المشرقية والقومية العربية… تناقض أم تكامل؟
صحيفة الأخبار اللبنانية ـ
عبد الله بن عمارة:
استطاعت فكرة المشرقية أن تقتحم حقل السجال الفكري والسياسي في الساحة الثقافية المشرقية، بل والعربية عموماً، طارحة أسئلة تقع في صميم الإشكالات التي من خلالها بدأت تتأطر ضمن بنية فكرية تتشكل معها أسس معرفية جديدة لبديل نهضوي واعد، لذا كان من الطبيعي أن تثير بعض هذه الإشكالات المعرفية أسئلة لدى البعض، وخصوصاً ما تعلق بماهية البنية الفكرية الناظمة لمفهوم المشرقية وعلاقتها بالقومية العربية كمشروع طامح إلى توحيد العرب ونهضتهم في إطار دولة – أمة؟
أو هل يشكل المشروع المشرقي نقيضاً للمشروع القومي العربي أم إطاراً فكرياً مكملاً له؟ طرحت فكرة المشروع المشرقي بأدبيات مختلفة قبل بضع سنوات، إلا أن الأحداث في سوريا هي التي أعطتها دينامية جديدة للتموضع ضمن نسق فكري يستمد قوته من الواقع التاريخي الذي قوامه حجم التفاعلات والتداخلات بين مكونات هذا الفضاء الجيوسياسي المشرقي، ومركزية سوريا ضمنه، ولأن أسس هذا المشروع الفكرية ما زالت في إطار التشكل محاولة طرح رؤية شاملة تستند إلى المضامين السياسية كما السوسيولوجية والتاريخية والاقتصادية الناظمة لهذا المشروع، فإن الأسئلة التي تطرحها بعض التيارات القومية العربية تدفع بكل منظري المشروع المشرقي، إلى التسريع في محاولة مقاربة هذه التساؤلات بموضوعية، من طريق فتح الساحة الثقافية العربية أمام نقاشات سياسية وفكرية من أجل الوصول إلى تبيان الكثير من نقاط الالتباس، من بينها اعتبار المشروع المشرقي نواة لمشروع «انفصالي» عن الفضاء العام المشكل للأمة العربية، بما يمهد لفصل مشرق هذه الأمة عن باقي أجزائها، والارتياب من العلاقة الاستراتيجة التي رسختها الأحداث بين سوريا كمركز لهذا المشرق وإيران، واعتبار المشرقية إطاراً فكرياً جامعاً لأعداء العروبة من هويات فرعية إثنية أو دينية.
لا جدال في حقيقة الرابطة القومية بين العرب المستندة إلى مشتركات اللغة والتاريخ والمصير، والتي تجعل من القومية العربية أساساً موضوعياً لانتظامهم ضمن مشروع دولة – أمة، لكن الواقع يؤكد وجود فضاءات جيوسياسية ضمن الفضاء الأوسع للأمة العربية تجمعها من الخصوصيات – اللغوية والثقافية والتاريخية والحضارية – ما يميزها عن غيرها. كما في شأن المغرب العربي مثلاً الذي يشكل «إقليماً» مميزاً بحكم وحدته السيوسيو – ثقافية المتعلقة بتقارب اللهجات والتاريخ والتكوين الإثني المشكل من الثنائية العربية – الأمازيغية، تماماً كما تشكل دول الخليج بما تملكه من خصوصيات، فضاءً جيوسياسياً واحداً، فيما تعتبر مصر بذاتها فضاء جيوسياسياً خاصاً. وبالتالي فليس غريباً الحديث عن المشرق كفضاء جيوسياسي واحد مكون من سوريا الطبيعية – بلاد الشام – والعراق، مع كل ما يملكه هذا الفضاء من روابط حضارية وتاريخية رسختها الأحداث في سوريا الآن من جهة ومن «ريادية» في صيرورة المشروع النهضوي العربي من جهة أخرى. إن الثقافة العربية باعتبارها العامل المؤسس للوحدة العربية والرافد الجوهري للنهضة العربية، عرفت انبعاثها وتطورها على يد نخبة سوريا الطبيعية – بلاد الشام – من خلال تحديث اللغة العربية وآدابها وتطوير الصحافة؛ فالمضمون المعرفي لمشروع النهضة العربية تأسس بنيوياً من داخل نسق البيئة السورية الطبيعية، بحيث إننا نستطيع الجزم بأن كل المباحث المفصلية للخطاب الفكري للنهضة العربية كالعلاقة بين العروبة والإسلام وتحرير الإنسان والاستقلال والوحدة والعلمانية… إلخ تشكلت ضمن هذه البيئة. كذلك أن الإطار الابستيمي (وفق تعبير ميشال فوكو) للمشروع القومي العربي كإطار جامع يطمح إلى وحدة الأمة العربية ونهضتها نبع من نفس هذا الفضاء السوري؛ فسوريا هي منبع الفكرة القومية العربية، وفي بيئتها تشكلت البنية الفكرية والمعرفية للحركة القومية العربية بكل تلويناتها الإيديولوجية، سواء تلك المتماهية مع حركات الإصلاح الإسلامية التي بدأت كرد فعل طامح إلى التحرر من السيطرة العثمانية الطورانية، أو التي تشكلت ضمن إطار علماني – حداثي تبنته نخب من
