المديونية والشلل الأميركي في ميزان السياسة الخارجية والإقتصاد: مخاطر أقل من الكارثة
مكتب واشنطن في “الميادين” يتابع تفاعلات الأزمة المالية في أسبوعها الثاني، ويستنتج في هذا التقرير أنّه عندما يتقاسم الحزبان الكونغرس والبيت الابيض تطفو على السطح مسألة سقف الاقتراض كوسيلة ضغط ضد البيت الابيض الرافض لها.
تدخل المواجهة السياسية بين الرئيس اوباما والحزب الجمهوري أسبوعها الثاني، وتيرة اللقاءات المتسارعة بينهما تنعش الآمال رويداً لتخبو سريعاً بتمترس الطرفين، وتستمر حالة الشلل في أداء الأجهزة الحكومية المختلفة.
ومع قدوم الأسبوع المقبل تدخل الأزمة مرحلة حاسمة بعيدة عن الإستقطابات والتحالفات، إذ سيبلغ حجم الانفاقات الحكومية أعلى سقف له في ظل عدم توّفر تشريع يخوّل الحكومة الإقتراض مجدداً.
وتتلخّص المبادرة التي عرضها الحزب الجمهوري للالتفاف حول الأزمة في سن تشريع مؤقت يخوّل السلطة التنفيذية رفع سقف الإقتراض المالي، يستمر لعشية “عيد الشكر” الشهر المقبل.
وينذر تشبث الطرفين، حتى اللحظة، بإخفاق الولايات المتحدة عن الوفاء بالتزاماتها العالمية وما سيرافقه من تداعيات على المستوى الدولي.
وتقتضي الحكمة والمهارة والحنكة السياسية بذل ما يلزم لتفادي السقوط من حافة الهاوية المالية، بيد أن ضغوط الأقلية في الجناح الأشد محافظة في الحزب الجمهوري، “حزب الشاي”، لا زالت تراوح مكانها بعدم تقديم تنازلات تعين الرئيس اوباما على تخطي الأزمة الإقتصادية.
تجدر الاشارة إلى تبلور إرهاصات وحراك جديد لقوى ومصالح يمثلها تقليدياً الحزب الجمهوري، أساطين رأس المال في “وول ستريت”، لتوبيخ الأقلية المعطلّة للنزول عن الشجرة العالية، مدركة تضرّر استثماراتها ومصالحها بوتيرة سريعة إن لم تحسم الأزمة.
أما في الشق المالي الصرف، فمن المستبعد للحكومة ترك الأمور تجري على عواهنها، خاصة مع تفاقم تردي الأوضاع وتخلّف الدولة عن الوفاء بالتزاماتها وديونها المترتبة (الفائدة على الديون، والسندات المالية)؛ والتي ينبغي الفصل بينها وبين المستحقات الأخرى الدورية العائدة لجيش من المتعاقدين ومؤسسات المشتريات والخدمات للحكومة ومتلقي المساعدات الاجتماعية، وكل منهم على حدة سيتعرض لأزمة مالية حقيقية لكنها لن تصعد لمستوى أزمة العجز عن الوفاء بالإلتزامات المركزية.
ومن الناحية العملية، في ظل غياب اتفاق بين السلطتين، التنفيذية والتشريعية، برفع سقف الإقتراض، لا يتوقع أن يؤدي ذلك إلى اخفاق الدولة عن الوفاء بالتزاماتها بصورة تلقائية، بل يشكّل ضغطاً اضافياً عليها بضرورة التصدي الفوري لتقليص العجز العام. يذكر أن نسبة الاقتراض تبلغ نحو 40% من مجموع الانفاق الحكومي.
ولتوضيح النتيجة القائلة بعدم بلوغ الحكومة حافة الهاوية، فإن فائدة القروض الشهرية المستحقة تبلغ نحو 25 مليار دولار، بالتزامن مع استحقاقات أكبر حجماً بلغت نحو 95 مليار دولار لعام 2012 تم تسديدها.
بديهياً، مدخول وزارة المالية تتراوح قيمته بين شهر وآخر، إذّ من المتوّقع أن تحصل الخزينة على رفد مالي بحجم 175 مليار دولار الشهر الجاري، وأقلّ منه قليلاً للشهر المقبل، ونحو 250 ملياراً في شهر كانون الأول / ديسمبر، استناداً إلى المعطيات الراهنة.
أمّا حسابياً، فيتم رفد الميزانية بنحو 7 أضعاف ما تنفقه الدولة لتسديد فوائد قروض الدين العام؛ مما يعززّ الفرضية بعدم حتمية تخلفها عن الوفاء بالتزاماتها المالية في المدى المنظور. كما بوسع الدولة تأجيل الإقتراض شريطة عدم تجاوز السقف الحالي المرسوم.
