المسار السوري- التركي ما بعد الانتخابات
صحيفة الوطن السورية-
د. بسام أبو عبد الله:
انتظر كثيرون نتائج الانتخابات الرئاسية التركية التي لم تُحسم في جولتها الأولى، واحتاجت إلى جولة ثانية كي يتقرر من يكون رئيساً لتركيا في السنوات الخمس القادمة حتى عام ٢٠٢٨، ولا شك أن الانتظار لم يكن داخلياً فقط، بل إقليمياً ودولياً، لأن هذه الانتخابات كانت أيضاً تعبيراً وانعكاساً للخيارات في السياسة الخارجية التركية.
حُسِم الأمر الآن، وفاز الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان لولاية ثانية وأخيرة، وهذا يعني أن لذلك تداعيات وانعكاسات، لابد من الحديث عنها بوضوح شديد، والإجابة عن التساؤلات التي ما تزال مثار جدل في الشارع السوري، وبين النُخب السورية التي تتفق في أغلبيتها على أن الانسحاب التركي من الأراضي السورية المحتلة لن يتم، وأنه لدى تركيا نزعة توسعية، وستناور لتأجيل الانسحاب قدر ما تستطيع، وهي وجهة نظر لابد من أخذها بالحسبان واحترامها، لكن مشكلتها أنها تقدم توصيفاً للواقع من دون طرح للحلول ضمن الإمكانات المتاحة، والبيئة الداخلية، والإقليمية والدولية المعقدة التي لا تسير وفق العواطف والمشاعر، وإنما وفق المصالح والقيم المشتركة، وانطلاقاً من هذا سأتناول جوانب تمثل خلاصات أولية عامة عن الانتخابات التركية:
أولاً: الداخل التركي: عكست الانتخابات التركية انقساماً عمودياً داخل المجتمع التركي، بين اتجاهات فكرية عدة، وسياسية، واثنية، وخيارات كبرى:
أ- الاتجاه الأول: مثله الحزب الحاكم «العدالة والتنمية»، مع حلفائه، ويضم تياراً محافظاً دينياً إسلامياً، يصب أصواته خلف أردوغان خشية من عودة العلمانيين للسلطة، ففي ذاكرة هؤلاء التطبيق المتعسف لمفهوم العلمانية الذي حرمهم لسنوات طويلة من ممارسة طقوسهم الدينية، ومعتقداتهم الإيمانية ومشاركتهم بالسلطة، وهو أمر استمر لعقود من الزمن، ما اضطر زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كيليتشدار أوغلو للاعتذار من المحجبات، وتقديم الوعود لهن بإجراء تعديل دستوري يضمن عدم العودة للماضي، إضافة للخطابات التي حاولت استعادة الثقة لدى الاتجاه المحافظ المتدين والقومي، ومع هذا التيار هناك تيار قومي متشدد يمثله حزب الحركة القومية بزعامة دولت بهتشلي الذي هو جزء من التحالف الحاكم، و«الحزب الجيد» بزعامة ميرال آقشنير التي هي جزءٌ من المعارضة بسبب خلافاتها مع بهتشلي وانشقاقها عنه قبل سنوات، مع وجود اتهامات لها بعلاقات خفية مع فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة.
هنا من الواضح أن الاتجاهين الديني المحافظ، والقومي المتطرف، يشكلان تياراً يحظى بدعم أكثر من 60 بالمئة من المجتمع التركي، وهذه النسبة عكستها نتائج الانتخابات.
ب- الاتجاه الثاني: لا يمكن تسميته بالعلماني لأن تركيبة المعارضة كانت من مشارب فكرية، وسياسية، ومجتمعية مختلفة، ففيها حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي العلماني الذي تراجع كثيراً عن مقارباته التاريخية، واخترق من أطراف عديدة، ويجري العمل لتفريغه من محتواه، ليتحول إلى شكل دون مضمون، كما أن قياداته أعادت النظر في المقاربات العلمانية المتشددة، وبدأت تدرك صعود الاتجاهين المحافظ المتدين، والقومي في الشارع التركي، فعملت على مخاطبة هذين الاتجاهين وطمأنتهما، حيث أشرت أعلاه إلى مقاربة كيليتشدار أوغلو تجاه مسألة الحجاب، والتحالف مع أوميت أوزداغ في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية وهو شخصية قومية متطرفة معادية للاجئين.
