المصالحة السورية التركية.. هل نعيش أوهاماً؟
صحيفة الوطن السورية-
د. بسام أبو عبد الله:
لم أتوقف، ولن أتوقف عن الاستمرار في إعادة التأكيد على أهمية المصالحة السورية التركية في تغيير المعادلة السورية، وإعطاء الأمل لشعبنا في المستقبل، وتثمير صموده عبر نتائج تؤكد صحة الخيارات التي وقفنا معها، وصبرنا من أجلها، وأما أولئك الذين عولوا على قوى إقليمية ودولية، وعلى خطاب أحمق مغلق، عبثي، طوال اثني عشر عاماً، فقد بدأ الدوار يصيب رؤوسهم لأنهم لم يقرؤوا التحولات التي جرت في الإقليم والعالم، وفي الداخل التركي، واعتقدوا أن العالم سيأتي بجيوشه الجرارة كي يُجلسهم على كرسي الحكم في سورية مقابل بيع الأول والآخر بما في ذلك القيم والمبادئ والعباد والبلاد.
لكي يفهم هؤلاء عن ماذا أتحدث سأقدم نقاطاً مهمة كتب عنها كبار الكتاب والصحفيين الأتراك خلال هذا الأسبوع بعد لقاء وزراء الدفاع السوري والروسي والتركي في موسكو، وعرضها الصديق محمد نور الدين في صحيفة الأخبار اللبنانية أمس الأربعاء، وهي:
– الأساس في التحول التركي أن هناك حدوداً لقدرات الدولة التركية.
– أحد أكبر الأخطاء هو ممارسة السياسة الخارجية على أساس طائفي أو عرقي أو أيديولوجي أو شخصي أو عاطفي، وانعكاس ذلك في الداخل التركي. وأضيف أن هذا ما سمي بمذهب السياسة الخارجية لصاحبها أحمد داود أوغلو، وجماعات الإخوان المسلمين، والقاعدة وأمثالها، تنفيذاً لمشروع الشرق الأوسط الكبير.
– يؤكد الكتّاب الأتراك خطأ الوثوق والاعتماد على الولايات المتحدة الأميركية، والاعتقاد أنها ستفوز دائماً تحت أي ظرف، وأقول إن الاعتقاد نفسه كان لدى بعض من سموا أنفسهم معارضة سورية، وما زال!
– الخطأ الكبير الآخر الذي أشار إليه بعض الكتاب هو الاستخفاف بالرئيس الأسد، والعيش بوهم إسقاطه مع الدولة السورية خلال شهور، أو سنوات، وأضيف لهم أنهم لم يفهموا أن الرئيس لديه قاعدة اجتماعية وازنة، ويقود حزباً كبيراً، ولديه جيش عقائدي وملتزم بحماية البلاد، إضافة لحلفاء أقوياء، كما أن أحد الكتاب أشار إلى فشل النظر للدول والمجتمعات في الشرق الأوسط بعين طائفية، وأضيف أن هذه العين هي عين أميركية إنكليزية صهيونية يجب فقؤها نهائياً، لأن التحليل على هذا الأساس كان خاطئاً وكارثياً، ويجب الانتهاء منه مستقبلاً.
– الفوائد من المصالحة مع سورية ليست سياسية ودبلوماسية وإستراتيجية وأمنية، لكن اقتصادية أيضاً.
– ستبذل واشنطن كل جهودها لعرقلة مسار المصالحة هذا، وستحاول ضربه من داخل تركيا، ومن خلال دعم الإرهاب، لذلك لابد من الانتباه لذلك.
– وحده أحمد داود أوغلو الذي وقف علناً ضد هذا المسار سواء بتصريحاته العلنية، أو ما تعكسه صحيفة «قرار» المقربة منه، التي رأت أن المسار معقد، إذ ماذا ستقول تركيا للاجئين السوريين، وكيف ستحل مشكلة قسد؟ وبرأي الصحيفة في المحصلة «الأسد يربح»، وأما الكاتب اليساري في صحيفة «جمهورييت» محمد علي غولر فقد رأى أن «الأسد انتصر- والأطلسية خسرت»، وهذه المقاربات تعكس بوضوح الفرق بين من كان يرى أن مشروع الحرب على سورية أطلسي، وكانت حكومة أردوغان جزءاً منه، وبين من يرى مثل داود أوغلو، أن المشروع المذهبي مشروعه، وبالتالي فما يحصل هزيمة له، ولمن يدور في هذا الفلك، وفي كل الأحوال هناك إقرار بهزيمة المشروع.