وتبرز إحدى تجليات الأزمة في البعد الدستوري للإقتراض الحكومي، إذّ ان السلطة التنفيذية لديها مدخّرات كافية في وزارة المالية تحول دون اقترابها من الأزمة، كما تنص المادة الرابعة من التعديل الدستوري الرابع عشر والذي جاء فيها “صلاحية الدين العام للولايات المتحدة، المخول قانونياً .. لا ينبغي مساءلته”. النص الكامل لمسألة الإقتراض يضمن وفاء الدولة لمستحقات الديون وليس بوسع الرئيس أوباما تجاهل النص الدستوري خشية تقديمه للمحاكمة.
ومن ضمن البرامج الحكومية المستحقة والضاغطة زمنياً برنامج الرعاية الإجتماعية، الذي ينبغي تسديد استحقاقاته الهائلة في الأول من الشهر المقبل، وهو البرنامج عينه الذي عقد الحزب الجمهوري العزم على تقليصه وربما ترحيله كلياً في ظل مناخ تزايد اعداد المتقاعدين سنوياً.
من حق الرئيس اوباما اختيار عدم الوفاء بالتزامات البرنامج، دستورياً، بيد من شبه المؤكد انه سيتعرض لأمر قضائي لصرف المبالغ المستحقة. في ظل غياب اتفاق يلوح في الأفق، سيتعرّض الطرفان لضغط كبير لتقليص حجم الانفاق في برامج حكومية اخرى، مع تشبث كل فريق بـ “بقرته الحلوب”.
أمّا عن تسيّيس سقف الاقتراض، فليس بالأمر الجديد أو الطارىء. فقد برز بقوة إبّان عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان في معركة الطرفين للعضّ على الأصابع بغية إرغام الطرف المقابل تقديم تنازلات أساسية، وبعضهم إيديولوجية. وقد شهدت فترة عامي 1985-1987 توّصل الطرفين لتسوية تتيح رفع سقف الاقتراض (الذي طالب به ريغان)، رافقه استخدام كل فريق ما توفر في جعبته من تدابير وثغرات دستورية تضمنّت تهديد الرئيس ريغان باستخدام حق الفيتو، مما أضطر عودتهما لطاولة الحوار.
آنذاك، رمى الحزب الديموقراطي استغلال سقف الإقتراض لفرض علاوات ضرائبية يرافقها تقليص حجم الانفاقات العسكرية. أمّا الرئيس ريغان فقد لجأ لحيلة إصدار قرارات رئاسية ملزمة خولت وزارة المالية “السطو” على مدخرات صندوق الرعاية الإجتماعية كمصدر دخل لتمويل النفقات الحكومية المستحقة. وها هي الأحداث التاريخية تعيد انتاج مواقف مشابهة.
دامت المواجهة آنذاك، وحال الشلل، أربعة أسابيع ونيّف، أتبعها الكونغرس بسنّ تشريع مؤقت (عرفت بإسم الثلاثي: غرام، ردمان، هولينغز) يرضي الطرفين تضمّن اجراءات تقليص الإنفاق الحكومي – مما يعيد إلى الأذهان اسلوب شبيه لخفض حجم الانفاق قبل اشهر معدودة تحت مسمى “حجز” الانفاق.
و تكرر الأمر عينه عام 1986 عقب الانتخابات النصفية التي فاز فيها الحزب الديموقراطي بأغلبية مقاعد مجلس الشيوخ، وهو المسيطر على مجلس النواب. نجاح زعماء الحزب الديموقراطي في جولات المفاوضات المتعددة مع السلطة التنفيذية حفز التوجه للتلويح باستخدام سلاح “سقف الإقتراض” كوسيلة ضغط لتحقيق مآربهم السياسية؛ وتباهى الحزب بانجازاته في رفع معدلات الضرائب وخفض حجم الانفاقات العسكرية.
وعليه، باستطاعة المرء الاستنتاج انه حين يتقاسم الحزبان السيطرة على الكونغرس والبيت الابيض تطفو على السطح مسألة سقف الاقتراض وسيلة ضغط ضد البيت الابيض الرافض لها، بغض النظر عن هوية الرئيس الحزبية. بل بإمكاننا القول إن المسألة أضحت هي المعيار وليس الإستثناء.
الأسواق المالية
سؤال مشروع يطرح نفسة بشدة: هل باستطاعة اسواق المال العالمية استيعاب حقيقة التجاذبات السياسية في واشنطن دون ان تصاب بالذعر؟ فضلا عن أفق شراء الاصول والسندات الاميركية المستمر من قبل الصين واليابان.
