تجارة السلاح في غزّة: ليست كسواها في العالم
صحيفة السفير اللبنانيةـ انتصار ابو جهل :
طرقٌ غير آمنة، محفوفةٌ بالمخاطر، تتراءى في نهاياتها أشباح الموت هي تلك التي تسلكها تجارة الأسلحة. مهنةُ تضع أرواح ممتهنيها على المحكّ، إذ عليهم أن يعوا جيداً أن الموت أو النفي إلى ما وراء الشمس هو مصيرهم إذا تم ضبطهم في إحدى عمليات التهريب على الحدود البرية أو البحرية المحاذية لقطاع غزة.
في مدينة يُطلق عليها لقب “معقل المقاومة الفلسطينية”، من الطبيعي أن تتواجد منافذ تهريب الأسلحة ومواد تصنيعها، بشكلٍ شبه علني. فمافيا السلاح هنا تختلف كلياً عن حالها في بقية مدن العالم، إذ، وفقاً للقائمين على أمن غزة، هي “تجارة غير رسمية ولكنها شرعية”، كون السلاح المهرّب سيوجّه نحو احتلال إسرائيليّ بعد وصوله إلى فصائل المقاومة. ورغم حساسية الموضوع لدى الأجهزة الأمنية، حاولت “السفير” كشف الستار عن هذه التجارة وبعض غموضها.
سكك التجارة من “الأمين” إلى الداخل
أبو أحمد (55 عاما – الاسم مستعار) يعدّ نفسه من كبار تجار السلاح في قطاع غزة، ومن المخضرمين في هذه التجارة. فهو يمتهنها منذ ثلاثين عاماً بحكم أنه ورثها عن والديه. وعلى الرغم من أن عمله في البداية كان مقتصراً على تنظيف الأسلحة وتخزينها ونقلها، إلا أنه تطور لاحقاً إلى التهريب والتواصل مباشرة مع “الأمين”. و “الأمين” هو مصطلحٌ متعارفٌ عليه بين التجّار، يطلق على الشخص الذي يتواصلون معه ليزودهم بأحدث التقنيات التي وصلت إليها صناعة المتفجرات والأسلحة في الدولة التي يقطنها.
ويقول أبو أحمد: “نحن نثق بالأمين بدرجة كبيرة ولا يمكننا تخوينه. فهو حلقة الوصل بين التجار في غزة والتجار في الخارج، نتواصل معه بطرقنا الخاصة”، مشيراً إلى أن لكلّ دولة أمينا خاصا بها.
يواصل أبو أحمد حديثه لـ “السفير” موضحاً أن الأمين، بعد أن يخبرنا عمّا لديه من أسلحة وذخائر، نطلب منه إرسال عينة لاختبارها وتجربتها. فإذا ثبتت فاعليتها، يتم الاتفاق على الكمية وطريقة التوريد والسعر. يلفت إلى أنه، في بعض الأحيان، يتم طلب أنواع معينة من الأسلحة والصواريخ وفقاً لما تحتاجه المقاومة وينقصها.
وعن كيفية إرسال الأموال إلى الأمين، أوضح أبو أحمد أنه يتم إرسالها بالطريقة ذاتها التي تصل عبرها البضاعة، مبيناً أنهم لا يلجأون أبداً إلى المصارف أو شركات تحويل الأموال لأنها تخضع للرقابة والمتابعة: “عملية تهريب الأسلحة إلى غزة صعبة للغاية، لذا نحاول دائماً، بالتواصل مع الأمين، ابتكار طرق وأساليب جديدة لمنع كشفها من قبل الحكومات. ما يكلفنا أموالاً أكثر”، بحسب أبي أحمد.
يتواصل التجار هنا مع عدّة دول لتهريب الأسلحة منها، كالصين واليمن وأريتريا ودول جنوب أفريقيا والسوادن، بالإضافة إلى دول أخرى تهدي السلاح إلى المقاومة الفلسطينية من دون مقابل. ويقتصر دور التجار في هذه الحالة على تسليم الشحنة المهربة كما هي إلى الجهة المعنية باستلامها.
وكون القطاع محاطاً بحدودٍ بريّة مع مصر من الناحية الجنوبية، كان لا بد أن تمرّ تلك البضاعة عبر حدودها، لتشقّ طريقها إلى غزة، بعد مرورها بسيناء أو قناة السويس، لتصل إلى النفق المتفق عليه لهذه العملية.
ويشير أبو أحمد إلى أنه لا يوجد نفق معيّن لتهريب السلاح، فكل الأنفاق مشروعة ومفتوحة لمثل هذه العمليات. وينفي ما يدعيه البعض بأن هناك أنفاقاً خاصة للأسلحة تختلف عن باقي الأنفاق، من ناحية التزويد والمكان.
