بوتين.. مدرسة سياسية وشعبية طاغية
موقع إنباء الإخباري ـ
مروان سوداح*:
ثلاثة ملايين سؤال فقط كانت حصيلة الحملة الإعلامية التي أطلقتها روسيا قبل أيام قليلة وكان شعارها: وجّه سؤالاً للرئيس فلاديمير بوتين.
طرائق توجيه الأسئلة كانت مناسبةً جداً. فمن لم يستطع إرسال سؤال عبر رسالة بريدية مستعجلة، أرسلها من خلال وسائل أخرى، الكترونية في الغالب، منها الفيديو أو الإيميل. لكن الرئيس الروسي لم يتمكن خلال 4 ساعات من إجاباته المتصلة والمباشرة، أن يجيب على أكثر من 74 سؤالاً فقط، ذلك ان وقت الرئيس كما هو وقت أي رئيس آخر في العالم، محدود، كما هي تماماً قدراته واحتمالاته كإنسان يَحتاج الى راحة وكأس ماء، والى متطلبات اخرى عديدة.
الأسئلة التي طرحها المواطنون الروس والأجانب فرادى وجماعات، لم تنحصر في مجال واحد أو في عدة مجالات، إذ فتح الرئيس، كعادته، كل المجالات أمام الجميع ليدلوا بأسئلتهم حولها، وكان بعضها يتصل بحياتهم الشخصية حتى، فلا يوجد جانب مسموح وأخر ممنوع لدى رئيس الدولة، إذ كانت كل الملفات مفتوحة وكل الأوراق مُشرعة، ما أكد الديمقراطية الجديدة التي صارت تتحلى بها الدولتية البوتينية وتتسم بها توجهاتها، وهي في الحقيقة والواقع، دولة من طراز جديد، شعبية القسمات وغير مسبوقة في روسيا وخارجها. وهي الى ذلك دولة تحمل في جوهرها بذور ديمقراطيات المُدن – الدول القديمة، التي كانت تجمع الجميع، ليقول هذا الجميع كل ما يَجول في خاطره في كل المناحي، ويستطلع ويُشير الى مواطن الخلل، وهو ما حملته بطياتها ألاسئلة، وفي طرحها الصريح وعلنيتها.
نجح بوتين كعادته في عملية ديمقراطية على طراز بوتيني لا مثيل له في أوروبا بشرقها وغربها بعد ان سحلتها الامبرياليات الاقتصادية والعسكرية والسوسيولوجية، فقد كتّل بوتين كل الشعب مِن حوله ووحد تطلعاته ورغباته وأحلامه، ليَصنع حُلماً روسياً جديداً ومشروعاً. إذ أن تلاحُق إرسال الاسئلة بإتجاه بوتين، أكد شعبيته وإمتداده الافقي في الشعب الروسي ومؤسساته، وبأنه زعيم جماهيري حقاً، لم يَقمع أحداً، ولم يُغضب شخصاً ما طرح استفساراً، ولم يُلحق بأحدٍ أي سوء مِن سؤال طرحه على رئيسه، فكانت الأجوبة على درجة عالية من “المهنية الرئاسية” والدقة، والنباهة، وسرعة البديهة، والإجابة بلا تلكؤ أو تردّد، وعميقة وشافية، ولبّت متطلبات أصحابها، ومنهم مَن تحدث بلغة روسية ركيكة.
في إجاباته على مسألة تزويد إيران بصواريخ روسية إستراتيجية ضاربة وضامنة لسيادتها ومؤكدة استقلاليتها، بعد حَظرٍ طويل من تزويدها بها، كان بوتين واضحاً وصريحاً لمَن يريد الوضوح، فأغضب الخصوم والأعداء بهدوئه البالغ وبصراحته الدبلوماسية الرفيعة، التي أسعدت أصدقاء روسيا وأنصارها الكُثر. بوتين كرّر موقف روسيا الشفاف، من أن صواريخ “إس-300” تعدُ أسلحةً تحمل طابعاً دفاعياً بحتاً، و “برر”، كما قالت فضائية روسيا اليوم، التي أُسقط في يدها، قراره برفع الحظر عن توريد هذه المنظومة التي لا تشملها العقوبات الدولية المفروضة على إيران، بأن الأخيرة أبدت مرونة كبيرة في المفاوضات الخاصة ببرنامجها النووي، وبأنها دولة لا تهدّد أحداً..
بوتين ليس في حاجة لأية مبررات لتزويد دولة ما بالاسلحة. والحقيقة هي أن الضربة والطعنةُ من الخلف تأتيه أيضاً من الداخل الروسي، وليس من خارج روسيا فحسب، وهي طهنة توجّه نحو قلبه بالذات من وسائل إعلام روسية، درجت على جلد الذات الروسية وتسويق هذه الآلية بين الروس، وتشويه روسيا وتاريخها وقادتها وواقعها أحياناً، والنيل في أحايين أخرى من أصدقاء روسيا وحلفائها التاريخيين، وكأن هذا التوجه هو ديمقراطية إعلامية وحرية، لكن في الحقيقة هذا ليس سوى مظهر مفضوح من مظاهر وآليات غربية واستعمارية لما يُسمّى بـ”دمقرطة الإعلام” الروسي والعربي على الشاكلة السوروسية، وفتح المُجتمعات أمام الإعلام الهادم لها والمُلحق إيّاها بالغرب الإحلالي والاستيطاني، ليس بشرياً، بل سيكولوجياً وتأريخياً و.. إقتصادياً فأبدياً.
أعرف بوتين عن قُرب منذ أن كان مديراً علينا نحن الطلبة الاجانب في جامعة لينينغراد الحكومية. فالرجل كان صديقاً لقضايانا منذ الحقبة السوفييتية، وهو لم يتغيّر للآن ولم يتراجع عن مواقعه قيد أنملة، وما نجاحاته المتلاحقة في مخاطبة شعبه، والتفاف الشعب الروسي من حوله، والإعجاب العالمي به، سوى تأكيد جديد على شخصية بوتين الانقاذية لروسيا والعالم، وعلامة على تحوّلات سياسية روسية ماتزال جارية على قدمٍ وساق في الداخل الروسي، ومِن خلال الداخل الروسي وبههذا الداخل في العالم برمته، وبخاصة في منطقتنا العربية وما حولها، والأيام حُبلى بالمُتغيرات الروسية لصالح الامة الروسية ووضعها العالمي، وهي أمة إنقاذية، وسوف تنعكس تلك المتغيّرات إيجابياً لا مَحالة على الوضع العربي بمختلف تفاصيله.
• كاتب اردني روسي الجنسية، متخصص بالشأنين الروسي والآسيوي.