«الموت لأميركا»
أفاق الرئيس الأميركي جيمي كارتر من نومه في منتجع كامب ديفيد بعدما تلقى اتصالاً عاجلاً عند الرابعة والنصف فجراً. كان أكثر من ثلاثة آلاف من الطلبة الإيرانيين قد اقتحموا السفارة الأميركية في طهران في الرابع من تشرين الثاني 1979، وقاموا باحتجاز ستة وستين أميركياً بعدما انتزعوا أسلحة عناصر «المارينز» الموكلين بحراسة مبنى السفارة. حادَث كارتر كلاً من مستشار الأمن القومي زبيغنيو بريجينسكي العائد لتوه من الجزائر ووزير الدفاع سايروس فانس. لكن أياً منهما لم يظهر قلقاً غير عادي، بل أعربا عن اعتقادهما بأن الموضوع قابل للحل سريعاً، فعاد الرئيس الأميركي إلى سريره. قيل إن كارتر لم ينم منذ تلك الليلة ملء جفنيه، حتى نهاية ولايته في العشرين من كانون الثاني/يناير 1981.
خارج أسوار السفارة الأميركية في طهران، كانت الحشود هائجة. تحول شعار «الموت لأميركا» إلى أحد عناوين الثورة ضد الشاه محمد رضا بهلوي وراعيته واشنطن. أصدر الطلبة في السفارة بياناً أعلنوا فيه أنهم من أنصار الإمام الخميني وقالوا إنهم «احتلوا وكر التجسس احتجاجاً على دعم أميركا للشاه»، واستخدموا في بيانهم عبارات تتصل بأبعاد الإقليم والعالم، فأجملوا فيه عداءهم لكل من «الإمبرياليين» و«الصهاينة»، موضحين علاقة الاثنين بأجهزة «السافاك» التي سفكت دماء آلاف الناشطين السياسيين والنقابيين على مدى سنوات.
ولم يكن تاريخ البلاد غائباً عن أذهان هؤلاء لدى صياغتهم موقفاً من «الغرب» بأي حال من الأحوال، بل إن دور وكالة المخابرات المركزية الأميركية (السي آي إيه) وجهاز (الإم آي 6) البريطاني، في المساعدة على قلب حكومة محمد مصدق «الوطنية» العام 1953، كان حاضراً في وعي قسم كبير منهم. كما أن مأثرة السطو الغربي على نفط إيران على مدار العقود الماضية لم تفارق خطابهم التالي للثورة.
وقد خيضت مفاوضات إطلاق الرهائن الأميركيين على مدى شهور طويلة، وتخللتها تعقيدات ومنعطفات ارتبطت بالعمل على مقايضة واشنطن بتقديم مساعدات لإيران في حربها ضد العراق. كما وظفت المفاوضات للتأثير على مسار الانتخابات الرئاسية الأميركية من أجل تسهيل صفقة في هذا الإطار. إذ لم تمر ساعات على تبوء رونالد ريغان منصب الرئاسة خلفاً لكارتر الذي أثرت الأزمة على شعبيته، حتى أطلق سراح اثنين وخمسين رهينة بعد أربعمئة وأربعة وأربعين يوماً من الاحتجاز (كان قد أفرج عن أربعة عشر من العدد الأصلي مطلع الأزمة، وهم النساء والأميركيون من أصول أفريقية وأحد المرضى).
برغم ذلك، فإن طي الصفحة لم يكن قد حان بعد.
بعد أيام من الذكرى الرابعة والثلاثين لاحتلال السفارة، توصلت طهران إلى أول اتفاق من نوعه مع «الغرب» قضى برفع جزئي للعقوبات التي أطلق مسلسلها الحدث المذكور. أرّخت «مفاوضات جنيف» لمرحلة جديدة من العلاقات بين اللاعب الإقليمي العنيد برغم الاستنزاف، ودول تراوح خطابها حيال هذا اللاعب بين مرونة وتشدد، منذ إعلانه امتلاك أجهزة طرد مركزي تسمح له باستيلاد طاقة نووية.
