الموت يغيب ستيفان هيسل عن 95 عاما: معنى المقاومة في زمن الهيمنة
صحيفة القدس العربي من لندن:
ولاء سعيد السامرائي
غيب الموت في ليلة 26-27 من شباط الماضي السفير ستيفان هيسل عن عمر يناهز 95 عاما في بيته في الدائرة الرابعة عشرة في باريس. هيسل المقاوم والمناضل والدبلوماسي المشارك بكتابة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو صاحب أشهر كتاب !indignez-vous أغضبوا !
نشر عام 2010 ، وعبرت أصداؤه الى الحدود الأوروبية لتشكل نواة احتجاجية لعدة حركات سلمية بنفس الاسم خاصة في اسبانيا وفرنسا والبرتغال. في الوقت الذي لقي هذا الكتاب صدى واسعا في فرنسا، واجهته وسائل الأعلام الفرنسية وبعض من يحتكرها بالعداء والنقد والتجريح وخاصة من أبواق إسرائيل التي تفرض رؤية أحادية للاحتلال الصهيوني في فلسطين لا تسمح بتجاوز خطوطها.فمن هو ستيفان هيسل ؟ وماذا كتب في ‘اغضبوا!’ لكي يعاديه هذا الأعلام ؟
ولد هيسل في برلين في عائلة برجوازية تعمل في النشر والترجمة تربطها علاقات صداقة بمشاهير أدباء وفناني بداية القرن الماضي منهم مان راي ومارسيل دوشامب وفيليب سوبولت وكالدر وبيكاسو وماكس ارنست وبرتون. والدته هي بطلة رواية جول وجيم للكاتب هنري بيار روشيه نقلها للشاشة فرانسوا تروفو وقامت بالدور جين مورو . هاجرت عائلته الى فرنسا وله سبع سنوات ودرس في اشهر مدرسة باريسية وهي المدرسة الألزاسية بعدها درس العلوم السياسية كما حصل على ليسانس في الفلسفة ونجح في اجتياز المدرسة العليا ـ نورمال-. كما حصل على الجنسية الفرنسية في نفس العام .
في خريف عام 1939 التحق بالجيش وشهد مع وحدته العسكرية هزيمة الجيش الفرنسي امام القوات الألمانية ليجد نفسه اسيرا ضمن اكثر من مليون اسير فرنسي في بداية هذه الحرب لكنه أستطاع الهرب مع صديق له حدثه عن دعوة الجنرال شارل ديغول لمقاومة الاحتلال الألماني. وعندما سنحت له الفرصة غادر هيسل الى لندن ملتحقا بصفوف المقاومة الفرنسية التي تكونت في العاصمة البريطانية فتعلم الطيران فيها الى جانب العديد من الشباب الفرنسي عسكريين ومدنيين لكنه اختير فيما بعد ليكون ضابط اتصال مع الجيش البريطاني للعمليات في فرنسا التي وصل اليها لتوزيع ادوات الأتصال. وقد أوقفه الغستابو اثر وشايه وأرسل الى معسكر الاعتقال في بوكينفالد مع عدد من المقاومين والعسكريين.تمكن من الهرب والتحق بالقوات الأمريكية في هانوفر التي بعثت به الى باريس.
دخل بعد نهاية الحرب للعمل في وزارة الخارجية وطلب ان يعمل في الأمم المتحدة بسبب وجود زوجته فيها وعائلتها.واختير في لجنة كتابة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهو شاهد على توقيع هذا الإعلان في باريس عام 1948. تعرف هيسل على القارة الأفريقيه كموظف للتحضير لإنشاء مكاتب المنظمة العالمية للصحة OMC . ومن ثم عمل في مكتب رئيس الوزراء منديس فرانس عام 1954 وذهب في مهمة الى فيتنام وعمل دبلوماسيا في الجزائر وفي عهد الرئيس بومبيدو عمل مديرا مساعدا لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية وعينه الرئيس جيسكار ديستان سفيرا في الأمم المتحدة في جنيف وكان همه الأساسي التأثير على قرارات منظمات الأمم المتحدة بخصوص تنمية الدول الفقيرة.ومع وصول الحزب الاشتراكي الى الحكم عام 1982 منح هيسل لقب سفير وعمل مع كلود شيسون وزير الخارجية الفرنسي المعروف بعلاقاته الطيبة مع ملفات الشرق الأوسط.وكلفه الحزب الأشتراكي بكتابة تقرير عن مشاكل المهاجرين وهو من اقترح مبكرا دمجهم في المجتمع الفرنسي، كما كلف بكتابة تقرير عن العلاقات الفرنسية مع الدول النامية داعيا الى سياسة رصينة بعيدة عن المصالح الضيقة.وقد اختير هيسل عام 1993 ممثلا لفرنسا في المؤتمر العالمي للأمم المتحدة الخاص بحقوق الإنسان المعقود في فيينا.
