بين التوسل التركي والإستجداء الأميركي.. ماذا عن الشروط السورية؟
صحيفة الوطن السورية-
فراس عزيز ديب:
دخل مسار الانفتاح في العلاقات التركية السورية منعطفاً جديداً بعدَ التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو التي أعلن فيها ما يمكننا تسميته تجديداً في الخطاب الرسمي التركي بالإمكان اختصاره بثلاث نقاط أساسية: حدوث دردشة بينه وبين وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد على هامش قمة دول عدم الانحياز، التأكيد على أن وحدة الأراضي السورية لا تتم إلا بتلاحم المعارضة و«النظام»، ضرورة التواصل بين أنقرة ودمشق.
بمعزلٍ عن إن كانت هذه الأفكار تحوي أي جديدٍ من عدمهِ، إلا أنها كانت كافية لاستفزاز المعارضات السورية بما فيها تلك المحسوبة على تركيا وتتحرك برعايتها، فخرجت التظاهرات في الكثير من المناطق المحتلة تُطالب بخروج المحتل التركي بعد أن كانوا يكتبون معلقات في مدحه، بذاتِ الوقت عاد من جديد سيل التحليلات التي عادةً ما تذهب بعيداً في استقرائها للحدث لتصل الحد الذي تحدثت فيه عن تحديدِ موعد قمة ستجمع بالإضافة للرئيس بشار الأسد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، هذهِ التحليلات استندت لما سمته الواقعية التركية في قراءة الحدث، قد لا يشبهها إلا واقعية وليد جنبلاط! لكننا للأسف لم نقرأ حتى الآن لمن يتعاطى مع هذه المتغيرات من خلال الإجابة عن السؤال الأهم: ماذا عن سورية؟ وهل هناك من سيجيب، وأين التصريحات الرسمية السورية لكي يجري تحليلها بسياقِ تحليل التصريحات التركية؟
الجواب عن هذا السؤال بسيط: ماذا لو جربتم قراءة الصمت السوري؟
يمكننا ببساطة تقسيم من يتجاهل قراءة الصمت السوري إلى ثلاث فئات:
الفئة الأولى، هي تلك الفئة التي تكرر عبارات سخيفة لا طائل منها، وهل نحن كدولة لنا رأي؟ وهل هناك من يكترث لرأينا والآخرون يقررون مصيرنا؟! إلى ما هنالك من العبارات التي ترى الهزيمة من منظار رغيف الخبز لا أكثر، وترى الانتصار من ثقبِ تحول البلد بينَ ليلةٍ وضحاها إلى «سويسرا الشرق»، ويتجاهلون أن «سويسرا الشرق» ذات نفسها (أي لبنان)، باتت في مهب أزمة طائفية واقتصادية تكاد تطيح بها، على هذا الأساس يبدو من السذاجةِ الإسهاب في تفنيد كلام المنهزم من الداخل، أو محاولةِ تغيير آرائهم وإن كانوا قلّة، لكن ذكرهم ضروري من حيث تحديد مسار الأولويات لا أكثر.
الفئة الثانية، قد لا تختلف كثيراً عن الأولى، لكن ما يميزها أنها عملياً ترى الصمت السوري كنتيجة منطقية لقبول ضمني لما يريده الحلفاء والأصدقاء لا أكثر، على هذا الأساس يبنون أفكارهم على قاعدةِ العاطفة لا المنطق، ولعل الجواب عن هذه الفئة واضح: إذا كانت القيادة السورية سترضخ مرغمة لإرادة الأصدقاء في فرض هذا الانفتاح بعدَ أن فقدت الكثير من أوراقها كما تدّعون، فلماذا لم تتجه سورية نحو مساومة الأميركي والرضوخ لمطالبه؟ أليس الأمر أكثر كسباً بميزان الربح والخسارة؟!
الفئة الثالثة، هي الفئة التي تحاول قراءة هذا الصمت السوري من خلال الزاوية الأهم: ما هي الشروط السورية لإعادة التطبيع مع تركيا؟
مبدئياً لم يُسجل للقيادة السورية يوماً أي تصريح أغلقت فيه الأبواب بوجه الانفتاح التركي السوري بل على العكس تماماً كانت مجمل التصريحات تميز بين أوهام النظام التركي والمصالح المشتركة للشعبين التركي والسوري، هنا يمكننا تمييز الشرط الأول بالاتجاهين فلا القيادة السورية تقبل ما يسيء لمصالح الشعب السوري بما فيها بقاء التنظيمات الإرهابية أو أجنحتها السياسية كسكينٍ في خاصرة الوطن، وبالاتجاه المعاكس لا يمكن لأحد المزاودة على القيادة السورية بما يتعلق بضمان أمن الشعب التركي وعدم تحول الشمال السوري إلى بؤرة تهدّد وحدة الأراضي التركية، هناك من يتجاهل عندما يلقي هكذا اتهامات بأن مشكلة إرهابيي حزب العمال الكردستاني بالأساس هي مشكلة تركية وليست سورية، أبعادها ضربت العمق السوري وليس العكس.