تحول شعار «الموت لأميركا» إلى مادة جدل داخل إيران نفسها، وطال الجدل معنى الشعار ومدى اتساقه مع الظرف الراهن. وعاشت البلاد إثر ذلك، وما زالت، فصلاً «شيزوفرينياً» غريباً يشبه التحولات الكبرى. وقد ظهر الأمر جلياً في خطاب المرشد الأعلى علي خامنئي أمام عشرات الآلاف من عناصر ميليشيا «الباسيج» قبيل «مفاوضات جنيف»، والذي أشار فيه إلى الرغبة ببناء «علاقات ودية مع كل أمم العالم بما فيها الولايات المتحدة»، في الوقت الذي كانت فيه حناجر الآلاف تصدح بـ«الموت لأميركا».
وحصل هذا بعدما أثار كلامُ كبير براغماتيي السياسة الإيرانية هاشمي رفسنجاني زوبعة في الصدد عينه، إثر قوله في مذكراته التي نشرت على موقعه الخاص إن الخميني نفسه أراد التخلي عن الشعار في الثمانينيات، فما كان من رموز المحافظين إلا أن ردوا عليه بتغليطه وتأكيد تمسكهم بترداد العبارة تزامناً مع المحادثات النووية.
ووصل «التضارب» إلى حد إصدار «الحرس الثوري» بياناً يؤكد فيه أن «الشعار يعكس مقاومة الأمة الإيرانية ضد الهيمنة الأميركية»، في الوقت الذي كانت فيه الحكومة تزيل لوحات تحمل عبارات عدائية تجاه الولايات المتحدة من شوارع طهران. كما ظهر مع تسويق المرجع الأعلى «مفاوضات جنيف» واحتوائه معارضيها المحليين، توازياً مع رعايته تظاهرة أحيت ذكرى اقتحام السفارة وفاضت في الحجم عما سبقها على مدى أعوام.
وعلى الأرجح أن الثنائيات المذكورة تتراوح بين سجال طبيعي و«تضارب» مقصود. فلناحية السجال، ثمة تحول يستدعيه على اعتبار أنه يطال مفردات قامت عليها رؤى ومؤسسات حاكمة منذ عقود. ولجهة «التضارب»، فهو يعبر عن سياسة متقنة يقصد منها الإبقاء على التعبئة أثناء سلوك مفاوضات غير مضمونة.
غير أن للازدواجيات هذه دلالة أعمق من أن تشرحها الظروف الراهنة بمفردها. ولا بد لهذه الدلالة أن تظهر مع توضيح علاقة طهران بالغرب. ومع توضيح هذه العلاقة، يصبح شعار «الموت لأميركا» مطواعاً لإعادة تعريف ضرورية، قد يليها تعديل في الاستخدام أو تقليص فيه أو سحب متدرج من القاموس، على غرار ما حصل مع الاتحاد السوفياتي الذي ناله الشعار نفسه لمرحلة معتبرة من الثورة (رغم الاختلاف الكبير بين الحالتين).
بيد أن توضيح الشعار أو إعادة تعريفه (تمهيداً لسحبه) يقومان على مسألتين متوازيتين. أولاهما الحاجة إلى فصل السياسي فيه عن الثقافي، بحيث يزول الالتباس حيال المقصود بـ«الموت»: أهي سياسة خارجية عدائية للإدارات الأميركية المتعاقبة أم بلاد (وثقافة) بأسرها؟ ثم ينسحب الأمر بعد ذلك على سائر «الغرب»، تحديداً اللصيق منه بواشنطن. ولا صعوبة هنا في فك الالتباس، فالرئيس الإيراني نفسه خريج جامعة «غربية». وهو، كغيره من النافذين، يدركون أن الانفتاح لا يعني ذوباناً ثقافياً حتى يخشى من تبعاته. أما ثانية المسألتين، فتلك الخاصة بتحديد عناصر الربح والخسارة في التسوية المفترضة. فإذا ما ثبّتت التسوية مصالح إيران وحلفائها في المنطقة من دون أن تفرض عليهم تنازلاً مكلفاً، عُدَّ الأمر مكسباً بعمومه. ولا يكون حينها الحفاظ على استقلالية القرار الوطني في مقابل تخفيف لهجة استفزاز الخصوم خسارة. وفي هذا سوء فهم لكثير من العرب المتابعين لمسار المفاوضات والمعلقين عليها برطانة ديماغوجية. لكن هذا يحتاج إلى بحث آخر.
ربيع بركات – صحيفة السفير اللبنانية