بقي ستيفان هيسل ذلك الموظف والإنسان المحب لعمله مع الناس وللناس بعد تقاعده بل بالعكس فقد تفرغ للقضايا السياسية أكثر وأكثر ولقضايا المجتمع الفرنسي خاصة الأزمة الاقتصادية التي احتلت مكانا مهما من كتابه اغضبوا. وأهتم بمسألة العمال المهاجرين والدفاع عن حقوقهم منذ التسعينات وقد لقي تدخله لمعالجة مشكلة العمال الذين لا يملكون أوراقا رسمية للإقامة في فرنسا شهرة كبيرة خاصة لتضامنه معهم في اعتصامهم في بعض كنائس المدن الفرنسية بصحبة بعض مشاهير الممثلين والرسميين. لم ينل السفير ستيفان هيسل أي نقد على التزامه بهذه القضايا الإنسانية بل ان الإشادة به وبما يقوم لم تتوقف الا حينما بدأ بالاهتمام بالقضية الفلسطينية وبالذهاب الى غزة ولقائه بالفلسطينيين وأخيرا كتابه المانيفست أغضبوا الذي أغضب وأخرج البعض عن صوابهم ووضعهم في حالة هيستريا لا مثيل لها يشهد عليها برامج التلفزيون والإذاعة وتصريحات مجلس المنظمات اليهودية والجمعيات المتطرفة الصهيونية التي تعج الساحة الباريسية بأفعالها المتطرفة. لماذا اغضب هذا الكتاب 28 صفحة بالحجم الصغير وبثمن 3 يورو المثقفين والمفكرين الصهاينة في فرنسا ومن حولهم الى هذه الدرجة ؟
صدر الكتاب بعد سنوات من حكم نيكولا ساركوزي الذي وعد اللوبي الصهيوني Le Crif بمنع الأعلام الفرنسي عن الكلام عن القضية الفلسطينية وكل ما يجري في فلسطين ويفسح المجال أكثر واكثر للصوت الصهيوني المتعجرف والعنصري للكلام عن الإرهاب الإسلامي ولوكه ليل نهار وكل وصفة هي صالحة لتوضع فيه. وقد نفذ ساركوزي هذه المطالب وأجتثت الأصوات الصحفية الفرنسية المعروفة بالموضوعية عن ملف الشرق الأوسط ومنع إرسال الصحفيين الى المنطقة لتغطية الأحداث ومنها الحرب على غزة التي أثارت نقمة عددا من الصحفيين في بعض القنوات المعروفة وقولهم بالعمل في فرنسا بمعيارين فيما يخص القضية الفلسطينية وقننت اللقاءات مع أي شخصية فلسطينية بضمنها السيدة ليلى شهيد السفيرة السابقة لفلسطين في فرنسا والمحبوبة من النخب الفرنسية وأحزابها اليسارية. المفاجأة غير السارة لصهاينة الاعلام الفرنسي والتي لطمت وجوههم بالحقيقة المرة التي يحاولون بشتى الطرق خنقها وتشويهها بكل الوسائل جاءت مع كتاب اغضبوا لستيفان هيسل وشرائه من قبل الفرنسيين -مثل الخبز- على حد تعبيرهم. شهدت المكتبات الفرنسية اقبالا استثنائيا عليه وخاصة في أعياد الميلاد فالأهل يشترون عدة نسخ لتقديمه لأولادهم هدية العيد والبعض يشتريه ليقدمه هديه لصديقه او صديقته او والده.هكذا باعت المكتبات ما يزيد على ثلاثة ملايين نسخة. واضطر الاعلام للكلام عنه وعن الظاهرة مرة مشوها صورة هيسل وأخرى منتقدا اياه حتى ان احد الأبواق النسائية من حلقة ليفي وفينكيلكروت نعتت الكاتب بالخرف في آخر عمره ولم تتركه مواقع هذه الجماعات ولا صحافتها ليصبح الإجماع الصهيوني هدفا لتسقيطه وتسخيف كتابه واهانة ذكاء الشعب الفرنسي الذي تنفس بصدور مثل هذا الكتاب الذي يفضح البنوك ودورها في الأزمة الاقتصادية وفي تدمير طبقات من الشعوب الأوربية الغنية بلدانها. فطالب ستيفان هيسل بالعدالة وحل أزمة الديون غير الشرعية التي تعيشها أوربا وبالأخص بلدان مثل اسبانيا واليونان والبرتغال. وقد دعا في هذا المانيفست الشباب خصوصا لينهضوا ويصرخوا ويغصبوا لما يحاك حولهم قائلا انظروا حولكم وستجدوا عشرات القضايا التي تدعو الانسان لتبنيها والعمل من اجل الدفاع عنها.