السورية-
د. بسام أبو عبد الله:
القمة السورية- الروسية بين الرئيسين بشار الأسد وفلاديمير بوتين تركت صداها الواسع في الأروقة السياسية التركية، وبدأ الحديث عن احتمالات العمل العسكري الواسع في إدلب، لتحريرها من قبضة الإرهابيين، وهو ما بدا واضحاً في مقالات الكتاب الأتراك فها هو محمد آجت يكتب في الـ«يني شفق» القريبة من الحزب الحاكم مقالاً تحت عنوان «هل يجهز بوتين الأرضية من أجل هجوم آخر على إدلب بعد زيارة الأسد؟»، ويشير إلى كثافة الغارات في الأيام الأخيرة، وإلى مقتل 3 جنود أتراك، والأهم واللافت حسب آجت، كلام بوتين أمام الرئيس الأسد عن أن بقاء القوات الأجنبية (دون أن يسميها) من دون موافقة الأمم المتحدة وموافقتكم (أي الرئيس الأسد)، هو مخالف للقانون الدولي، والإرهابيون لا يحتلون جزءاً من الأرض فقط إنما يستمرون بترهيب المدنيين.
يقارن آجت بين زيارة بوتين إلى دمشق في كانون الثاني 2020، وبدء العمل العسكري لفتح طريق دمشق- حلب بالقوة، ومعركة سراقب التي قتل فيها 34 جندياً تركياً، ويعتبر أن كل لقاء بين الرئيسين هو تمهيد لمرحلة جديدة، وبرغم من أن آجت يحاول تبرير وجود الاحتلال التركي على الأراضي السورية بأنه «دفاع عن النفس» ووفق ميثاق الأمم المتحدة، فإنه ينسى أو يتناسى كغيره من الكتاب الأتراك، أن هناك التزامات وقع عليها رئيسه أردوغان مع الرئيس بوتين منذ عام 2018، ولا يزال يماطل ويكذب، ويحاول تبرير استمرار هذا الاحتلال من خلال ربطه بقضية اللاجئين والمدنيين الذين تارة يكونون 3 ملايين، وتارة يصبحون 4 أو 5 ملايين، أي بمعنى أن أي عمل عسكري ضد الإرهابيين سيؤدي لهجرة المدنيين باتجاه تركيا التي لن تسمح لأحد بالدخول بعد الآن، بعد تحول ملف اللاجئين السوريين إلى ملف داخلي تركي يسحب من شعبية أردوغان وحزبه، وبالتالي فإن السؤال هنا: ما المطلوب عمله وفعله؟ هل وضع المعادلة بهذا الشكل هو صحيح؟ أم مجرد مناورة اعتدنا عليها طوال الحرب على سورية؟ فهذا العنوان الإنساني الكاذب تردد كثيراً خلال تحرير حلب وحمص ودير الزور وغوطة دمشق والقلمون، والكثير من المناطق السورية الأخرى، وهو عنوان مخادع وكاذب غايته إبقاء المدنيين رهائن بيد الإرهاب، وورقة سياسية للمساومة مع سورية وحلفائها.
بعض الأوساط التركية المسؤولة أخبرت الصحفي آجت أن سيناريو العمل العسكري مستبعد، مذكرة بالطائرات التركية المسيرة في معركة سراقب كنوع من التهديد، دون أن تعرف هذه الأوساط أن الجيش العربي السوري لا تخيفه مثل هذه الرسائل، وأن نقاط المراقبة التركية حُوصرت ثم خرجت تجر أذيال الهزيمة، فالقضية هنا تطرح بوضوح شديد: ماذا يفعل الجنود الأتراك في إدلب؟ أليسوا محتلين؟ والجيش المحتل لا أفق أمامه سوى الانسحاب مهما بلغت ضخامة أسلحته وتهديداته والأكثر وضوحاً أن مقال آجت لا يخفي الخلاف والتناقض بين مواقف موسكو وأنقرة تجاه سورية وإدلب، والتي يراها أنها يمكن في أي لحظة أن تتحول إلى كرة ثلج متدحرجة!
لكن الكاتب في صحيفة «ديلي صباح» برهان الدين دوران والمقرب من أردوغان، كتب مقالين في الصحيفة المذكورة أحدهما في 18 أيلول الجاري بعنوان «رياح التطبيع فوق تركيا» يتحدث فيه عن أن سعي الحكومة التركية لتطبيع علاقاتها في المنطقة هو أمر استراتيجي وليس تكتيكياً، ويعزوه إلى تغيرات جيوبوليتيكية في العالم، وإلى أن واشنطن تشجع دول المنطقة لتحمل مسؤولياتها، والحوار فيما بينها، ليطرح ما أسماه سؤال المليون دولار: متى سيصل التطبيع إلى سورية؟ وهو السؤال الذي تناوله في مقاله بتاريخ 20 الشهر الجاري أيضاً بعنوان: «التطبيع في السياسة الخارجية لتركيا- وسورية»! حيث يؤكد أن نتيجة ما أسماه الحرب السورية ستكون مؤثرة إلى حد كبير في مستقبل تركيا في مجالين: الإرهاب ويقصد حزب PKK ونظيره السوري YPG، واللاجئين، ويشير إلى أن المقاربة التركية حالياً للصراع السوري لا تتضمن «إسقاط النظام» بل تهدف إلى:
تسهيل عودة اللاجئين السوريين بشكل كريم.