علاوة على ذلك ضم تحالف المعارضة ثلاث شخصيات من التيار الديني المحافظ: أحمد داوود أوغلو، علي بابا جان، وتمل كارامو لله أوغلو، إضافة للصوت الكردي الذي دعم زعيم المعارضة بشكل واضح للغاية من خلال حزب «الشعوب الديمقراطي» الذي أخذ اسم «حزب اليسار الأخضر»، وتشكيلات يسارية وماركسية أخرى، أي هو خليط علماني، يساري، قومي، ديني محافظ، ضمن إطار هذين الاتجاهين تمحور الصراع في الانتخابات التركية، لكن التنافس كان أيضاً بين توجهات خارجية واضحة:
الأول: يمثله الحزب الحاكم وحلفاؤه، ويرى أن مسيرة التقارب مع الاتحاد الأوروبي لن تؤدي لأي نتيجة بعد أن جرب هذا المسار ما بين 2002- 2010، وأن القيم الاجتماعية التي يريد الأوروبيين فرضها على تركيا تتناقض مع قيم المجتمع التركي، ومنها «المثلية الجنسية»، وقضايا الأسرة والمرأة، وغيرها الكثير، ولذلك لابد لتركيا من أن تأخذ دورها الإقليمي والعالمي بناءً على مصالحها القومية، وهو ما بدا واضحاً بتطوير العلاقات مع روسيا، إيران، الصين، والعديد من دول العالم، وفي الوقت نفسه ارتكبت هذه السياسة الخارجية أخطاء فادحة حينما اعتقدت أنه يمكنها السيطرة على سورية عبر الإخوان المسلمين، وعلى ليبيا، وهي تدخلات انعكست وبالاً على تركيا، وعلى الشعوب والدول التي تدخلت بها.
ومع ذلك فإن الغرب أبدى انزعاجه من توجهات تركيا الجديدة، وهو ما بدا واضحاً في دعمه للمعارضة التركية، بينما وقفت روسيا خلف الرئيس التركي الحالي بقوة، ووضوح لأسباب ترتبط بقناعاتها أن أردوغان هو الخيار الأفضل خلال السنوات القادمة.
الثاني: مثلته بوضوح المعارضة التركية بمختلف اتجاهاتها وهو العودة لسياسة التغريب والأوربة، والابتعاد عن روسيا، والصين، وإيران، أي إبقاء العلاقات المصلحية دون اعتبارها خيارات مستقبلية لتركيا، أي العودة للسياسات التي بدأها الحزب الحاكم 2002، مع تعزيز العلاقات بقوة مع الناتو، والالتزامات بسياساته بما في ذلك الالتزام بالعقوبات ضد روسيا، وإيران وغير ذلك من قضايا، والحقيقة كنا قد فصّلنا في البرنامج السياسي للمعارضة في مقالات سابقة أيضاً، أي أن المعارضة كانت خياراً أميركياً أوروبياً واضحاً.
المسار السوري- التركي إلى أين؟
1- خلال المرحلة التي سبقت الانتخابات شهد هذا المسار تحريكاً له من خلال الاجتماعات الثلاثية التي بدأت سورية- روسية- تركية، ثم انضمت إيران لتصبح رباعية، لكن ماذا حققت هذه الاجتماعات:
– لقاءين على مستوى وزراء الدفاع ورؤساء أجهزة الاستخبارات، يفترض أنها شكلت لجان عسكرية- أمنية للعمل الميداني على الأرض، لكن لا معلومات على مستوى التقدم الذي أحرزته هذه اللجان، وإن كنت أميل إلى أن طبيعة هذا العمل تتطلب السرية بعيداً عن الإعلام.
– اللقاء الرباعي بين معاوني وزراء الخارجية تلاه بعد فترة في العاشر من أيار الماضي لقاء بين وزراء الخارجية مع مصافحة بين فيصل المقداد ومولود تشاووش أوغلو، وصورة مشتركة، وهذا اللقاء على ما يبدو كان الحل الوسط السوري للإصرار الروسي على تقديم خدمة لأردوغان قبل الانتخابات التركية الرئاسية- البرلمانية.
– أما القمة بين الرئيسين بشار الأسد وأردوغان فقد روج لها الجانب التركي كجزء من الاستخدام الانتخابي، لكنها كما يبدو غير واردة في المدى المنظور، قبل تحقيق تقدم ملموس للانسحاب التركي من الأراضي السورية المحتلة.