الدلائل المتوفرة تشير الى استيعاب تلك الاسواق لحقيقة ما يجري، اذ لو توفرت مشاعر قلق حقيقية لانعكست على الاداء والمعاملات المالية بصورة تلقائية.
حجم الاستثمارات الهائل لكل من الصين واليابان يقودنا للنظر في عواقبها المتشعبة المحتملة. فالصين تعد الطرف المشتري الاكبر لسندات الخزينة الاميركية، اذ بلغ حجم استثماراتها لغاية نهاية شهر تموز الماضي (وهي الفترة الاحدث لتوفر الاحصائيات) بنحو 1.2773 تريليون من الدولارات. يضاف لذلك ما تملكه مقاطعة هونغ كونغ (المستقلة ماليا) من سندات تصل قيمتها الى 120 مليار دولار. بيد ان المحصلة العامة للاستثمارات الصينية في الولايات المتحدة شهدت تراجعا خلال السنتين المنصرمتين بلغ حجمها نحو 37.6 مليار دولار، الامر الذي يدل على تقليص الصين حجم ملكيتها من السندات المالية الاميركية.
أما الاستثمارات اليابانية فقد بلغت زهاء 1.1354 تريليون دولار.
الرقم الهائل للارصدة الصينية واليابانية يشكل جزء فحسب لمستوى الدين الاميركي العام. اذ تشير الاحصائيات المتوفرة لحجم الديون (احدثها لعام 2011) ان المستندات المالية بلغت 33.7 تريليون دولار، او ما يعادل 34.2% من الدين العالمي بأكمله. بالمقابل، بلغت مدخرات الصين من العملات الاجنبية زهاء 3.5 تريليون دولار معظمها سندات مالية، لغاية شهر تموز الماضي.
الدستور الاميركي يلزم الحكومة على تسديد ديونها، وعليه تتضائل حاجة الجهات الدائنة لطرحه في الاسواق الذي لو فعلت سيؤثر سلبا على اقتصادياتها وحجم احتياطها سيشهد تضخما، ولعل قطاع تصدير البضائع للسوق الاميركي سيكون اول ضحايا تلك السياسات، وبالمقابل انتعاش تصدير البضائع الاميركية.
ان اقدمت الصين على بيع كميات هائلة من سندات الخزينة الاميركية سيؤدي ذلك الى ذعر الاسواق المالية، لكن الاسواق العالمية سرعان ما تتغلب على التداعيات. بيع السندات سيدر سيولة مالية بالعملة الاميركية على الصين، التي سيتعين عليها اما شراء اصول ثابتة او تحويل العائدات الى عملات اخرى متعددة، اي سندات مالية باليورو والاسترليني والين الياباني.
اقدام الصين على التعامل بالعملات المذكورة سيؤدي ايضا الى فقدان الدولار الاميركي بعض قيمته امام العملات الاخرى، مما سيوفر المنتجات الاميركية باسعار اقل عما هي مثيلاتها اليابانية والاوروبية. كما سيترك تداعيات وضربة عاجلة بالبضائع الصينية المصدرة للسوق الاميركية.
من الطبيعي ان يلجأ الاوروبيون واليابانيون الى الاقلاع عن شراء عملات مكلفة والتحول لاقتناء عملة الدولار وشراء سندات مدعومة بالدولار لخفض قيمة عملتيهما بعض الشيء مما يتيح فرصة تنافس افضل لتصدير البضائع والمنتجات. آنذاك سيصبح مصير الدين الاميركي العام بيد الدول الاوروبية الصديقة لاميركا.
الحكومة الصينية ليست في وارد اتخاذ تدابير تهدد اقتصاد بلادها سيما وان ميزانيتها تشهد حالة عجز.
وعليه، فان الاجابة على تساؤلات الاخفاق بالوفاء الالتزامات المالية وتداعياتها على الاسواق المالية لا تتعدى ثمة تكهنات، ليس الا.
الشعب الاميركي لا يظهر مشاعر قلق لرفع سقف الاقتراض والدين العام، بل ان الغالبية (لو استطاعت التعبير عن مواقفها) غير راغبة في رؤية مصير سقف الدين عرضة للتسويات والمساومة – حسبما افادت شبكة فوكس نيوز للتلفزة. وقالت ان 58% من الناخبين سيصوتون ضد رفع السقف لو قدر لهم تبادل الادوار مع النواب في الكونغرس، مقابل 37% يؤيدون مزيد من الاقتراض.