هذه هي الأجواء داخل تركيا التي يمكنني القول بثقة عالية إن أغلبية شعبية كبيرة تؤيد مسار المصالحة السورية التركية، ولهذا نلاحظ تسارعاً كبيراً في الأحداث واللقاءات قبل الانتخابات المقررة في 18 حزيران 2023، والتي قد يُقدم موعدها إلى شهر أيار 2023، أي إن ما يفصلنا عنها حوالي خمسة أشهر فقط.
إذا انتقلت الآن إلى الساحة السورية لأحاول تقديم نبض الرأي العام السوري تجاه ما يحصل، وكذلك رأي النُخب السورية، يمكنني هنا أن أشير إلى ما يلي:
– هناك رأي يعكسه البعض مفاده أننا نعيش أوهاماً، وأن تركيا أردوغان لن تغير سياساتها، وما يتم الآن ليس سوى تكتيك انتخابي سرعان ما سوف ينقلبون عليه بعد فوزهم بالانتخابات، لكن أصحاب هذا الرأي لا يقدمون لنا حلولاً ومخارج أخرى، أي إذا افترضنا أن الأتراك يكذبون ويراوغون، ماذا يجب علينا أن نفعل؟ أي خيارات متاحة لنا؟ والحقيقة أنه لا جواب لدى هؤلاء حتى الآن، لأن طروحاتهم أقرب للتنظير على صدقها دون حلول عملية.
– أما الرأي الآخر وأنا منهم، والذي يحظى بدعم صامت من كتلة وازنة في المجتمع السوري فإنه يستند إلى ما يلي:
– إن التحول في الموقف التركي جدي واستراتيجي، يستند إلى مراجعات أجرتها المؤسستان الأمنية والعسكرية منذ أكثر من عامين، يفيد بأن الاستمرار بالسياسات القديمة أصبح مكلفاً وعبئاً على تركيا.
– إن ائتلاف أحزاب المعارضة التركية والذي يضم أحمد داود أوغلو للتذكير أطلق تصريحات إيجابية كثيرة تجاه سورية، لكنه يلقى دعماً أميركياً بريطانياً واضحاً، ومواقف أبرز زعمائه معادية وليست إيجابية تجاه حلفائنا الروس والإيرانيين والصينيين وغيرهم، كما أن هذا الائتلاف لم يطلق أي موقف واضح تجاه الاحتلال الأميركي لجزء من الأراضي السورية، ومشروع «قسد» الانفصالي، وبالتالي فإنه يبيعنا سمكاً في الماء، ونحن نتعاطى مع من هو قادر على تحقيق مصالحنا الوطنية بغض النظر عمن يحكم تركيا، وأرى أن الخيار مع أردوغان أفضل من معارضيه بالرغم أن هذا الكلام قد يبدو ثقيلاً على الكثيرين في سورية، أما الجديد هنا فإن ما يجري من مفاوضات يتم مع الدولة العميقة في تركيا، والتي اضطر أردوغان أن يسير معها، وخاصة بعد محاولة الانقلاب عليه في تموز 2016.
– أهمية دور حلفاء سورية أي روسيا، وإيران اللذين يدفعان بقوة لإنجاز هذه المصالحة، ليس حرصاً على مصالحهما فقط، بل لأن الاستقرار في سورية مفيد لكل الأطراف.
– ملف اللاجئين الذي أصبح ملفاً ثقيل الظل على الداخل التركي، ولابد من إيجاد الحل له.
– ملف غاز شرق المتوسط الذي يحتاج مستقبلاً إلى تعاون سوري- تركي- روسي وهذا ملف مهم جداً.
– مشروع «قسد» الانفصالي الذي ثبت بشكل واضح أنه يستهدف الأمن القومي السوري، والتركي والإيراني، وأن الولايات المتحدة مستمرة بدعمه، وتسليحه.
– موضوع الجماعات الإرهابية المسلحة التي دعمتها أنقرة لسنوات طويلة، لكنها لا يمكن أن تبقى في الجغرافيا السورية كالسرطان الذي يهدد بالانتشار والفوضى، وفي الوقت نفسه لا يقدم أمناً واستقراراً على الحدود المشتركة السورية التركية، بل هو عامل فوضى واقتتال داخلي مستمر.