يلفت إلى أن عمليات التهريب كانت في السابق أسهل وأيسر مما هي عليه في الوقت الراهن، في ظل حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي: “تشديده على الأنفاق أضرّ بهذه التجارة كثيراً، وأصبحت عملية التهريب من خلال الأنفاق شبه مستحيلة. في المقابل، فإن عمليات التهريب في عهد حكم الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي شهدت انتعاشاً كبيراً، تمكّن خلالها التجار من إدخال كميات كبيرة من الأسلحة والصواريخ وبأسعار مناسبة على خلاف الحال الراهنة”.
ويضرب أبو احمد مثلاً على غلاء الاسعار بفعل تشديد السلطات المصرية على الحدود، قائلاً: “إحدى شحنات الأسلحة كانت تكلفني ما يقارب 65 ألف دولار، ولكن في الوقت الحالي، بلغت تكلفتها 292 ألف دولار”.
وإن كان للأنفاق النصيب الأوفر من عملية تهريب الاسلحة، فإن للحدود البحرية الغربية للقطاع نصيبا أيضاً. كما أن بعض عمليات التهريب تتم عبر الحدود الشرقية من خلال “معبر ايرز” الذي يخضع للاحتلال الإسرائيلي. ورفض المصدر الحديث عن الأساليب والوسائل المتبعة للتهريب عبر هذين المنفذين: “كلّ الوسائل والطرق متاحة ما دام الهدف هو مساعدة المقاومة”، وفق ما يفيد التاجر.
وعن المنافسة بين التجّار، يفيد أبو أحمد: “عددنا محدودٌ جداً ولا يتجاوز أصابع اليد. لذا، المنافسة لا تكاد تذكر في هذه التجارة”، كاشفاً أن بعض عمليات التهريب الكبيرة تتمّ بالتعاون ما بين التجّار.
أبو أحمد الذي أبعد أبناءه عن هذا الطريق، يوضح أن خطورة التهريب تفوق مكاسبه. فهو معرّض للموت في كل لحظة.
عدي (الاسم مستعار) الذي بدت ملامحه أنه في أوائل الثلاثينيات من العمر، بدا متحفظا حين طلبنا منه الحديث عن طبيعة عمله في بيع الأسلحة، مدعياً أنه تاجرٌ صغير، وعمله مقتصر على شراء المسدسات والأسلحة الخفيفة من التجار، وبيعها محلياً. يقول إن عمله لا يصل أبداً إلى حدّ التنسيق مع الخارج.
ويقول عدي لـ “السفير”: “التجّار الكبار لا يبيعون بضاعتهم إلا لجهاتٍ معيّنة، ولكن بحكم معرفتي بأحد التجار وإحساسه بالأمان تجاهي، أشتري منه بعض القطع والرصاص، ثم أبيعها بغرض كسب الرزق”. ويوضح أنه يكسب من وراء بيع القطعة الواحدة مبلغاً يترواح بين 100 و300$.
ينظر التجار إلى أنفسهم كأشخاص يقومون بعملٍ بطولي، فهم يرفضون بيع الأسلحة لجهة خارجة عن فصائل المقاومة الفلسطينية: “منافذ البيع معروفة ولا يمكننا تجاوزها. فعملنا هنا مقتصر على تزويد المقاومة بما تحتاجه”، بحسب أبو أحمد.
أين تقف الحكومة من تجارة الأسلحة؟
يقول التجّار إن الحكومة في غزة توفّر لهم الحماية خلال عمليات التهريب، ما نفته الحكومة نفيا قاطعا، معتبرةً أن ذلك متروكٌ لفصائل المقاومة. ويخشى المواطنون الذين يملكون أسلحة غير مرخّصة الخروج بها منذ سيطرة “حماس” على القطاع، علماً أنهم يزعمون امتلاكها الحماية الشخصية. فيروي سامي (32 عاما – اسم مستعار) عن طريقة شرائه للسلاح الذي تملّكه بغرض الحماية الشخصية: “اشتريت المسدس من تاجر يعمل في بيع وشراء الأسلحة الخفيفة كالمسدسات والأسلحة الرشاشة، وتعرّفت إليه من خلال أحد الأصدقاء الذين أثق بهم”. يؤكد أنه لم يستخدمه إلا في المناسبات والأفراح، ولكنه الآن لا يجرؤ على ذلك بفعل العقوبات التي تفرضها الحكومة على من يرتكب مثل هذه المخالفات.
وعن متابعة وزارة الداخلية لتجارة السلاح في غزّة، أوضح قائد الشرطة اللواء تيسير البطش لـ “السفير” أن الشرطة تتابع عملية بيع الأسلحة من أجل أن يبقى في إطاره المفيد، فلا يصل إلى أيدي العابثين، أو يمسّ بحالة الأمن في القطاع، منوهاً بأنهم يدركون أن كلّ بيوت غزّة لا تخلو من السلاح كونها تحتضن المقاومة الفلسطينية: “نحن لا نعيش شريعة الغاب، وغزّة ليست سوقا سوادء، ولدينا وعي شعبي ووطني تجاه هذا السلاح وطرق استخدامه”، يقول البطش.