من جهةٍ ثانية وفي حديثه الأخير كما كل الأحاديث التي يدلي بها الجانب الرسمي التركي فإن وزير الخارجية جاويش أوغلو شدَّدَ على احترام السيادة السورية، هذا الكلام باتَ مستَهلكاً لأن هناك من ينتظر اقتران القول بالفعل إذ لا يمكن الحديث عن لقاءات وقمم تحترم السيادة السورية وهناك جيش يحتل آلاف الكيلومترات من أراضي هذه الدولة ويهدد باحتلال المزيد، تبدو المشكلة هنا في تحديد مفهوم السيادة حسب القانون الدولي لدى البعض، وبهذا السياق لا بد من تذكيرهم بأن هناك فرقاً كبيراً أن تجلس دولتان جارتان بينهما خلافات حدودية أو أمنية برعاية دولة ثالثة لحل هذه الخلافات وصولاً إلى اتفاقٍ شامل يطيح بالهواجس الأمنية لكل طرف، وبين أن تجلس دولتان للتفاوض فيما بينهما على أن تكون إحداهنّ تحتل أراضي الدولة الثانية، المنطق هنا يحتم زوال صفة الاحتلال قبل الشروع بأي مفاوضات.
ختاماً، لم يكن من قبيل المصادفة أن تتزامن التصريحات التركية مع حديث أميركي عن تواصلٍ مباشر مع القيادة السورية، بل هناك حديث عن تواصلٍ مباشر مع الرئيس بشار الأسد، هل هاتف جو بايدن الرئيس الأسد طالباً المساعدة في العثور على الصحفي الأميركي أوستن تايس؟ الجواب عند الأميركيين وبمعنى أدق عند البراغماتية الأميركية، هذا بالإضافة لما حكي عن تواصل مباشر بين القيادة السورية وعدد من الدول العربية التي لا تملك سفيراً لها في سورية، هذا يعني ببساطة أن سورية لا ترى نفسها مضطرة للقبول بالانعطافة التركية لمجرد الانعطاف، لكونها ترى التركي بذات الوقت تحت الضغط بفعل الكثير من الملفات أهمها الاقتصاد والدور الأميركي غير الواضح في ملف العلاقة مع ميليشيا «قسد»، فهل يخاف أردوغان انقلاباً أميركياً آخر؟
على هذا الأساس ووفق هذه المعطيات تبدو الشروط السورية واضحة وبسيطة، لكن هناك من سيسأل وماذا عن باقي الملفات كالاقتصاد والمياه وغيرها؟ الجواب هنا يبدو بسيطاً، فإعادة العلاقات بين البلدين يتطلب مراجعة شاملة، لكن هذه الملفات قد تكون نتيجة لا أكثر إن تجاوز الطرفان عقبات الشروط السابقة، فماذا ينتظرنا؟
لا يوجد مستحيلات في السياسة، وما قد يجري من تفاهمات لا يدخل في نطاق المعجزات إن امتلك الطرف المعتدي الواقعية التي تحمي مصالح بلده وشعبه، لكن الإفراط في التفاؤل قد لا يكون مفيداً، فاللقاء بين الرئيس الأسد وأردوغان لن يتم عقده لمجرد التقاط الصور، هكذا لقاء سيكون فاصلاً بين مرحلتين إن لم يجر الإعداد له بطريقة جيدة، ستكون النتائج لا معنى لها تحديداً لأننا نعيش في شرقٍ ملتهب لا ثوابت فيه ولا استثناء، تركيا ستتغير بوجود أردوغان أو عدمه لأنها ببساطة لا يمكن لها أن تتابع على هذا المنوال، ودول كثيرة تورطت وبدلت خياراتها وتركيا لن تكون استثناء، الاستثناء الوحيد هو الصمود الأسطوري للجيش والشعب العربي السوري.