المسيحيين المشرقيين. فسوريا باعتبارها مركزاً لهذا المشرق وقطباً محورياً للأمة العربية ورائدة للنسق التحرري الاستقلالي فيها بحكم صدامها الحتمي مع المشروع الاستعماري – الذي لم يكتفِ بتقسيمها إلى أربعة كيانات بل تعداه إلى خلق كيان توسعي عنصري في قلبها – لا يمكن أن تشكل رافداً لأي مشروع ذي نزعة انعزالية يتقاطع مصلحياً مع المشروع الأميركي والصهيوني، الذي يشكل تقسيم المنطقة على أسس طائفية وإثنية عاملاً مؤسساً فيه؛ فالمشروع المشرقي الذي ينطلق من محورية سوريا يتناقض بنيوياً مع مشاريع الانعزال التي استندت إلى استحضار الخصوصيات الحضارية والإثنية، وتأطيرها إيديولوجياً لتبرير التموضع في هويات جزئية مناقضة للانتماء العربي، كما في لبنان مع بعض القوى المسيحية أو في التيارات التي حاولت تبني طرح الانتماء الفينيقي أو الكنعاني أو الفرعوني في أكثر من بلد عربي في النصف الأول من القرن الماضي. ذلك أن جوهر الطرح المشرقي هو وحدوي بالأساس ضمن هوية مشرقية جامعة معادية لأي نزوع طائفي وغير منفصلة عن الانتماء العربي الحضاري الذي يعطي للعروبة مفهوماً حضارياً ثقافياً جامعاً يستوعب الاختلاف ضمن أطر غير الغائية لأي مكون إثني ضمن هذا المشرق. وهذا في حد ذاته النقيض الجوهري للمشروع الاستعماري القائم على إبراز الهويات الجزئية وتشجيعها على تأكيد كيانيتها لتبرير الوجود الصهيوني، كذلك فإن مركزية سوريا في الصراع مع المشروع الصهيوني جعلت منها الحامل الرئيسي لعبء هذا الصراع الوجودي والعامل المحوري في إقامة التحالفات والتخندق مع أي مشروع استقلالي معادٍ للمشروع الصهيوني والأميركي الداعم له. وهذه هي فلسفة تحالف الدولة الوطنية السورية مع إيران التي بدورها تنتظم في إطار مشروع وحدوي، بمفهوم الهوية الجامعة التي تجمع خمس قوميات، لا بالمفهوم القومي الضيق الذي يروج له من بعض الأوساط القومية التي ما زالت تنهل من «تراث قادسية القرن العشرين»، والتي لم تتمكن إلى الآن من الانخراط في عملية نقد ذاتي ومراجعة فكرية تخترق الجدران الدوغمائية التي أحاطت ببنيتها الفكرية، كانت ستوصلها حتماً إلى صوابية رؤية الرئيس حافظ الأسد الاستراتيجية في تحالفه مع إيران من موقعه القومي العربي الحقيقي المشبع برؤية مشرقية، تعي مركزية سوريا في المشرق وموقعها الريادي العربي في قلب الصراع مع المشروع الصهيوني، في مقابل مغامرات كارثية تعيد إنتاج نفسها من مواقع «قومية عربية» أخرى.
إن المشروع القومي العربي الذي تشكل قضايا الوحدة العربية والصراع مع إسرائيل والنهضة عناصر رئيسية في بنيته المعرفية والسياسية هو حتماً سيرى في معركة سوريا اليوم بمركزيتها في المشرق وبمحوريتها في قلب الأمة العربية، معركة العرب الكبرى ضد قوى الاستعمار وأدواته الوظيفية الرجعية والصهيونية. المعركة التي في ضوء نتائجها سينبعث المشروع المشرقي الجديد الذي يؤسس للمشروع النهضوي النموذجي لكل الفضاءات الجيوسياسية العربية الأخرى في مصر، التي تعيش حراكاً قد يشكل إرهاصاً لقيام بديل تحرري قومي نهضوي، أو في الخليج الذي يمكن بعض قواه التحررية أن تطيح الهيمنة الوهابية عليه أو في المغرب العربي الذي يعيش أحلام النهضة والوحدة. المضمون الجوهري لهذا النموذج هو التحرر من التبعية للإمبريالية، ومشاريعها التقسيمية المعادية للدول الوطنية والداعمة للهويات الجزئية، وإطلاق المشروع التنموي المستقل عن منظومتها النيوليبرالية والانتصار الحاسم على الصهيونية وكيانها المصطنع. إن مشروعاً نموذجياً بهذه الأهداف هو بالتأكيد مشروع مكمل لمشروع الوحدة والنهضة العربية، وليس نقيضاً له.
* كاتب جزائري