– المزاج الشعبي التركي عامة الذي يريد فتح البوابة السورية التي شكّل إغلاقها قتلاً لآلاف شركات الترانزيت، وفرص العمل، والمعادلة هنا: دون الأمن والاستقرار لا إمكانية لازدهار اقتصادي، ونمو، وتنمية، بل ستبقى الفوضى مستمرة، والمصلحة هنا ليست للشعبين والبلدين، وإنما مصلحة أميركية إسرائيلية في استمرار هذا الواقع.
الآن إذا استعرضنا مجمل هذه الآراء التركية والسورية، ويهمني هنا السورية منها لأطرح مجموعة من الأسئلة:
* هل نحن بحاجة للبحث عن مخارج، وفرص جديدة تغير واقع الستاتيكو القائم، وتخلق معادلات جديدة؟
** جوابي نعم، نحن بحاجة لذلك، وعلينا العمل من أجل كسر الواقع القائم.
* إذا استمر الواقع القائم دون تغيير في المعادلة هل سينتج وضعاً أكثر خطورة على أمننا، ووحدة بلادنا؟
** جوابي نعم، لأن الولايات المتحدة تريد الاستمرار باللعب على التناقضات السورية التركية، لفرض واقع انفصالي، وكلما تأخرنا زادت المخاطر علينا.
* من القوى التي تقف ضد المصالحة التركية السورية، وهل نخدم مصالحها، أم مصالحنا؟
** جوابي من الطبيعي أن نخدم مصالحنا، وهذه القوى هي: أميركا، إسرائيل، قوى الإرهاب، القوى الانفصالية، فصائل المرتزقة السوريين، وردود أفعالها تكشف لنا مدى انزعاجها، إذاً نحن نسير بالاتجاه الصحيح، طالما أن خصومنا منزعجون، ويكادون ينفجرون غضباً.
* سؤال آخر: هل نستفيد نحن وحدنا من هذا التقارب مع تركيا؟
** جوابي: بالطبع لا، لأن المصلحة المشتركة هي التي تحرك العلاقات بين الدول، نحن سنتنفس اقتصادياً أكثر، وتركيا كذلك، وهناك مصالح روسية وإيرانية.
* السؤال الأخير: هل الطريق معبدة بالورود ضمن إطار هذا المسار دون منغصات واختلافات؟
** جوابي بالطبع لا، لأننا نتحدث عن 12 عاماً من الصراع والحرب وتذليل العقبات، والقضايا بين دمشق وأنقرة ليس عملاً سهلاً أبداً، وهو عمل معقد وصعب، لكن ما حصل هو عملية كسر الجليد بين البلدين، والأهم أن الحلول لا تأتي بالتصريحات، إنما بالجلوس حول طاولة الحوار والمفاوضات، ومطالب دمشق واضحة ومنطقية، وعليها إجماع وطني، لكنها تحتاج للتحضير الجيد، وفرق المفاوضات المحترفة القادرة على التعاطي مع مختلف السيناريوهات، بما في ذلك السيئ منها.
من يعتقد أن أحداً ما يعيش أوهاماً مع تركيا فهو مخطئ، فالتحول جدي، وحاجة لنا ولتركيا ولروسيا وإيران والصين وإن أردتم كوريا الديمقراطية، والعالم واضح لكل ذي بصر وبصيرة أنه يتحول بسرعة كبيرة، علينا أن نستثمر الفرص المتاحة لنا كما غيرنا، وتركيا التي تعرفونها قبل أحد عشر عاماً، كما العالم، ليست تركيا الجديدة التي نتحدث عنها، بالطبع الحذر واجب، لكن السوريين وقيادتهم يتقنون لعبة الشطرنج الكبرى، ولولا ذلك، كيف واجهوا هذه الحرب الشيطانية المجرمة على بلادهم؟ من حقكم الحذر، لكن ثقوا بمن يدير دفة السفينة لأنه يواجه واقعاً صعباً ومعقداً، ودورنا أن نساهم معه في مواجهة هذا الواقع الصعب عبر طرح الحلول، وليس بإغلاق البوابات والتنظير.