جاء كتاب اغضبوا ليحرك الماء الراكد الذي يسود عموما في أوربا وبالذات في فرنسا لتحويل الأنظار عن المشاكل الحقيقية وعن سرقات كبريات البنوك للأموال السيادية التي تبرع بها رؤساء حكومات الدول للبنوك مجانا كما حرك وبقوة الفرنسيين الذين يناصرون القضية الفلسطينية والمناهضين للاحتلال الصهيوني فقد خصص ستيفان هيسل نصف المانيفست للكلام عن القضية الفلسطينية وعن الظلم الذي لحق بالشعب الفلسطيني وعن الجرائم في الحرب ضد غزة التي سماها بجرائم حرب يستطيع بسهولة من خلال تجربته وعمله الحكم عليها بهذا التوصيف الذي ترفضه أوربا وحكوماتها وحث قادة الكيان الصهيوني على الحلول السلمية وتقاسم الدولة حقنا لدماء الأبرياء قائلا ان الشعب الفلسطيني لن يستسلم وله الحق فهذه هي أرضه ووطنه وبأن’الأمم المتحدة قد أعطت قسما من فلسطين لأنشاء دولة في 1948 لليهود عندما قسمت فلسطين واليوم يحاول الإسرائيليون الاستحواذ على كل ارض فلسطين. يقول هيسل انه كان في مقر الأمم المتحدة عندما تقرر التقسيم وقد فرحت لأنني كنت مصدقا للشعار الصهيوني -ارض بلا شعب لشعب بلا ارض- واتذكر ان صديقا دبلوماسيا من غواتيمالا قال لي أن هذا القرار خطأ فادحا فهم يعطون ارض العرب لغرباء عن الأرض. ولم تثنه محاولات المنظمات الصهيونية التي أرادت إرهابه من الاستمرار بنصرة القضية الفلسطينية والكلام عنها كمحاولة كتابة الشتائم والاتهامات على جدران بيته فقد كتب مقدمة لكتاب عن غزة لشاب فرنسي عاش في غزة خلال الحرب عليها وشارك بعدة نقاشات حول زياراته المتعددة لفلسطين ولقائه بقادة حماس وبسكان غزة وأطفالها ووقف بوجه وزيرة الدفاع السابقة ميشيل أليو ماري التي قررت معاقبة كل من يشجع على مقاطعة’البضائع الصهيونية من المستوطنات وكتب مع دومينيك فيدال نائب رئيس تحرير ‘اللوموند ديبلوماتيك’ رسالة يشجب فيها هذا القرار والتضييق على حرية الرأي كما احتج على منع مديرة احدى المدارس العليا ENSالتي برمجت ندوة حول المقاطعة للكيان الصهيوني، والغتها في اللحظة الأخيرة بسبب ضغوط اللوبي الإعلامي نفسه عليها وقد أتخذ عدد من الصحف مثل ميدا بارت والفيلسوف آلان باديو وجاك رانسيير وايستر بن بسه’مواقف ضد الإرهاب الفكري لمجلس المنظمات اليهودية الذي يمنع كل رأي لا ينسجم معه حول فلسطين. وقد ردت منظمة جنراسيون فلسطين بتنظيم نقاش في الهواء الطلق مع هيسل والمشاركين الآخرين ونظمت أيضا تجمعا للاحتجاج على منع عقد المؤتمر.ان شعبية ستيفان هيسل بين الشباب هي ما أغضب اللوبي الصهيوني فقد ولدت تجمعات ونواة لحركات سلمية في كل المدن الفرنسية وحتى الأوربية دعاها الى عدم التنازل عن الحقوق وعلق رئيس المجلس اليهودي على نجاح هذا الكتيب قائلا أنا مرعوب من نجاح هذه الوريقات غير المهضومة للغضب. وتعليقا على وفاته قال لقد كان معلما بغير تفكير. وقد تلقى الفرنسيون هذه التصريحات بغضب واستهجان ودعت منظمات وشخصيات الى تكريمه الجمعة الماضية والى التجمع في الباستيل كما كتب خمسة نواب من الحزب الاشتراكي لرئيس الجمهورية فرانسوا هولاند يطلبون منه تشييعا وطنيا وطلب نواب آخرون ومؤرخون وكتاب وأحزاب وضع جثمانه في مقبرة العظماء البانتيون.
ستيفان هيسل هو مثل استثنائي لنخبة فرنسية ترفض الخضوع للابتزاز الصهيوني بجريمة اللاسامية. مانيفست اغضبوا هز الحصار المفروض في فرنسا على الكلام عن القضية الفلسطينية وزعزعه لأن كاتبه يضم قلبا لشاعر محب للشعر وللحياة وما رسالة المقاومة التي دعا لها الا شريعة هذه الحياة وشريعة الوجود.
‘ كاتبة من العراق