تركيا والاستدارة نحو سورية
جريدة البناء اللبنانية-
د. حسن مرهج:
في كتابه «الحساسية الجيوبوليتيكية كتب الباحث سوات الهان: «تركيا هي الدولة المحور الواقعة على أكبر قطعة أرضية في العالم والمتكوّنة من أوروبا، آسيا وأفريقيا أو جزيرة العالم بالمعنى الجيوبوليتيكي. تركيا هي المفتاح والقفل لهذا المحور، فلطالما لعبت جغرافية تركيا وبشكل فعّال دورها كمفتاح وقفل، لأنه ولفترة طويلة كانت فقط جزيرة العالم القطعة الأرضية الوحيدة على الكوكب، وجميع الحضارات والأديان الأساسية المشهورة تطوّرت حول نقطة تقاطع هذه القارات الثلاث بسبب موقعها الجغرافي».
حقيقة الأمر، قد تكون النظريات السياسية واقعية إلى حدّ كبير، لكن الواقع يفرض بمعطياته السياسية والعسكرية، وقائع قد تناقض جوهر النظريات السياسية، خاصة أنّ التاريخ الحديث يحوي الكثير من الشواهد على ما سبق، واليوم في سورية، تترسخ نظريات سياسية جديدة، وينبغي حُكماً وواقعاً اعتمادها بل وتدريسها، فالواقع السوري بمعطياته السياسية والعسكرية وحتى الاقتصادية، فرض على جميع القوى الإقليمية والدولية، والتي تعتمد النظريات السياسية الحديثة، واقعاً جديداً ينبغي اعتماده تجاه سورية، وهذا الأمر ليس من باب التحيّز لسورية، لا سيما أنّ الدولة السورية وقائدها وجيشها فرض على الجيران الإقليميين، اعتماد مقاربات مختلفة للتعاطي مع الملف السوري.
ربطاً بما سبق، ثمة مستجدات عسكرية كثيرة رسمت مشهد شمال شرق سورية؛ هي مستجدات ستغيّر خارطة التحالفات السياسية ليس في سورية فحسب، بل على مستوى الإقليم، فالتطورات في شمال شرق سورية، وما تحتويه من منجزات ذهبية حققها الجيش السوري خلال السنوات المنصرمة، سيكون لها معادلة ناظمة للمشهد السياسي في سورية، كما أنّ تداعيات هذه المعارك والمنجزات، ستؤثر بالمطلق على المناخ العسكري شرق الفرات وإدلب، لكن اليوم الأولوية لهندسة تحالفات إقليمية جديدة، تكون سورية عنوانها الأوحد، فما هندسته الدولة السورية وجيشها، تردّد صداه لدى مسامع رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان، حيث بلغ التوتر بين سورية وحلفائها وتركيا وحلفائها مستويات مرتفعة سياسياً وعسكرياً، واليوم فإنّ أردوغان يبحث عن طريق يوصله إلى دمشق.
في وقت سابق، فإنّ خروج تركيا عن مسار تفاهمات سوتشي وبيانات أستانا، دفع سورية وروسيا على حدّ سواء لوضع حدّ للتدخلات التركية الغير مبرّرة في سورية، وتطاولها على السيادة السورية، فضلاً عن جُملة الاستحقاقات الداخلية التي تنتظر أردوغان، وعلى رأسها الانتخابات الرئاسية في تركيا، الأمر الذي وضع أردوغان أمام واقع سيُطيح بمستقبله السياسي، وعليه كان لا بدّ من الاستدارة مجدداً نحو سورية، ضماناً لبقائه في السلطة، خاصة بعد فشله في مشروع إسقاط النظام السياسي في دمشق، والأهمّ أنّ أردوغان لا يرغب بخسارة روسيا الحليف الاستراتيجي لدمشق والرئيس الأسد.
ختاماً، أوراق كثيرة خسرها أردوغان في سورية، ولم يعد بإمكانه استثمار التطورات الاقليمية والدولية وتوظيفها في سياق الملف السوري، فاليوم بات كلّ شيء متغيّر ويصبّ مباشرة في صالح دمشق، فلم تعد الجغرافية السورية ملعب أردوغان الجيوسياسي، ولم تعد ورقة اللاجئين سلاحاً في وجه الغرب، لتكون بذلك المعادلة الجديدة لأردوغان، البحث عن مسارات توصله الى دمشق، فالتصريحات التركية تؤكد بأنّ المعادلات اليوم باتت متغيّرة، ومن الحكمة السياسية الاستدارة وبقوة نحو دمشق، وتلبية مطالبها كافة.