وأكّد البطش أن سلاح المقاومة لا يمسّ. وإذا تم ضبطه مستخدماً في أعمال شغب أو في المناسبات والأفراح، يتم اعتقال الشخص واتخاذ الاجراءات الملائمة بحقه، بالإضافة إلى مصادرة السلاح أو تسليمه للجهة المسؤولة عنه، ما لم يستخدم في جريمة كبيرة.
وحول معرفة الشرطة بعدد التجار في القطاع، أوضح البطش أن “عددهم محدودٌ جداً وهم معروفون لنا. ويتم استدعاؤهم ومحاسبتهم في حال ارتكابهم أي فعل مخالف للقانون”. وهو يعتبر قطاع غزة مستقراً أمنياً، والجرائم التي يتم استخدام السلاح فيها لا تكاد تذكر بالمقارنة مع الدول الأخرى: “استخدام السلاح مضبوط بمبادرة شخصية من الناس، ومضبوط من الأجهزة الأمنية عن طريق الإجراءات العقابية الرادعة التي تفرضها على المواطنين”.
ويمنع هنا حمل السلاح في الشوارع والاماكن العامة، ولا يمسح للمواطنين إلا بامتلاك سلاحٍ شخصيّ يجب أن يكون مرخصا وفقاً لإجراءات وزارة الداخلية.
وعن إجراءات حيازة السلاح الخاصة بالمواطنين، يشرح البطش: “يتم أولاً تقديم طلب حيازة سلاح من قبل الشخص إلى الشرطة. بعد ذلك، يتم التحرّي عن هذا الشخص، والبحث في مدى حاجته الفعلية لامتلاك السلاح”. ويبيّن أن “هناك شروطا خاصة بالأشخاص الذين يسمح لهم بامتلاك السلاح بغرض الحماية الشخصية، مثل تجّار العملة والذهب وأصحاب العقارات”.
من الناحية القانونية، تنص المادة (5) من القانون الفلسطيني رقم (2) لسنة 1998 المتعلق بالأسلحة والذخائر، على عدم جواز منح الترخيص بحيازة السلاح إلى من تقلّ سنّه عن 21 سنة، أو حكم عليه بعقوبة جناية أو عقوبة مقيدة للحرية، أو من حكم عليه بعقوبة الحبس لمدة سنة على الأقل في جريمة من جرائم الاعتداء على النفس أو المال أو العرض، أو من حكم عليه في أيّ جريمة استعمل فيها السلاح أو كان الجاني يحمل سلاحاً في أثناء ارتكابها.
كما تنصّ المادة (6) على تكليف طالب الرخصة إثبات شراء السلاح من تاجرٍ مرخّص له، وبإبراز شهادة البيع المتضمنة وصفاً للسلاح المبيع وتاريخ البيع واسم البائع وعنوانه، وإثبات استيراد السلاح الناري من الخارج، وإبراز تصريح الاستيراد. ولكن، يبقى هذا النص غير معمول به كون جميع الأسلحة التي تدخل إلى القطاع مهرّبة.
وتنفي وزارة الداخلية معرفتها بمنافذ تهريب الأسلحة، معتبرةً أن هذا الشأن متروك لفصائل المقاومة، علماً أن المادة (18) من القانون ذاته تنصّ على أنه لا يجوز لأيّ شخص أن يدير مستودعاً للأسلحة أو الذخيرة أو لتصليحها أو أن يتعاطى حرفة تصليح الأسلحة النارية أو بيعها إلا إذا كان مرخصاً له بذلك من الوزير.
أما عن متابعة “هيئة الأنفاق” لتهريب الأسلحة فقد نفى اللواء ركن حسين أبو عاذرة، القائد الأعلى لقوات الأمن الوطني وجيش التحرير الفلسطيني، حدوث أي عمليات لتهريب لسلاح على الحدود المصرية ـ الفلسطينية، مبدياً تعجبه من إمكانية حدوث ذلك في ظلّ ما تفرضه الحكومة المصرية من قيود وتشديدات، خاصةً بعد ضخّ كميات كبيرة من المياه على الحدود بغرض تدمير الأنفاق وقطع الإمداد عن القطاع.
وأوضح أبو عاذرة أن قطع السلاح المنتشرة في غزة مصدرها الأجهزة الأمنية السابقة التي استنكفت عن العمل وبحوزتها سلاحها، عازياً سبب انتشار المسدسات والأسلحة الآلية في القطاع إلى أن حصّة غزّة من التسليح عند حلول السلطة كانت نسبتها 90 في المئة مقابل 10 في المئة مخصصة للضفة الغربية.