محاربة المشروع الانفصالي لـPKK/YPG، أي «حزب العمال الكردستاني» وفرعه السوري.
ويتابع دوران وكأنه يرسل رسائل باتجاه دمشق أن قرار الحوار مع دمشق ليس قضية أيديولوجية، أو عاطفية، بل هو مسألة توازن قوى إقليمي، ومصالح واختيار التوقيت!
وبرأيه فإن دمشق يجب أن تحضر لعودة مواطنيها، وترحب بهم، وأن تدرس بجدية موضوع انخراط المعارضة ودمجها في سورية المستقبل، ومصير منظمة «قسد» وضرورة تفكيكها في حال التوصل لاتفاق مع أنقرة!
من الواضح تماماً من مجمل ما عرضته من مقالات وآراء لكتاب أتراك أن التركيز على موضوع التطبيع مع دمشق بدأ يطرق الأبواب بقوة داخل تركيا وخارجها، وأن تصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو قبل فترة حول لقاءات تركية- سورية، والتي نفتها دمشق بشدة، كانت رسائل جس نبض، ذلك أن دمشق عندما وافقت على اللقاء الأمني في موسكو، وبحضور الروس في كانون الثاني 2020، كانت متأكدة من أن أنقرة تكذب وتناور، ولهذا فإنها ترى أن لا معنى لأي لقاء إذا لم يتم انسحاب قوات الاحتلال التركي من الأراضي السورية ووقف ممارساتها، ودعمها للمنظمات الإرهابية، إضافة لوقف عمليات التتريك التي تتم في مناطق سورية محتلة.
يوم الاثنين الماضي استضافتني قناة «أولوصال» التركية في برنامج مهم عنوانه «ساحة الآراء» وفيه أجبت عن أسئلة صحفيين أتراك حول العلاقة بين دمشق وأنقرة، وأشرت إلى نقطة مهمة تحاول وسائل إعلام أردوغان الترويج لها باستمرار وهي أن العمليات العسكرية في إدلب ستؤدي لتدفق اللاجئين، وهم ليسوا مستعدين لاستقبال أحد، وأشرت إلى أن ما تروجه هذه الوسائل الإعلامية كاذب، وأن نموذج درعا يمكن أن يعمم على إدلب، ذلك أنه تمت تسوية أوضاع كل المسلحين السوريين تحت سقف القانون، أما الأجانب فلابد من إخراجهم، ذلك أنه لا يمكن لأي دولة في العالم أن تسمح ببقاء مواطنين يحملون سلاحاً متوسطاً وثقيلاً، ويهددون حياة الأبرياء، وهذا الوضع سينتهي لأنه لا مجال لعودة النشاط الاقتصادي، والحياة الطبيعية، وعودة اللاجئين من تركيا وغيرهم من دون عودة الأمن، وسيطرة الدولة، وانتهاء الإرهاب، أي إن الأمن أولاً، وقبل كل شيء.
وصول صوتنا للداخل التركي برأيي مهم وضروري، لأنه سيساهم في دحض الروايات التي تروج من قبل وسائل إعلام أردوغان بهدف إيصال الصورة الحقيقية قدر الإمكان.
وإذا كان لدى الأتراك ملفان مهمان فأعتقد أن لدى دمشق مئات الملفات، التي لن تفتح إلا بعد أن تلمس دمشق التي صبرت كثيراً جدية أنقرة بالأفعال لا بالأقوال والتصريحات والمقالات، خاصة وأن الواقع يتغير بسرعة، وهو ليس في مصلحة من دعم الإرهاب، وربّاه، ورعاه، والذي يفترض أنه سيدفع ثمن هذه السياسات الخاطئة.
أحد الصحفيين الأتراك كتب في الـ«يني شفق» عبارة أضحكتني يقول فيها: «تركيا لن تكون بعد الآن وجبة مقبلات على طاولة الإمبرياليين»! أي إنها حسب ما أفهم كانت قبل الآن «وجبة مقبلات»، وأؤكد له أنها ستبقى كذلك طالما أنها لا تزال تركض وتناور وتكذب، لتحصل على تعهد صغير في أفغانستان لإرضاء الإمبرياليين، وطالما أنها لا تزال تعتدي وتحتل وتقطع المياه عن جيرانها، وتسرق معاملهم، وتشرد سكانهم. وعندما تتوقف تركيا عن ذلك، وتحترم القانون الدولي، ومصالح الآخرين، فإنها ستحقق مصالحها دون أن تكون «وجبة مقبلات» كما كانت، ومازالت طوال عقود من الزمن.
إن الأمن القومي للدول لا يتحقق بالاعتماد على الإرهابيين، وإنما بالتعاون بينها، واحترام القانون الدولي، ووقف الأوهام حول إمبراطوريات مزعومة، لا تقوم إلا على حساب دمار الجيران ومستقبلهم، فسورية وحلفاؤها أثبتوا بمكافحة الإرهاب أنهم من حطموا مخططات من يريد تحويل دول وشعوب المنطقة إلى «وجبات مقبلات» لمشاريعهم، وعلى حكومة أردوغان قراءة دروس السنوات العشر الماضية، وأخذ العبر قبل أن تتحدث إلى دمشق، فالمنطقة باتجاه تغيرات كبيرة لن تكون لمصلحة السياسات الخاطئة والمدمرة، التي اتبعتها أنقرة طوال السنوات الماضية.