2- الآن ما هي الملفات المطروحة على طاولة التفاوض:
1- ملف اللاجئين: وهو الأكثر إلحاحاً بالنسبة لتركيا، حيث تحدث أردوغان عن خطة لإسكان مليون سوري بدعم قطري في مناطق في الشمال السوري، وهذه الخطة تبدو طويلة الأمد وبطيئة، وهدفها طمأنة الشارع التركي، ليتابع تشاووش أوغلو حديثه عن أن إعادة اللاجئين ستتم أيضاً لمناطق سيطرة الدولة السورية.
هذا الملف معقد، ولا يمكن حله بالخطابات، ويحتاج إلى تعاون مباشر بين الحكومتين، والأجهزة المختصة، كما يحتاج وهذا الأهم، لتمويل كبير لتهيئة المناطق المتضررة في الحرب، وهذا أمر تعارضه الولايات المتحدة، والغرب عموماً، وتريد إبقاء ورقة اللاجئين بيدها ريثما تحصل على ثمن لها، ولتجاوز المعارضة الغربية يمكن للتمويل الخليجي أن يساعد في هذا المجال من خلال مشاريع الإنعاش المبكر التي يدعمها مجلس الأمن الدولي في قراراته.
2- ملف الانسحاب من الأراضي السورية المحتلة:
دمشق تؤكد على أن التطبيع مع تركيا لن يتم أبداً دون برنامج زمني واضح للانسحاب مع ضمانات روسية- إيرانية، وترى أن أنقرة تماطل في هذا الأمر، وقد كذبت سابقاً على الرئيس بوتين بتعهدات عام 2018 بالانسحاب من طريق «إم4»، وقد تكون هذه الخطوة هي المؤشر الأول الذي تنتظره دمشق لتأكيد حسن النيات من قبل تركيا.
أما أنقرة فتعتبر أن وجود قواتها هو لمكافحة الإرهاب الذي تراه في ميليشيات «قسد» وتنظيم «ب ك ك»، والدعم الأميركي له المعلن والمباشر، وتطالب دمشق بالتعاون ضد «قسد» كخطر أول على البلدين، وتقول إنها لن تنسحب طالما أن هذا الملف لم يحل.
3- ملف مكافحة الإرهاب: هناك نقطة اتفاق بين البلدين تتمثل في أن بيان وزراء الدفاع أكد على محاربة إرهاب التنظيمات كافة، ونقطة الاختلاف تتمثل بأن أولوية تركيا «قسد»، بينما أولوية دمشق هو إدلب، وتنظيمات القاعدة التي ما تزال تركيا تدعمها، وتستخدمها حتى الآن.
4- النقاط المتفق عليها: تشكيل لجنة تضم نواب وزراء الخارجية، ومسؤولين من الدفاع والاستخبارات، مع الشريكين الروسي والإيراني لإعداد خريطة طريق لتطبيع العلاقات بين البلدين.
هنا دمشق ما تزال مصرة على موقفها بأنه لا تطبيع من دون خطوة انسحاب تركية، ووقف دعم الإرهاب، وعدم التدخل بالشؤون الداخلية السورية.
5- الآن ما هو مصير هذا المسار:
اعتقادي أن هذا المسار سوف يستمر بالعمل خاصة مع نشوء عامل جديد ستأخذه تركيا بالاعتبار، وهو عودة سورية لجامعة الدول العربية، وتطور العلاقات السورية- السعودية، إضافة لإدراك أنقرة كما أدرك غيرها أن مقاربات إسقاط النظام السياسي، وغير ذلك أصبحت من الماضي، وهناك حاجة للطرفين لبعضهما بعضاً مما يفترض الجلوس حول طاولة المفاوضات بوجود ضمانات روسية- وإيرانية ملزمة، وخاصة أن التأخر بحل هذه الملفات سيفرض واقعاً أصعب على البلدين، فتركيا مأزومة اقتصادياً، وهي أمام تحديات كبيرة، وتحتاج سورية كبوابة أساسية للوصول إلى الخليج، والمناورة على الطريقة القديمة لن تفيد، وسلوك طريق الخطوة- خطوة مهم هنا مع انعدام الثقة الكبير الذي فرضته سياسات تركيا المتهورة، والخاطئة خلال العقد الماضي، وطمأنة دمشق بخطوات انسحاب تركي، وتفعيل غرف العمليات المشتركة قد تكون هي الخطوة الأولى في هذا المسار المعقد والصعب.