كما تميل اغلبية الشعب الاميركي، 62%، الى اتخاذ الحكومة تدابير معينة لتقليص حجم الانفاق عبر دمج صيغة رفع سقف الاقتراض بمواكبة تخفيض الانفاق. التوجه العام الراهن قد لا يخدم الحزب الديموقراطي المسيطر على مجلس الشيوخ اسوة مع الرئيس اوباما، سيما وان نسبة 48% من القاعدة الانتخابية للحزب الديموقراطي تدعم صيغة ربط رفع سقف الاقتراض مع تقليص الانفاق.
تداعيات شلل الحكومة على السياسة الخارجية الاميركية
تجسدت اولى التداعيات في اعلان الرئيس اوباما الغاء جولته الاسيوية الاسبوع المنصرم نظرا للاوضاع الحرجة التي تمر بها الحكومة الاميركية.
وسارع البيت الابيض لترسيخ التأثير السلبي لشلل الاجهزة الحكومية على السياسة الخارجية برمتها، واوضح الناطق باسم البيت الابيض، جاي كارني، ان “الاغلاق كان الاجدر تفاديه بالكامل اذ اضحى يقوض قدرتنا على ايجاد فرص عمل عبر ترويج الصادرات الاميركية وتعزيز زعامة الولايات المتحدة ومصالحها في اوسع منطقة نامية في العالم.”
اعلنت الادارة الاميركية مبكرا عن نيتها الاستدارة بالاولويات الاستراتيجية نحو الدول الاسيوية في عملية تنافس على النفوذ مع الصين في المنطقة. الرئيس الصيني، زي جينبينغ، دشن جولته الاقليمية بزيارة رسمية لاندونيسيا وماليزيا وبروناي؛ الرئيس الروسي حضر قمة دول التعاون الاقتصادي في آسيا والمحيط الهاديء، التي تخلف عنها الرئيس الاميركي. وقد سرت شائعات بان القمة ستشهد لقاءات ثنائية بين الرئيسين بوتين واوباما لبحث سبل التوصل الى حل الازمة السورية.
طبيعة العلاقات الدولية تتخطى آفاق ثمة لقاءات بين الزعماء الكبار لوضع ترتيبات للقاءات مقبلة. حقيقة الامر ان اللقاء الذي جمع الرئيس الصيني بنظيره الروسي كان ثمرة جهود وترتيبات استمرت بضعة أشهر بين الطواقم المختلفة. فاللقاء يقصد به مصادقة الزعيمين على مفاوضات تم ترتيبها مسبقا. تجدر الاشارة الى استخفاف الرئيس الاميركي اوباما وعدم ابداء حرصه على اغتنام فرصة لقاء الرئيس بوتين في الدول الاسكندنافية قبل بضعة اشهر.
طبيعة السياسة الخارجية الدولية في العصر الراهن، المثقل بالاجهزة البيروقراطية ووسائل الاتصال الفورية، تلغي الترتيبات التقليدية السابقة المستندة الى لقاء الرؤساء الكبار للتوصل الى اتفاقيات لم يجر التفاهم بشأنها مسبقا. اي ان اللقاءات الرئاسية اصبحت مسألة رمزية عوضا عن لقاءات ذات مغزى. اذ تقتضي الترتيبات المسبقة الى التوصل للموافقة على صيغة الاتفاقات الثنائية المنوي الاعلان عنها، والتي سيعلن عنها بهدوء في الاسابيع المقبلة.
لا يختلف اثنان على حجم الضرر الذي اصاب مكانة الرئيس اوباء جراء تخلفه عن لقاء القمة الاسيوية، وحتى خصومه الجمهوريين لن يقدموا على حرمانه الذهاب لآسيا عن سبق اصرار. كان بوسع الرئيس اوباما المضي في جولته المقررة شريطة اعلانه عن استعداده للتفاوض مع خصومه الجمهوريين وكسب ودهم. قرار الالغاء أضر بالعلاقات الشخصية حديثة العهد بين اوباما وكل من الرئيسين الصيني والروسي، على خلفية الرغبة الذاتية لترحيل اسبابه لاجراءات ااشلل في الاجهزة الحكومية.
يذكر ان المناسبة المذكورة هي الثانية التي دفعت الرئيس اوباما لالغاء لقاء مرتقب مع الرئيس بوتين. كما انها ليست المرة الاولى التي يقدم الرئيس اوباما على الغاء زيارة مقررة لآسيا، اذ الغيت عام 2010 “لدواعي الوضع الداخلي،” مما يطرح تساؤلات حول جدية توجهاته في “الاستدارة” نحو آسيا.
المصدر: الميادين